حسن أحمد بيريش - حوارات مع محمد شكري.. -11- المعيش قبل المُتخيَّل: صُحْبَةَ كُتَّاب الغرب

* " ترجم لك الكاتب الأمريكي بول بوولز أربعة كتب إلى اللغة الإنجليزية (الخبز الحافي ـ جان جنيه في طنجة ـ تينسي وليامز في طنجة ـ السوق الداخلي)، هل كانت هذه الترجمات هي سبب شهرتك الأدبية العالمية؟ وبالتالي هل يصحُّ القول إن بوولز هو الذي ساعدك على الوصول إلى هذه الشهرة؟
- هذا غير صحيح· بول بوولز لم يكن سببا في شهرتي العالمية· صحيح أنني لم أكن قد كتبت ما يجعلني أديبا معروفا، عندما التقيت بول بوولز وتعرفت عليه، بعد أن قدمني إليه الكاتب الأمريكي اليهودي إدوار روديتي، في نهاية السبعينات، ولكن ليس صحيحا أنه ساعدني على البروز والشهرة·
إن ترجمة "الخبز الحافي" إلى اللغة الإنجليزية لم تحقق أي صدى في الدول الأنجلو ساكسونية، شهرتي الأدبية جاءت مع ترجمة النص الى اللغة الفرنسية، وقام بها الكاتب المغربي الطاهر بن جلون عام 1980·

* " إذن أنت مدين بشهرتك للطاهر بن جلون، وليس لبول بوولز، كما يعتقد الكثيرون؟
- نعم، بكل تأكيد·

* " كتابك "بول بوولز وعزلة طنجة" انتقده الكثيرون، ما الأهداف التي توخيت الوصول إليها من وراء تأليفك لهذا الكتاب؟ ثم ما حكايتك مع بول بوولز؟
- لم تكن فكرة تأليف هذا الكتاب مطروحة في ذهني· ولكن بعض المهتمين بكتاباتي قالوا لي: لقد كتبت مذكراتك مع جان جنيه، وتينسي وليامز، فلماذا لاتكتب مذكراتك مع بول بوولز أيضا؟
فكرت في الأمر، واقتنعت بالفكرة، ثم شرعت في الكتابة، ولكن بدلا من أن يكون الكتاب عبارة عن مذكرات، فضلت أن أكتب كتابا نقديا، فأخذت كتبه وقرأتها كلها، ما أعجبني منها وما لم يرق لي، وأوضحت فيه كل انتقاداتي·

- ولكن الكثير من المهتمين قالوا لماذا لم يكتب شكري كتابه هذا في وقت كان يستطيع فيه بوولز الرد عليه، لأنه كبر في السن ولم يعد قادرا على مواجهته ···؟! ماردُّك؟
- لا! لا! أنا لم أستغل ضعف بول بوولز على الإطلاق، ففي الوقت الذي ظهر فيه الكتاب (صيف 1996)، كان في استطاعة بوولز الرد عليَّ، وقد فعل ذلك وقال إنني "مصاب بانفصام عقلي!" وأنني "رجل مجنون!"، وهو "ليس على استعداد للرد على شخص مجنون"!

* البعض يقول إنك ألفت هذا الكتاب بهدف "الانتقام" من بول بوولز!
- ليس بيني وبين بول بوولز أي ثأر يدفعني إلى "الانتقام" منه· أنا لا أحقد على بوولز، ولم أكتب عنه بهدف "تصفية حساب" كما يظن الكثيرون·
وإذا كنت قد كتبت عنه بقسوة وحِدة، فذلك لأن الكتابة الأدبية ليست كلها قبلات وتسامحات، المشاكسة جزء من الإنسانية لايمكن أن نلغيها، والتشاؤم، أو العدمية، موجودة في البشر ولا يمكن إلغاؤها أيضا·

* "ماذا كان موقف بول بوولز من الكتاب؟
- بعد صدور الكتاب بفترة قصيرة، ذهب وكيل أعمالي إلى بوولز وسأله: " لماذا ترفض منح شكري حقوقه المادية التي تشاركه فيها كمترجم؟ " (كان بوولز يحصل على نسبة 50% من ترجمته لكتبي رغم أنه لايترجم من العربية، فأنا أملي عليه بالإسبانية وهو يكتب بالإنجليزية)، قال بوولز: "لن أعطيه حقوقه، لأنه انتقدني وكتب عني أشياء قبيحة!"، فرد عليه وكيل أعمالي: "يا سيد بوولز إن شكري مازال يكتب وعنده خصاص مادي، فامنحه حقوقه من فضلك"، قال بوولز: "طيب، طيب، إن شكري كتب عني بقساوة· ولكنه كاتب جيد"، ووقع على منحي حقوقي من الكتب الأربعة التي ترجمها لي إلى الإنجليزية·
ولا أكذب عليك، لقد أعجبني هذا التسامح الذي صدر عن بول بوولز·

* " هل صحيح أن بول بوولز كتب عن المغاربة بشكل سيء، وتعامل معهم كقرود! كما قلت في كتابك عنه؟
- نعم، هذا صحيح، بوولز عاش في طنجة حوالي ستين عاما، أي أكثر من نصف قرن، ولكنه لم يحب المغاربة، ولم يعبِّر عن أي احترام ناحيتهم، إنه أحب المغرب المستعمر، لا المغرب المستقل! وتعامل مع المغاربة كقرود، أو حيوانات قذرة! فالمغاربة في كتاباته عبارة عن مجانين ليسوا أهلا لأي ثقة!
وقد كتبت عن إساءته وتشويهه لصورة المغاربة· ولذلك فأنا أعتبر كتاب "بول بوولز وعزلة طنجة" بمثابة رد اعتبار للشخصية المغربية·

* " عايشت بول بوولز حوالي ربع قرن، وعرفته عن قرب، أريد أن أعرف رأيك فيه ككاتب؟
- ثقافة بوولز أفضل من إبداعه، هو مثقف كبير، ولكنه ليس مبدعا كبيرا· قرأت كل أعماله ولم تمنحنِ أي استمتاع أدبي·
بول بوولز كاتب عدمي يُسقط شخوص قصصه ورواياته في عدمية فظيعة للغاية ··!

* هل ثمة أمثلة محددة على عدميته؟
- إليك هذه الأمثلة:
ـ في قصته "طريدة هشة" البطل يقطعون له عضوه التناسلي ويغرز له في سُرَّته!!
ـ في قصة أخرى نرى شخصا ينهي حياة صديقه الحميم بأن يدق له مسمارا في أذنه!
ـ في قصة ثالثة البطلة تحلم بعقرب يخنقها!
ـ وفي روايته "السماء الواقية" كان من سعادة بطلها أن يتوغل في الصحراء وأن لايترك وراءه أي أثر يدل عليه!!

* " تعرفت على الكاتب الفرنسي جان جنيه، وصرت صديقا له، وكتبت عنه كتابا سجلت فيه أحاديثكما عن الكتب والكتابة وبعض مظاهر الحياة المغربية (جان جنيه في طنجة)، ماذا يمثل جنيه بالنسبة إليك؟ وكيف تنظر إليه كمبدع؟
- قبل تعرفي على جان جنيه في طنجة صيف 1968، لم أكن قرأت له نصا مسرحيا قراءة كاملة، لأنني لم أكن أتقن الفرنسية آنذاك، ولم يكن قد ترجم له أي عمل إلى اللغة العربية·
شاهدته في ساحة السوق الداخلي، وبجرأة قدمت نفسي إليه باعتباري كاتبا مغربيا، علما أنني لم أكن قد نشرت سوى قصتين قصيرتين في مجلة "الآداب" البيروتية عام 1966·
وخلال الأيام التي قضاها في طنجة، كنا نلتقي باستمرار ونجلس في المقهى ونتحدث عن الكتب والكتابة، وكنت أسجل أحاديثنا اليومية بعد عودتي إلى المنزل· وقد أبدى لي جان جنيه - خلال هذه الأحاديث - بعض آرائه في الكتاب الآخرين· فهو لم يقرأ شيئا لتينسي وليامز، وألبير كامو في رأيه يكتب "مثل ثور"!! أما ستندال فقد كان "من أعظم كتاب عصره" ··
ثم توالت زياراته إلى طنجة على فترات زمنية متباعدة· وكان كلما زار طنجة يبحث عني في المقاهي، المطاعم، والحانات التي ارتادها باستمرار، وأذكر أنه في آخر زيارة له إلى طنجة، جاء إلى إحدى الحانات وسأل عني، ولم أكن موجودا، فرحل تاركا لي عند النادل، كأس نبيذ وجريدة فرنسية· ثم مات بعدها بشهور قليلة عام 1986·

* ثمة نقاط التقاء كثيرة بينك وبين جان جنيه:
"الخبز الحافي" و "يوميات لص" كلاهما سيرة ذاتية صريحة وجريئة· في الأولى هناك البطل المشرَّد في شوارع طنجة· وفي الثانية هناك البطل المشرد في شوارع باريس· وكلا البطلين مارس الصعلكة والسرقة، وعاش حياة صعبة وسط المهمشين والبوهيميين والكادحين···
كيف ترى أنت نقاط الالتقاء هذه؟
ـ هذه ملاحظة ذكية· بالفعل بيني وبين جنيه أشياء كثيرة مشتركة· فكلانا عاش طفولة ضائعة· وكلانا تشرَّد، تصعْلك، وسرق· ولكن مع الفارق طبعا·
أنا مارستُ اللصوصية لآكل وأبعد عني شبح الجوع· أما هو فقد كان يعتبر السرقة وسيلة لرد الاعتبار لنفسه من مجتمع ظالم لا يرحم!
وبالنسبة للكتابة، هو كتب لأنه اكتشف أن الكتابة يمكن أن تخرجه من السجن وتنقذه أو تعفيه من حكم السجن المؤبَّد (وهذا ما حصل بالفعل نتيجة دفاع مجموعة من الكُتاب الفرنسيين عنه، مثل: جان بول سارتر، كوكتو، أندري مالرو، وبيكاسو··)·
أما أنا فقد كتبت لأرد الاعتبار لطبقتي المقهورة، وأحارب الاستغلال البشع الذي تمارسه عليها الطبقة التي تملك!
ثم إن جنيه لا يخفي شذوذه الجنسي، بل إنه يعلنه أمام أصدقائه ومعارفه· وأنا لستُ شاذا جنسيا!!

* هل تأثرت بجان جنيه في كتابة "الخبز الحافي"؟
ـ لكل منا أسلوبه الأدبي الخاص، وطريقته في الكتابة ينفرد بها· أنا لم أتأثر به فيما كتبت· جان جنيه له شروطه في الكتابة والحياة، وأنا لي شروطي المغايرة في الكتابة والحياة·

* التقيت جان جنيه في باريس عام 1980· كيف وجدته؟ وهل كان لايزال يضع نفسه في "مقبرة الأدب"؟!
ـ بعد أيام من مشاركتي في برنامج "لابوستروف" التلفزيوني الذي يشرف عليه برنار بيفو، زرت جان جنيه صحبة الطاهر بن جلون في حي "بي?ال"، حيث ـ وربما لأول مرة ـ اكترى جنيه شقة ليسكن فيها بعيدا عن الفنادق الصغيرة التي اعتاد أن يقيم فيها·
لم أسأله عن هذا التغيُّر· كل ما أذكر هو أنه استقبلني حافي القدمين (رغم أنه كان مزكوما) قائلا: "لقد قرأت كتابك "الخبز الحافي"· إنك كتبت كتابا جيدا"·

* هل يمكن أن تصف لنا هذه الشقة؟
ـ نافذة غرفته المطلة على الشارع كانت مقفلة· وهواؤها يُغثي! في أحد الأركان ركام صغير من الكتب· وعلى طاولة صغيرة هاتف ومنفضة ملأى بأعقاب سجائر "جيطان"· وسريره ليس أكبر من حجم قبر بالقياس إلى قامته!

* ما هي المواضيع التي تحاورتما فيها؟
ـ لم نتحاور في مواضيع ذات أهمية تذكر في هذا السياق·

* كيف كان انطباعك عن باريس وأنت تزورها وتشاهدها للمرة الأولى؟
ـ لم أجد باريس التي كنت أتصوَّرها من خلال ما قرأت عنها في الكتب· باستثناء المتاحف (خاصة متحف اللوفر)، فقد وجدت الأماكن العامة (مطاعم، حانات، فنادق···) مُؤَمركة جدا! ويمكن أن أذكر في هذا المجال مقهى "فلور" الذي كان يكتب فيه جان بول سارتر، وسيمون دوبوفوار، وألبيركامو وغيرهم· وكذلك مقهى "ليدوما?و" الذي خبا فيه الإشراق المثير، الذي وصفه سارتر خاصة في رباعيته التي لم يتم جزأها الأخير: "دروب الحرية"·

* ألم تكن لك اكتشافات أخرى في باريس؟
ـ نعم· فقد انتعشت ببعض أحلامي عنها· إنها حقا مدينة النور التي ألهمت الكثير من الأحلام والاستيهامات الفكرية، الفنية والحضارية· وأعتقد أنها إحدى المدن العالمية التي ستظل تثير خيالاتنا بعيدا عنها، أو في صميم جغرافيتها الكونية·
أنا شخصيا استمتعت ببعض أموات مقابرها، أكثر مما استمتعت بأحياء شوارعها! كنت مهووسا بزيارة معظم مقابرها الزاهية، مثل: بيرلاشيز، ومونمارتر، ومونمبارناس، وبيكيوس وغيرها· وقد وصفت زياراتي لهذه المقابر الموحية في أحد فصول كتابي "وجوه" تحت عنوان: "فيرونيك"·

* هل يمكنك أن تصف باريس في عبارات مختصرة ومكثَّفة تمثّل رأيك فيها؟
ـ باريس مدينة ما إن تغادرها حتى تريد العودة إليها· إن لها سحرها الجذاب الذي يمسُّك بمسِّه الساحر المسحور·
تلك هي باريس الأكثر مما يمكن أن يقال عنها·

* هل التقيت ببعض الأدباء العرب أثناء تواجدك في باريس؟
ـ التقيت أحمد عبد المعطي حجازي، وجمال الدين بن الشيخ ومحمود أمين العالم، أثناء عشاء أقامه لنا حجازي في منزله·

* علاقتك بالكاتب المسرحي الأمريكي تينسي وليامز، هل كانت بنفس حميميَّة علاقتك بجان جنيه؟
ـ قبل أن أتعرف على تينسي وليامز، كنت أسمع أنه يبدي تحفظا يصل إلى حد الحذر من ربط أية علاقة مع المغاربة! وقد قدَّمني إليه بول بوولز على أني صديقه· وكان ذلك في صيف 1973· ولم تكن علاقتي به بنفس حميمية علاقتي بجان جنيه· تينسي وليامز لم يتيسَّر لي إلا نادرا أن أحدثه ويحدثني بطريقة جدية، إلا مرة أو مرتين في منزل بول بوولز· والجلسات التي جمعتنا معا في فندق "المنزه"، ومقهى "مدام بورط"، كانت للتسلية فقط!
بينما مع جان جنيه دائما هناك أحاديث عميقة·

* وبالنسبة لكتاباته؟
ـ كتابات تينسي وليامز تُعجبني أكثر من سلوكه· سلوكه ليس سيئا بقدر ما هو هستيري يصل إلى درجة السطحيَّة! ربما للتفريج عن نفسه·

* هل يمكنك أن تقوم بمقارنة بين جنيه ووليامز؟
ـ جنيه يتميز بتواضع عبقري· وتعامله مع نماذج مسرحياته ومذكراته يتَّسم بكثير من الإنسانية والسمو· أما وليامز فهو معجب بشخصيته· كثير الغرور والعجرفة! وتعامله مع الناس يقتصر فقط على الطبقة البورجوازية التي تتحسَّر على ماضيها· واتصالاته لا تتجاوز أفراد هذه الطبقة إلا نادرا جدا·
بالنسبة للكتابة، كلاهما كاتب كبير ومبدع عميق·

* الكاتب الأمريكي ـ اليهودي إدوار روديتي، متى تعرفت عليه؟
ـ في نهاية الستينات على ما أذكر· وهو من أصل تركي، وأعترف أنه شجَّعني كثيرا على المُضيِّ في الكتابة· كانت لي جلسات كثيرة مع هذا الكاتب الذي كان يعتزُّ بمعرفته لأبناء وأحفاد الشاعر أحمد شوقي·
ومن أطرف ما رواه لي إدوار روديتي أنه استيقظ من النوم، ذات صباح، فوجد نفسه نائما في فراش واحد مع غارسيا لوركا!!
ولا أدري مدى صحة هذه الحكاية·

* التقيت صمويل بيكيت وألبرتو مورافيا وتعرَّفت عليهما· ترى كيف وجدتهما؟
ـ صمويل بيكيت عندما تعرفت عليه سنة 1973 في طنجة، لم يكن عنده أي استعداد للحديث· كان يحب الوحدة والعزلة· فصمت ولم يُبْد رأيا في أي شيء· أما ألبرتو مورافيا فقد التقيت به في أصيلة سنة 1979· ولم أحدثه أو يحدثني بشيء يمكن أن يذكر، أو يستحق أن يقال·

10/25/2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى