نصيرة تختوخ - بذور للحُب

كان غصن الورد يتمايل أمام نافذتها و هي تغسل وريقات النعناع لتغرقها في كأس الشاي الساخن.
خلف الغُصن بدت البناية الشاهقة بواجهتها الزجاجية و طوابقها الكثيرة.
في كل طابق كان سرب من الموظفين يعمل كالنمل حتى آخر اليوم بينما كانت هي تمارس طقوس الصباحات الهادئة.
دق جرس الباب و أخذ أصابعها الرفيعة من الملعقة الفضية ,التي كانت تحاول إذابة قطعة السكر, لقبضة الباب المستديرة.
لأول وهلة اعتقدت أن خطأ ماوقع و هي لا ترى أحدا على العتبة لكن سرعان ما رأت العجوز تبتعد عن شجيرة الورد و تتقدم نحوها.
سألتها: 'هل بالإمكان أن تعطيني وردة، وردة بجزء من غصنها الطويل كما يبيعها بياعو الأزهار في عيد الحب؟ '
استغربت الطلب و كان بإمكانها أن ترفض وتغلق الباب في وجه العجوز الغريبة لكنها فضلت توفير أي تشويش أوتعكير لوجه صباحها.
من درج الخزانة الخشبية في الممر أخرجت مقص 'البستاني ' كما يسميه ابنها و قدمت الوردة للعجوز.
أخرجت هذه الأخيرة صرة وضعتها في يدها وحين سألتها هي: ما هذا ؟
ردت العجوز باسمة : 'بذور ، بذورٌ للحُب '.
ودعتها و دخلت ،أعادت المقص إلى مكانه و رمت الصرة إلى جانبه.
آخر الأسبوع حين وجدت نفسها لوحدها ، بعد مغادرة ابنها في زيارة لوالده و خروج تلميذتها سارة وهي تلملم كتب تعلم الإيطالية فتحت الدرج .
أمسكت بالصرة تلقائيا واختارت للبذور مكانا في حديقة بيتها الخلفية، كان ركنا تصله الشمس باعتدال ولاتضايقه فروع شجرة التفاح.
شابه مساء ذلك اليوم مساء ات سبتمبر و شدها الحنين على وقع المطر لصوت ابنها الطفولي وصداه الجميل، اتصلت به لتطمئن عليه قبل أن ينام وأحست بسعادته و هو يتحدث عن السمكة التي اصطادها والده و عن سرطان البحر الذي كاد يعضه لكنه ألقى القبض عليه ولازال يحتفظ به في دلوه الصغير.
تحولت الحديقة الخلفية في الأيام القليلة التي تلت إلى حقل لعشب من نوع لم تعهده، عشب تقتلعه فينمو من جديد و بسرعة مذهلة و يملأ الأرجاء.
محبطة حاولت استشارة جارها أبو وسام ، كانت تظن إلى حد قريب أنه خبير بالركن الأخضر فما وقعت عيناها في الحي على حديقة أجمل من حديقة بيته وفعلا أسدى لها النصح إذ وجهها بدوره لمحل مختص في بيع الشتائل و الأسمدة و المبيدات .
اشترت من هناك مادة ظنتها فعالة جدا حسبما ورد في دليل استعمالها. رشتها بعناية فكانت النتيجة أفظع.
بدأت الأزهار والشجيرات التي كلفتها شهورا من الرعاية والاهتمام تذبل واستمر العشب في الانتشار بجنون.
صار المنظر يستفزهاويوقظ عبارة 'بذور للحب ' في ذاكرتها ويشعرها بالسذاجة و الضعف و الإهانة.
اكتأبت و انعكست كآبتها على ابنها دون أن تدرك.
ألح طليقها على مقابلتها خارج البيت ولم تكن لديها أدنى فكرة عما يريد.
صارحها بانشغاله على ابنهما و سألها أن تبوح له ودودا و متوسلا لها.
غلبتها دموعها و هي تصر على أنه لاشيء غير العشب الضار الذي لاتنجح في مقاومته ، قالت نصف الحقيقة وربما أقل فقد تكتمت على حكاية العجوز و على جوابها 'بذور للحب 'وعلى مايصحو من الماضي و يتعبها.
وعدها بأن يحل لها مشكلة العشب الطاغية وحين تجرأت وسألته إن كان عمله يسمح.
رد أنه قد صار الآمر الناهي و أنه يحدد جدول التزاماته بنفسه .
كان عمله الدُّبَ الذي عجزت في الماضي عن مصارعته، كان يأخذه منها و من ابنه وزاد من وحشيته تلك المرأة التي أصبحت تلازمه في العمل وتتفنن في جعله يشتغل أكثر و يكون معها لفترات أطول.
بعد اللقاء صارت تراه كل عشية يقتلع النباتات , يحمل المجرفة تارة ويقود العربة اليدوية الصغيرة مليئة بالتراب إلى الخارج تارة أخرى.
كانت تناديه من حين لآخر كي يأكل معها وابنها وجبة خفيفة أو كي يشرب شيئا ما معا وكان ينظر إليها خلسة أحيانا و هي تهز رأسها وتنظر إلى تلميذتها التي كانت على مايبدو تنطق الإيطالية كما ينطقها الروس.
اصطحبها معه حين جرد الحديقة من معظم تربتها و خضرتها لتختار شجيرات وأزهار جديدة وكانت النتيجة مذهلة حركت بداخلها الرغبة في أن تسقط أسوار 'بستانها' الجديد ليراه كل الجيران و المارة والفضوليين.
كان فخورا بما قدم لكنه حرص على التحلي بتواضع مثير للإعجاب .
على مائدة عشائها الفاخر جلس ثلا ثتهما كما لم يجلسوا منذ زمن بعيد، قام الابن لينهي واجباته وباغت هو انهماكها في جمع الصحون بقوله: أظن أن الوقت قد حان.
تأسفت ، معتقدة أنه فهم جمعها للصحون كإشارة لضرورة انصرافه، قالت بأن الوقت ليس متأخرا حقا.
أجاب بلا وبأن الوقت تأخر فعلا و طال وتمادى وجار, ثم قام, اقترب منها وعيناها تستقبل نظراته بعبرات متمردة, أخرج من جيبه علبة صغيرة حمراء ومنها خاتما و سألها: أتقبلين ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى