محمد العرجوني - التناوب...

- دور من، اليوم؟
- دوري أنا!..
- لا!.. أنا!
- لا! سيدتي!.. أنا!..
وتعالت الأصوات من كل الجهات.كل واحد من بين الثلاثين تلميذا يحاول أن يثير انتباه المعلمة، بطريقته الخاصة لإقناعها بأن دوره قد حان. منهم من يقف قرب مقعده، ويكتفي بالنظر إليها كما لو أنه يستنجد بها، محاولا استعطافها بنظراته النائمة المترجية، منهم من يجرؤ ويتقدم نحو المعلمة، رافعا سبابته في وجهها، يكاد لمسها، يصرخ بكل ما أوتي من نفس، بفرنسية يغلب عليها الطابع المحلي: عروبي، تريفيت، تشلحيت، تمزيغت...
- أنا!... أنا!... سيدتي!...
ابتسمت المعلمة كعادتها، وحاولت فرض الهدوء من غير أن تصرخ. كانت تبعد السبابات الموجهة نحو عينيها بكل برودة دم. لكنها سرعان ما تراجعت مع ذاتها، وتركت الهدوء جانبا لأن الضجيج أصبح لا يطاق، ومكتب السيد المدير "أنطونا" غير بعيد، ويمكن أن يقتحم الفصل في أية لحظة، وهي لا تتقبل ذلك. فنقرت بالممسحة على السبورة مرتين، وصرخت بنوع من الحزم والجدية:
- أصمتوا!.. كل واحد يجلس في مكانه!... بدون شغب ولا ضوضاء!.. أنا أعرف دور من... لا داعي للصراخ!...
الكل تراجع إلى الوراء، ومن كان واقفا قرب مقعده، تهاوى بكل ثقله على اللوحات الثلاثة وسقطت الأصابع المضمخة بالحبر البنفسجي وكأن مسطرة العقاب لوحت في الهواء. خيم الصمت، كما لو أن كل واحد أحس بخطورة الموقف. ليس خوفا من السيدة "كولار". كانت إنسانة طيبة، حنونة على تلامذتها. لكنها كانت حازمة في بعض المواقف كهذه. لم تكن تعنفهم ، لكنها كانت تتقمص نوعا من القسوة عندما يتطلب الأمر ذلك. لكن المسطرة التي كانت تلوح بها، أو تنقر بها على جنبات الطاولات، لم تكن لتستعملها كما كان يفعل معلم اللغة العربية. حيث كان ينزل بضرباته على رؤوس الأنامل الصغيرة مجتمعة. وكانت الأظافر تتهشم والأصابع تدمي، وتعلو صيحات الألم التي كانت تهيج رغبة المعلم في التفنن في العقاب. لا. هي كانت تكتفي بنظراتها الزرقاء وصوتها الحاسم. والكل كان يتجمد في مكانه. كأن نظراتها كانت ترسل إشعاعات جليدية، حينما كانت ترغب في الهدوء. كانت لها هبة تجعل من التلاميذ أكثر احترام لها من ذلك المعلم الجزار، كما كان تلاميذ المؤسسة يحلو لهم أن يسمونه. لم يكن التلاميذ خائفين منها، لكنهم كانوا خائفين أن تأخذ أخطر قرار يمسهم مباشرة في مصلحتهم كتلاميذ... خائفين أن تلغي عملية اختيار من يساعدها على حمل "دفاتر اليوم" إلى منزلها...
بعد أن خيم الصمت، راحت تصفف جيدا الدفاتر التي سبق لمسؤول القسم أن جمعها ووضعها فوق مكتبها، وذلك من غير أن تفارق بنظراتها وشوشات من كانوا يجلسون في آخر الصف المحاذي لباب الفصل. وحينما عم الهدوء، أحست بانتصارها، وقررت رفع قدمها على دواسة الفرامل، وإطلاق ابتسامتها لتشرق من جديد. تلألأت أسنانها، وتعلقت عيون التلاميذ بثغرها الجميل وبشفتيها المرسومتين بأحمر الشفاه الداكن. ابتسامة أكدت لهم بالملموس، أن مسألة الإلغاء غير واردة بتاتا. ابتسم الجميع، وشقشقت عصافير الفرح. أصبح من حقهم انتظار إعلان إسم المحظوظ لهذه الصبيحة. وفجأة، صوبت أصبعها نحوه:
- أنت!.. دورك أنت اليوم!..
كل الرؤوس استدارت وكأن أصبع السيدة "كولار" يتحكم فيها من بعيد. كل العيون توجهت صوب المكان الذي يجلس فيه هذا الذي توجه نحوه سهم المحبة والحظ، سهم يتجلى في هذا الضمير المنفصل: "أنت". وقف هذا "الأنت"، مبتسما، منتشيا، وراح يجمع أدواته بداخل محفظته، استعدادا للرحيل. تقدم نحو مكتب المعلمة. كل العيون كانت جاحظة. كل الأفواه كانت فاغرة. تتنهد من الحسرة، ومن قلة الحظ هذا الصباح. يوم آخر بئيس في تعداد غير المحظوظين. حسرة ونوع من الحزن. هل كانت المعلمة قاسية باختيارها لذاك عوض ذاك؟ فهمت نظرات الذين خاب أملهم، وقالت بابتسامتها المعهودة، كما لو أنها أرادت أن تكفر عن ذنب ما اقترفته في حقهم:
- غدا سيكون لنا موعدا آخر... وسيكون الحظ حليف أحد آخر...وحينما نقفل السنة الدراسية، كلكم تكونون قد ساهمتم في حمل الدفاتر مرتين على الأقل... إذن لا تحزنوا...
الكل ردد بصوت واحد:
- تعم، سيدتي!...
دق الجرس.. بدأ التلاميذ يغادرون الفصل في نظام. الصف تلو الصف، بدأ بالصف المحادي للباب. أحاط الأصدقاء ب"الأنت"، بالمحظوظ... وكأن كل واحد أراد أن يتبرك به ويتشبع بحظه عساه يكون من نصيبه في اليوم الموالي. كان "الأنت" يتأهب لحمل الدفاتر. قال له الأصدقاء:
- نحن في انتظارك.. في المكان المعهود! لا تنسانا!..
نطق واحد من بينهم:
- أنا الأول... لا تنس الأمس!...
نطق آخر:
- وأنا الثاني... لا تنس قبل الأمس!...
ونطق الجميع:
- لا تنس!.. كلنا في انتظارك!.. نحن أصدقاؤك!.. لن ننساك حينما يأتي دورنا!...
كان "الأنت" فرحا. أثار اهتمام الجميع. الكل ينظر إليه بنوع من الغيرة والإعجاب... تأبط الدفاتر، والتحق بالمعلمة التي نادت على المجموعة التي كانت تتبرك به كي تغادر الفصل. التحق بها عند باب الحجرة. أغلقت الباب بعد خروج الجميع، ونظرت إلى "الأنت" وقالت:
- هيا بنا!..
كانت تمشي أمامه وكان هو خلفها. كانت عيون الأصدقاء وحتى عيون "الأعداء" تلاحقه. تتبع خطاه. تكاد تسقطه من كثرة النظر إلى حذائيه اللذين كان يلتهمهما الغبار المتطاير حولهما. كان يمشي مزهوا بنفسه رغم ثقل الحمل. يلتفت نحوهم كل ما خطا حطوتين أو أكثر، حتى غاب عن أنظارهم خلف السور الغربي... حينها خرج زملاؤه وهم يركضون نحو باب السور الشرقي. كان عليهم أن يركضوا جاحفين سور المدرسة، وأن يقوموا بدورة كبيرة قبل الالتحاق بالشجرة الوحيدة التي كانت تجمع يوميا من لهم نفس المهمة، شجرة الكاليبتوس ذات الجذع الضخم، والتي استقرت منذ أن غرستها أياد مجهولة، عند ركن السور في الجهة الشمالية. من ثم يمكن لهم الوقوف عسسا على منزل المعلمة. وقفوا منتظرين واللهفة تسيل لعابهم... لم يدم الانتظار طويلا. صرخ أحدهم:
- ها هما قادمين!... اقتربا من باب المنزل... دخلا...
خيم الصمت عليهم. لم يطيقوا ذلك. قال أحدهم موجها كلامه لواحد من بين الإثنين اللذين سبق لهما زيارة منزل المعلمة:
- هل تستطيع أن تتخيله؟ إحك لنا... في انتظاره!
- لا! لا أستطيع... لا أتذكر شيئا مما رأيت! كنت خائفا!...
نطق الثاني من غير أن يطلب منه ذلك، رغبة منه في تقليص زمن الانتظار، أو رغبة في التباهي، أو في التذكر، تذكر تجربة جميلة، ساعدته عليها الأقدار:
- أراه!... أراه!...( الكل حولق حوله) أراه يمشي معكوفا شيئا ما، لأن الحمل ثقيل... هو الآن يتخطى العتبة. يمسح رجليه فوق ممسحة الأرجل... تقف المعلمة مبتسمة لتريه الطريق... احمرت وجنتاه... بدأ العرق يتصبب من جبينه... تغلق الباب... ها...ها... هو يمشي بترو فوق الزليج الناصع... خوفا من الانزلاق... رائحة زكية، طيبة تباغث خياشيمه... يكاد يعطس وتتشتت الدفاتر... يتحكم في عطسته... لم يسبق لأحد منكم أن استنشق مثل تلك الرائحة... آه! لو استنشقتموها مثلي !!.. آه!.. تظهر "كاترين" في الممر. طفلة جميلة. شقراء كأمها، بيضاء كالحليب، لطيفة كالدمية، زرقة عيونها بحر... تجري نحو أمها... وهي تناديها: ماما!... ماما!... تلتقطها الأم كعصفورة.. تحتضنها... تقبلها...تتمتم عبارات ... لا نفهمها...لم نستعملها قط في دروس المحادثة... ربما عبارات المحبة... بلغة أخرى.. ليست كتلك التي نسمعها منها في القسم... تقول لها شيئا ما كهذا: حبيبتي!.. دميتي!.. تنظر الطفلة إلى "الأنت". تبتسم له.ضعهم هنا فوق الطاولة!.. شكرا! تقول له السيدة "كولار".. يضع الدفاتر فوق الطاولة وهو خائف أن تنفلت من بين يديه وتتبعثر... الطاولة موجودة في المطبخ... آه! المطبخ! رائحة المطبخ رائعة! منعشة! تغذي الجوع المعشعش في البطون... مطبخ أنقى من النقاوة! زليج يلمع!... فوق الطاولة... مزهرية... أزهارها تزيد المطبخ رونقا وجمالا!... أزهار، ليست كأزهار الدفلى...بجانبها في الوسط... آه!... ويح عيني! ماذا ترى! سلة ملآنة بالفواكه... تستفز عينيه..
- أي نوع من الفواكه؟ قل!... تذكر جيدا!
- يمكن أن أرى الموز و....البرتقال....والفرولة... وتفاح أحمر!... نعم تفاح أحمر... ضخم...هكذا! (يمثل الإمساك بواحدة بيديه) تأخذ المعلمة تفاحة... تجحظ عينا "الأنت"... يشتاق للمسها... شمها... عضها... يكاد لعابه أن يسقط على الزليج ويسيح... يمتصه بسرعة... تعطيها... ل... "كاترين"... صدم "الأنت"...أحس بخيبة أمل!.. تأخذها بيديها الصغيرتين... حجمها الكبير يفرض على الأم مساعدة دميتها.. تكاد تسقط من يديها... تكاد عيني "الأنت" أن تسقط قبلها لتلتقطها قبل أن تتهشم على الزليج الأبيض، حتى ولو كان أنقى من النقاوة... وتقيها من ورم خبيث ينغص أكلها... أمسكت بها الأم وحطتها بين أنامل "كاترين" من غير أن تثق في قبضتها الصغيرة... و"كاترين" كعادتها، تعطيها لمن ساعد أمها... وتبتسم له، وتقول بصوت ملائكي، حنون: خذ!.. إنها لك!.. يا فرحة "الأنت"!.. يمد يده اليمنى... ترتعش... تنبت في الحين فما متأهب لالتهامها... يمسك بها بيد ملطخة بالمداد البنفسجي... ترتعد أنامله... تكاد تسقط التفاحة... كم هي صعبة المنال!.. يعضها بقوة بأصابعه... خوفا من أن تنزلق من بين أنامله... يطلب النجدة من أنامل اليد اليسرى... يتحكم فيها جيدا... يضمها إليه... يهم بالخروج... تناديه المعلمة:
- ماذا تقول "لكاترين"؟
- !!....
تساعده.
- تقول: شكر...
- آه! شكرا !
ينطقها بسرعة مكورا الراء، وهو يرتجف.
- شكرا، من؟
- شكرا، سيدتي...
- لا!..لا!.. أنا لم أعطك شيئا...بل هي التي أعطتك التفاحة...
تشير بسبابتها لملاكها... ملاكه هو كذلك الذي أهداه تفاحة... ليست تفاحة الشيطان الذي أهداها لحواء.. وهكذا يجد نفسه مقحوما في درس المحادثة...فهل هذا وقت الدرس يا معلمتي؟.. أتركيه يخرج.. إننا في انتظاره.
- شكرا...سي...لا!... عفوا... آنسة!
- طيب!.. لكن ما اسم الآنسة؟
- شكرا آنسة "كاترين"!...
- حسن جدا!.. الآن ماذا تقول وأنت تغادرنا؟..
- أقول.. الوداع!...
تضحك السيدة "كولار" ملء ثغرها...
- لماذا الوداع؟... نقول الوداع حينما نغادر المكان بعيدا... وربما بدون رجعة.. أما نحن فسنلتقي غدا وبعد غد و... إذن ماذا تقول؟ فكر جيدا... سبق أن تطرقنا إلى ذلك أثناء درس في المحادثة..
- آه... أقول بالسلامة...
- جيد!... وماذا تقول كذلك؟... هذا وقت الأكل...
لا يستطيع الجواب... لأننا لا نقول ذلك في منازلنا... ستعلمه كما فعلت معي...
- نقول: شهية طيبة!...
وأية شهية يا سيدتي، وكلنا ينتظرنا إبريق شاي منعنع وخبز شعير حامض!... ولم لا أقول الوداع؟ هل سألتقي بك مرة أخرى بعالمك الجميل؟ لا أعتقد.. نحن كثر، ومتى سيحين دوري ثانية؟.... هكذا أتصوره يتساءل. كل من دخل هنالك يجد نفسه أمام نفس الأسئلة، بنفس الطريقة...
صرخ آخر:
- خرج! خرج!...
انفض الجمع. الكل تحمس بشكل زائد عن اللزوم لمراقبته، خوفا من هروبه. لكن أين المفر. ليس هناك منفذ آخر. المسلك الوحيد هو الذي يؤدي إلى شجرة الكاليبتوس. يستحيل أن يعود من أين أتى، لأن الباب المؤدي إلى داخل المدرسة قد سد، وحتى وإن ظل مفتوحا فإن أعين الحارس السي حمو بمثابة رشاش تمنعه من ولوجها، ويصعب عليه في حالة ما إذا استطاع أن يخادع السي حمو الذي لا ينخدع، قطع الساحة جريا، وزيادة على ذلك، إن استطاع أن يقطعها جريا، سيجد نفسه أمام باب (الباب الشرقية) موصدة. فلهذا،لا يمكنه التوجه إلا نحوهم. ولا يمكنه أن ينعم لوحده بصاحبة الوجنتين المحمرتين. يتابعون خطواته. يشرعون في تعدادها. كم خطوة توصله إليهم؟ يراقبونه من بعيد وهو يغازلها... يقربها من أنفه... يستنشقها... يقربها من شفتيه... آه ! العفريت غرس أسنانه ! كل الأفواه فاغرة... هل سيلتهمها قبل أن يلتحق بهم؟ أسنانهم تلمع كوحوش لحمية في انتظار الضحية... اقترب رغما عن أنفه... الجميع قفز نحوه في وثبة واحدة. أصبح بين أيديهم. يحاصرونه من كل الجهات. يصرخون:
- عضة! عضة!
- مهلا! مهلا! الواحد تلو الآخر!... هاك أنت!
يمسك جيدا التفاحة بين كماشة أصابعه التي تمرنت منذ مغادرته منزل المعلمة، على الإمساك الشديد، مستعينا في ذلك بأثر العضة التي طبع بها التفاحة قبل وصوله إلى الحلبة. لا يسمح لمن حالفه الحظ في الإمساك بيديه وتوجيههما نحو أسنانه إلا باستغلال مساحة صغيرة... مساحة يصعب غرس الأسنان فيها إلا بمشقة. بالكاد استطاع المحظوظ غرس أسنانه القارضة.
- حذار! حذار! ستقرض أصابعي! أح!.. أح!..
يكثر "الأنت" من الصراخ معبرا عن ألمه قصد التهويل، لثني الآخرين عن الهجوم على أنامله التي أصبحت ضحية الأنياب الشرسة.
-.........
-........
تناهشته الأنياب، ولم يتبق بين أصابعه التي عانت الكثير دفاعا عن التفاحة والتي أصبحت فقط "التف.."، سوى ربع تفاحة.!
ثار في وجوههم، وصار يشتمهم:
- أتفو! أتفو! أتركوني! كفى أيها الوحوش!
استطاع أن ينقذ هذا الربع بشجاعة. تحرر من الحصار، وابتعد جريا عن المجموعة. يبدو حزينا شيئا ما. لكن هذه سنة الجماعة... اليوم لك وغدا عليك! يفكر في أخيه الصغير الذي وعده بنصيبه، بعضته. لكن ماذا تبقى بعد أن نهشت العضات المتتالية اللحم الطري لتلك التفاحة اللذيذة؟ يدس الربع الناجي في محفظته... ويهرول رفقة أصحابه نحو حيه... نحو بيته... في حي المنجميين... وهو يلوك المذاق الملتصق بأسنانه... ولازال يلوك ذلك المذاق ... لازال يحتفظ به في أمعائه إلى حدود الساعة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى