حمد صالح - الســـاقية

الأفق الرصاصي المهيمن على الشرق يمتلئ بأعمدة الدخان الملتوية. جبال عائمة و متراكبة من الدخان الكثيف ترتفع رتيبة و متجهمة لتغطي مساحات شاسعة من وجه السماء الذي لا يبدو انه ينذر بشيء قابل للتحديد على الإطلاق. تنهض الجبال السوداء بإحجام دائرية مضغوطة من فوهة ذراع الحديد القائم إلى جانب الماكنة و تنتشر في الفضاء الشاحب, في حين تستمر أشلاء الحديد في الداخل تضطرب مدوية كانفجارات متتالية تتلاحق بين قرقعة المسننات المحتدمة و تجهضها أشلاء الحديد فتتلاحق عبر اهتزازات الأرض المعشوشبة إلى خلجان متواصل و نظيم مثل أنين خافت تجترّه أعماق إنسانية متعبة. يتسرّب الخلجان الثابت عبر شقوق القدمين الحافيتين فينبض في الأجواف المحمومة والقاحلة. يمتزج نبض قلبه بخلجان الأرض المستلقية على مدّ البصر. تتسلق الفضاء الرحب أعمدة الدخان فيخامره إحساس بالطمأنينة إذ يطالع الماء وهو يندفع بغزارة من شرايين هذه الآلة الدؤوب فيهمس لنفسه بارتياح.. كل شيء على ما يرام. يولد متزاحماً من فوهة الأنبوب الضخم مدفوعاً بقوّة جبارة ترغمه على الاندفاع بمثل هذا التيار الهادر ليصطدم بجدران الحوض الأسمنتي الواسع. ينفلت التيار من ثقب الحوض مسفوحاً بتعرجات مرتعشة على منبسط حجري, ثم سرعان ما يغوص بين تشابك أعشاب الثيّل و العاقول والطرطيع والخباز ولسان الثور. ينحصر النظر الآن بين شفتي الساقية المنفرجتين قليلاً, فيلمُّ عن كثب بضفادع خضراء باهتة بلون جذوع الأعشاب ملتصقة على الجانبين, وبين آونة و أخرى تنط ضفدعة لتغوص في الوحل أو في ثنيلت الجذور. ما يزال الماء شديد الجريان, أو على الأقل لا يوحي بعكس ذلك, حيث إن مروره المندفع يحّرك الأعواد الناتئة و ذوائب العاقول و تفرعات الأعشاب المتدلية إلى الداخل و يغسل, بشيء من الحدّة, جلود الضفادع اللاصقة في وحل الساقية. الاهتزاز ذلك الاهتزاز الذي يوحي للناظر بأنه يوافق اهتزاز الأرض المنحدرة, وهذا يعني في أسوأ الاحتمالات إن الماء ما يزال مقارباً لكميته أثناء اندلاقه من فوهة الأنبوب ولكنه يسير على نحو أبطأ. ثمة تضاؤل ملحوظ في اندفاع الماء إلى الأمام. ولكن المسألة برّمتها ما زالت الآن على الأقل في حدود المعقول. على الجانب الآخر من الساقية تفقد زرقة الماء ارتعاشتها المتلألئة, حيث تكثر خطوط الانكسارات المرتدّة نتيجة إلتحام أعشاب الثيّل و كثافة أوراق الخباز ولسان الثور وهيمنة أغصان العاقول الممتدة على كلا الجانبين وظهور شجيرات مألوفة ومجهولة الأسماء إلاّ أن ذلك كله لا يشكل عائقاً للمجرى الحقيقي الذي يفترض أن الماء لن يجد صعوبة في التوغل إلى داخله أو اختراقه, وبما أن الأرض على مد البصر مكشوفة إلى حد ما, باستثناء بعض الأشجار السامقة و أكداس الحنطة والشعير التي لا تقوى على إخفاء الكثير, هذا فيما إذا أخفت فعلاً, فإن الافتراض الراهن يتحوّل إلى قناعة مطلقة بأن الماء ما يزال سالكاً مجراه. هبط بالمسحاة عن كتفه قابضاً عليها من الطرف الحديدي المخصص عادة للحفر وأزاح تشابك الحشائش المخيمة على وجه الساقية فتراءت له بقعة زرقاء صقيلة من الماء الأزرق العذب. إتكأ على ذراع المسحاة مجيلاً بصره فيما حوله مستطلعاً المنطقة فلم يقع بصره إلاّ على بقع نديّة وداكنة منتشرة في الأرض السبخة. في الواقع لم تكن هذه البقع المائية المتناثرة هنا وهناك مثيرة للارتياب بخصوص نقصان الماء, فليست هناك ساقية معمولة من الطين و تخترق كل هذه المسافة تستطيع أن تحتفظ بالماء كاملاً حتى النهاية, بيد أن النقيصة المفترضة ليست بذي بال في جوهرها, وحتى السواقي التي عملها أصحابها من الجص و الحجر, كما روى أهل القرى المجاورة تنفذ منها نتيجة عوارض بيئية لا يمكن تفاديها, بعض النداوة الراشحة بشكل أو بآخر, ولكن برغم كل هذا تبقى المسألة أبعد من أن ينقطع الماء تماماً قبل أن يصل البستان. انتشل المسحاة فعادت الأعشاب إلى التشابك فيما بينها حاجبة الماء وراءها, مضى متلكئاً في مسيره الحذر على كتف الساقية محاولاً أن يجعل المسحاة تحفظ توازنه. انحرف بزاوية ليست قابلة للحصر متابعاً انحراف الساقية من دون أن يلحظ ما يدعم شكوكه وهواجسه المتضاربة.
الآن, ظهر الماء من وراء حجابه الأخضر بزرقته الصقيلة منحدراً بسيل ومنتظم ينساب متلاطماً ومحتفظاً بمستوى ارتفاعه وانكساراته الراعشة على جانبي الساقية. تستقيم الساقية في خطين متوازيين يتابعان مجاورتهما على نحو متقارب إلى مسافة ليست قليلة, تبدو فيها الأرض, مع كونها محروثة أو ربما مزروعة, خالية تماماً من أيما رطوبة أو أثر لنداوة. عند نهاية هذه المسافة تضمحل جعجعات الماكنة الحديدية. يأتي صوتها مكتوماً كانفلاقات صماء محشرجة تحملها ريح شمالية خاملة. يعتلي الساقية بشكل عرضي جذع نخلة مجرّد من الألياف. مسطح ومنخور مثبت بإحكام من كلا طرفيه على جانبي الساقية على شكل جسر عتيق وخرب لعبور السابلة. وقد تركت على ظهره المتعرج اضلاف الأغنام والماعز وحوافر البغال والحمير وأقدام المشاة أثراً محفوراً في منتصفه يندس الماء تحته بليونة ثم يفيق من الجهة الثانية ليواصل مسيره المتباطئ. الطريق يمرّ من فوق الجسر الضيّق موصلاً قرية (الست سطوح) بنهر دجلة. شريط أبيض ملتوٍ يذهب إلى القرية مخترقاً الكثير من الحقول والمزارع والبساتين, وآخر يمتدّ من نهاية الجسر كإصبع رملي باهت يغوص في خاصرة دجلة. على حين تبدو الساقية في امتدادها الرائع شديدة الشبه بوشم أزرق محفوف بالاخضرار الندي الخلاّب مطبوع على جسد امرأة مغرية و شهية مستلقية على ظهرها, تمدّ بصرها بأمل و ضراعة إلى السماء. تابع مسيره المتوجس مؤكداً قدر المستطاع على الجوانب الرخوة والخافية عن النظر, و سواء ازدحمت الأعشاب المختلفة أو تباعدت فإن بصره يظل جائباً الأرض المحيطة بالساقية يتوزع بمهارة فلاح حاذق ومتمكن من مهنته إلى ألاف العيون المتفتحة كلها تتفحص بوعي ودقة كل ما يصادفه أثناء مسيره. يتوقف عند خرير ضئيل كدمعة مسفوحة على وجنة الساقية تتخلل أهداب الثيّل الندي وتستحيل عند المنحدر الطيني إلى بركة موحلة تبرز منها أشجار العاقول و الحرمل و أعواد الطرفة. داس منبع الخرير بقدمه الحافية فلاحت آثار القدم مجزأة في الوحل. قدم ضخمة لعملاق ضخم مطبوعة على سفح الساقية. تلاشى خرير الماء فبان أخدود صغير مجوف. جرح ينام على وجه امرأة. قد لا يلحظه أحد ولكنه في الحقيقة موجود. و تحسباً لكل طارئ انزل المسحاة عن كتفه و مضى يلملم التراب حول الأخدود ثم يربت عليه بقدمه الحافية, بعد ذلك يتوقف متكئاً على مسند المسحاة و يشخص ببصره على امتداد الساقية إلى الوراء. لحد الآن ممكن القول أن كل شيء على ما يرام. الأرض إمام عينيه تبدو مثل امرأة عاشقة, تلفّها عند الأفق الرصاصي المهيمن على الشرق ذراع عاشق ينفث ماءً ودخاناً. فورة التحام تنضح شبقاً و اندفاعاً, ودجلة خط ازرق من الحبر الفاتح يحكي قصة عاشقين ظامئين يشرخان بلاهة صمت الظهيرة العاج بالطنين الأهوج و التأويلات المعتمة, وفي عمق السكون الراكد تتنفس الأشجار المصفرّة الأوراق وسخونة الشمس المحرقة و انحسار الأمل في السواقي المضاعة بغموض و عذوق النخل التي تبدو بحق أنها ترفض الرضوخ لقسوة الزمن.
يتأوه بتعب و إعياء و يستدير إلى الخلف حاملاً على كتفه مسحاته التي ألفاها ثقيلة كجثّة تثقل كاهله. أعوام كثيرة من التعب استفاقت في داخله فمضى يدّبُ مثقلاً على كتف الساقية متفحصاً الشفتين الملجومتين بالإعشاب الطفيلية, منتزعاً من ذهنه, بشكل أو بآخر, كل ما يصرفه عن متابعة مجرى الماء في الساقية. تابع طريقه غير آبهٍ بوخز الأعواد المدببة و الأشواك. أن مثل هذه الوخزات على مرّ حياته في الفلاحة قد ألفها إلى حد عدم أثارة الألم أو حتى الإحساس به أحياناً. أنعطف قليلاً متعقباً جريان الماء الذي تراءى له إلى حد ما متباطئاً و كأنه عبر هذه المسيرة الطويلة قد استنفذ جهده. حين ينحرف الماء يشكل بركة أكثر أتساعاً من حجم الساقية الاعتيادي. ربما حفرها أطفال القرية للسباحة فيها, أو حفرها الماء حينما كان ينساب بقوّة أكثر منه الآن. وعلى جوانب البركة الموحلة التصقت ضفادع متفاوتة الأحجام, وأبو الزّمير فيها يتلوى مرتفعاً و منخفضاً بحركات رشيقة و مطمئنة, وعلى السطح ظهرت لبرهة سمكة صغيرة ثم غاصت إلى الأسفل, على حين تكوّمت حزمة من الأعواد على جذور نبتة عاقول متدلية في الماء. ثمة حياة غامضة ولكنها أليفة في هذه البركة المائية تمارس وجودها على تواضعه كما ينبغي لأية حياة أخرى ممكن تسميتها جدلاً بحياة قابلة لأن تعاش بلا هموم أو تعب ولهذا فأن مخلوقاتها المتآلفة لا تنوي مغادرتها وكنها تعي سلفاً بأنها لن تجد الأفضل خارج حدود هذه الملكة الآمنة. أجال بصره مستطلعاً الأرض فيما حوله فلم يقع بصره على ما يثير الارتياب مع أن قناعته فقدت ثباتها السبق خصوصاً وأن الماء بدأ فاتراً كأي كسيح أخر يجري متثاقلاً في طريق صحراوي وعر. أن الماء قطعاً بهذا المستوى المتردي ليس هو الماء ذاته الذي كان يتدفق عنيفاً و قوياً من فوهة الأنبوب الضخم, لكن المسألة على ما يبدو فوق طاقته تبريرها بشكل معقول, فالماء أنخفض عن مستواه الحقيقي. لم يعد يتلاطم بين شفتي الساقية, وبما أن العثور على منفذ أو ثغرة تتسرب منها المياه يعد كما هو واضح آمراً ميؤساً منه, فالأولى مراقبة الساقية على نحو أدق. المسالة بأوجز تفسير لها تحتاج إلى فك الرموز المعقدة و الحساسة. بكل سهولة ممكن الاعتراف بكل ألم - مع انعدام الدليل الملموس - أن ثمة في جوف الساقية ثغرة ما غامضة وخفيّة يتسرب الماء خلالها إلى أماكن بعيدة و مجهولة, وربما أكثر من ثغرة تبتلع الماء في السر. وألاّ فأين يذهب الماء؟ ولماذا هبط مستواه إلى هذا الحد؟
ومع انه لم يهمل أمر تفحص الساقية مطلقاً, ولم يعثر بالمقابل على ما يدفعه إلى الارتياح ولو نسبياً. لاحظ بشكل مثير للريبة مستوى انخفاض الماء في الساقية انخفاضاً كبيراً قبل أن يلج مقدمة البستان. تستحيل الساقية بأكملها إلى خرير هزيل. دمعة محبوسة في مؤق الأرض ترقد هادئة في محجرها, يعبث نسيم الحقول في بريقها الأزرق الشفاف. تحبو بتأنٍ حرون عند مدخل اللوح الأول, وقد استنفذت جهدها تماماً. تأمل كتفي الساقية الموشحين بالأخضر الذابل اللذين يخترقهما شريط مائي صافي الزرقة بألم مدققاً النظر فيما حوله بانتباه شديد. كانت الأرض من حوله تنبسط على مدّ النظر تحمل في نبضها الخافت دفء امرأة نائمة تتنفس بهدوء وانتظام رمى المسحاة عن كتفه وزرعها بقوة في صدر الأرض التي لا يصلها الماء وتهالك بإعياء في ظل شجرة كبيرة, مصفرّة الأوراق مسنداً ظهره المنحني على جذعها الضخم الملفوف بلحاء كالح ومتشقق. لم يعد يسمع صوت الماكنة إلاّ أن نبض الأرض المتصاعد فيما حوله, أو في داخله, يوحي بأن ثمة ماكنة أعنف وأقسى تهدر في رحم هذا السكون القابض. يتدفق الماء منها غزيراً وعذباً. يتوجسها في شرايينه. تدق بإصرار وقوّة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى