فاتن الجابري - هذيان الأسئلة

نسي متى اغتيلت طفولته , لم يعد يفكر بالأسباب سأم من أدوات الاستفهام ، ألف مفردات وإيقاع حياته الجديدة ، حمل كيس الجنفاص وأغلق باب الغرفة الحديدي بحذر ليمنح أخوته ساعات أخر من النوم قبل الذهاب إلى مدارسهم ، عند الباب ودعته أمه وفي عينيها بدت التماعات الدمع ، تقرأ في سرها كل ماحفظته من آيات القران الكريم .
غادر بيته المنزوي في أقصى الحي الغارق بالفقر والإهمال ، بدأ الفجر يشق ظلمة السماء الملبدة بغيمات سود تتحرك ببطأ ، سار في الأزقة المظلمة ، مر بمحاذاة مدرسته الابتدائية ، تلمس سورها الخارجي ، راوده الحنين ليرى أخر صف كان فيه ، ألقى كيسه الفارغ أرضا تسلق السور ، شاهد نوافذ الصف المغلقة تلفها وحشة فضاء المدرسة ، سمع كركرات رفاقه ، حاول القفز إلى باحة المدرسة ، تراجع ، قفز بالاتجاه الاخر ، حمل كيسه وسارع خطاه عد على أصابع يديه الصغيرتين ، كم من السنين لم تطأ قدماه باب المدرسة ، واحدة اثنتان ، ثلاث ، لعن أدوات الاستفهام حين لاحت لعينيه أضواء الشارع الرئيس وقد ضج بحركة السيارات ...في صباح ملبد بغيوم المجهول الذي يحسب له ألف حساب ، لكنه ككل صباح تزود بدعوات وصلوات أمه التي انبتت في روحه سكينة ودعة لبدء يومه ، سلم على رفاقه الذين تجمعوا بانتظار سيارة الحمل الصغيرة البيكب آب التي ستنقلهم إلى موقع العمل بين الحين و الآخر تقف سيارة أجرة بالقرب منهم ، ينتابهم الرعب أن تتتفجر بينهم تشحب وجوههم يتفرقون بذعر ، تأخرت سيارة نقلهم ، ساورته الظنون ، وفكر كيف لو عاد إلى أمه وأخوته كالمرات السابقة خالي الوفاض ، بصق فوق كيف وقد تهلل وجهه بالغبطة ، قافزاً إلى حوض السيارة كقط سعيد مرددا مع رفاقه بعض الأغنيات التي تخفف عليهم طول الطريق وتنسيهم مرارة لم لا ينعمون الآن بالدف في أسرتهم كما أطفال الدنيا ، داعبت خديه النسمات الصباحية الباردة و اخترقت جسده الصغير من أصابع قدميه العارتين وقد أحمرتا و تخشبتا في نعله الاسفنجي الممزق والذي عالجته أمه بتلك الخرقة السوداء التي تسير خلفه كذنب دلفت السيارة في طريق متعرج وقبل أن تنحدر إلى دفة ترابية صفعته رائحة عرفها لكنه لم يعتد عليها وكلما تشتد الرائحة النتنة يوقن أنه اقترب من موقع عمله ، توقفت السيارة قليلاً ثم أقفلت عائدة بعد نزول الصبية .
انتابته نوبات من الدوار والغثيان ، لكنه تحامل على نفسه ، وهو يندس بين تلال القمامة المنتشرة هنا وهناك ، جال ببصره في المكان الذي اختفى رفاقه بنشاط في أرجاءه التي تغص بأكوام الجيف المنبعثة من قمامة اختلطت فيها بقايا المواد العضوية بعلب الصفيح والزجاج المكسور والبلاستيك والأوراق المتطايرة شعر بالوحشة التي تحولت إلى ارتياح كونه وحيداً في تلك البقعة الواسعة ليستأثر بغنائمها ساعياً إلى ملء كيسه بهمة راح ينبش القمامة بعصاه لوقت طويل بلا جدوى بعد عناء أدرك أن دائرة القمامة التي تحيط به خالية تماماً ، أيادٍ أخرى سبقته في تفلية المكان ، توغل في التل المنبوش أكثر وجد نفسه في دهليز من العفونة الخانقة أحس صعوبة المشي فوق تلك الأكداس ، فلتت الخرقة السوداء خرجت قدمه اليمنى من نعله الإسفنجي وشظايا الزجاج المكسور تخترق قدمه الصغيرة وتدميها تعثر بصفيحة ذات حافات مسننة أزاحها عن طريقه مال نحو كومة مرتفعة أزاح عنها خرقا بالية وقذرة لها رائحة نفاذة وخانقة يترنح يقاوم السقوط ، كلما أزاح الخرق وأكوام الصحف القديمة تصدم أنفه تلك الرائحة الغريبة يثبت عصاه في الأرض مقاوماً السقوط مرة أخرى يستجمع قواه ، يغرز عصاه في عمق الكومة التي أثارت فضوله الطفولي يسحبها ويعيدها مرة ثانية تتسع حدقتاه هلعاً وهو يرى العصا مصبوغة بالدماء شرع بالصراخ بصوت ضاع في هول المكان الموحش عصاه مغروزة في جثة رجل مطمورة داخل أكوام هائلة من النفايات ، مقطوعة الرأس كالسعفة اليابسة ، يتمايل رعبا أرخى يديه قذف كيسه الفارغ فوق الجثة سحب عصاه بقوة قبل أن يطير بعيدا من هول عصف قذف به ثم دحرجه مثل كرة ملتهبة وسط انفجار أتى على المكان برمته تناثرت أجزاء القمامة متطايرة نحو الأعلى النيران والحرائق متصاعدة في بقعة نائية , أدرك نهايته قبل أن يفقد وعيه رفع رأسه قليلاً لم يتمكن من الرؤية غرق في لجة الأدخنة السوداء الخانقة حاول الزحف حرك قدميه ، أخفق فقد تشظتا تماماً وانفصلتاعن جسده ، ردد بلا صوت أسماء رفاقه لكنه لايسمع سوى صدى موته مبعثراً في أتون الحرائق ، والمسكون بالآلاف من أدوات الاستفهام بجميع لغات الأرض .



* من مجموعة: سرير البنفسج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى