قاسم حسن محاجنة - زيارة غير متوقعة.. قصة قصيرة

بدأ بالحديث دون مقدمات ، وكأنه يُحاول إزالة حمل ثقيل عن كاهله:
مرّت ما تزيد على الخمسة وثلاثين عاماً، مُذ رأيتُه آخر مرة.. لا ليس لأن السُبل قد تقطعت بنا ، ولا لهجرة إلى بلاد واق الواق، التي لا توجد بها وسائل إتصال وتواصل . بل لأن الموت غيّبه !! موتٌ سريع وناجز.
وقصة موته يحسده عليها كل من شاهدها وسمع بها.. فقد فاضت روحه وهو يؤدي صلاة الصبح جماعة في مسجد الحي القريب. سجد ولم يقم.. من سجدته تلك ..
-نياله على هالموته (هنيئاً له على هذه الميتة)..!! ردّد المعزون بصدق . فهم يؤمنون بأن الله قد اختاره إلى جواره لورعه وتقواه ، وليبدله خيراً مما هو فيه ..
لم أتمكن من حضور الجنازة ولا المشاركة في تلقي التعازي، فقد كنتُ حينها خارج البلاد، ولم يصلني خبر الوفاة إلّا بعد شهر وأكثر.. حزنتُ كثيرا لفقدانه، رغم أن علاقتنا كانت تشهد هبوطاً وصعودا ..
جاءني الليلة في المنام ، لقد كان يرتدي قمبازه*البني المُقلّم المعتاد وفوقه الجاكيت (والذي كان يُطلق عليه اسم ساكو*)المخيط من نفس قطعة قماش الصوف الإنجليزي .. تُغطي رأسه الحطة البيضاء والعقال الشامي.
كان عائداً من عمله في بيع الأقمشة على ظهر حمار، يطوف القرى المجاورة منادياً على بضاعته المخصصة للنساء في الغالب ، يشترينها لخياطة ثوب جديد، أو لصنع الفراش الصوفي، كفرشات الصوف، الألحفة والمخدات.
تقدمتُ نحوه مسلما عليه باليد .. أنا كبرت وهو ما زال في العمر الذي رأيته فيه آخر مرة .
-لماذا تسير ماشيا ؟ أين الحمار؟ بادرته متسائلاً بإستغراب .
-تركته مع البضاعة في القرية الفلانية .. لقد فقد الحمار بصره ولم يعد يعرف الطريق ..!!
في منطقتنا، نتشائم من زيارة الموتى لنا في المنام .. فهي دعوة منهم لنا بالإنضمام اليهم ..!!
لكن ومع ذلك، فزيارته هذه ، نكأت جروحا وهيجت مشاعر كانت مغيبة تحت طبقات ضخمة من النسيان .
ماذا سيقول فرويد أفندي؟! وعقدة أوديب ؟!
أحمل لأبي مشاعر الشفقة، أكثر منها مشاعر الحب .. وقد تكون شفقتي عليه نابعة في الأصل من محبتي له!!
كان رجلا ناجحا بكل المعايير، أُضطر للهرب من بيته وقريته حاملا على ظهر حمار وجملين بنتا وثلاثة صبيان... كان عمر البنت البكر تسع سنوات ، واعمار الاولاد تحت هذه السن ..بنى حياته من جديد، وأثرى من التجارة.. كان صارماً حد القسوة مع زوجته، والتي هي أمي ، ومع اولاده ..إلى أن توفيت والدتي وهي في ريعان الشباب ..
كان في الخمسين ، وكنتُ في الخامسة.. لم يمر شهرٌ إلا وتزوج من رعناء في العشرين من عمرها.. مطلقة من إبن عم لها ،لم يتحمل الحياة معها نصف عام ..
حولت حياتنا الى جحيم، شيطانة لا ترعوي عن شيء، سندريلا عاشت في نعيم مقارنة بما عانيناه أنا وأخوتي وأخواتي .. كان يخافها ويخاف سلاطة لسانها وجموحها ، عدا عن عدوانيتها وعنفها .. لم يحرك ساكنا للدفاع عنّا.. فقد كان تحت سطوتها ،حتى ظنّ البعض بأنها صنعت له "عملا" عند ساحر !!
-والله هالزلمة محجوبله ..عند السَمَرة* !!
اصبح في نهاية حياته مدينا لكل من هبّ ودب ..!! وحينما كان يجلس وحيداً تنهمر الدموع من عينيه مدرارا.. أسفاً على الذي مضى.
-أهلاً بك يا أبي ، لقد سامحناك منذ زمن بعيد .. وعسى أن تكون مرتاحا ..!!
* القمباز هو اللباس التقليدي للرجل الفلسطيني .
*ساكو : كلمة تركية دخلت الى اللهجة الفلسطينية على الأقل وتعني ، جاكيت.
* السَمَرَة: هم طائفة اليهود السامريين، يعيش قسم كبير منهم في نابلس .. ويعتقد البعض بأنهم قادرون على صنع التمائم والسحر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى