فالح العجمي - سيميائية المكان

ما الذي يميز عالم الطبيعة عن عالم الثقافة؟ ما يميزها - حسب سيزا قاسم -ان الاول مكون من الأشياء والثاني مكون من النصوص، والثقافة هي في الواقع مخزون هذه النصوص، والذي يميز النص عن غيره من الاشياء هو انه حقيقة سيميائية، وإذا تأملنا المكان وهو المحيط الذي يعيش فيه الانسان، فاننا لا نستطيع ان نصفه طبقا للاحداثيات المكانية من قياسات الحجم والمسافة والبعد والقرب، غير ان المكان يكتسب صفة سيميائية من خلاله اعطائه قيمة دلالية تميز بين الظواهر المكانية التي لا يختلف بعضها عن بعضها في الواقع. فالقرب والبعد، او الطول والقصر، ليس لها قيمة في حد ذاتها، غير انها تكتسب قيمة من خلال سيميائي لهذه العناصر، ومن ثم نجد أن هذا النظام السيميائي لعناصر المكان يتخلل كثيرا من النشاط الإنساني، فالنظام السيميائي للمكان ينعكس على الاستخدامات اللغوية التي تتحكم فيها متغيرات اقتصادية او اجتماعية يتعذر الفصل بينها وبين عناصر ذلك النظام، مما يؤدي إلى تشكيل وعي البشر بواقعهم.

وبالرغم من كون فلسفة تنظيم الحياة في المكان متشعبة الجوانب، الا اننا سنختار جانبين فقط: أحدهما تنظيم المدينة، ونختار مثالا له مدينة الرياض، والثاني تقسيم المكان الى عام وخاص، ونختار مثالا له فكرة المقهى (او تقديم الخدمات في مكان عام تجاري).

فاذا نظرنا الى مدينة الرياض منذ نشأتها الى مطلع ثمانينات القرن الميلادي الماضي نجدها مدينة متصالحة مع نفسها واهلها، لها وسط تجاري وقلب ينبض بالحياة، يقصده الناس لقضاء حوائجهم، ويكون مركز الحركة التجارية وملتقى الطرق التي تنتهي في العاصمة من جهاتها الاربع، وقد بدأ التفكير في حيز المدينة ومكوناتها يتغير بعد الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي حدثت في اواخر السبعينات، وبدأت آثارها تظهر في الثمانينات، واكتملت صفاتها السيميائية في التسعينات، فقد تمددت المدينة افقيا بشكل لم تعهد مثيلا له في تاريخها، ولم تعد الطرق التي تصلها بالمناطق الأخرى تنتهي فيها، بل تلتف حولها وتترك الفراغ بين جهاتها الطرفية ومناطقها السكنية، ثم نبتت المراكز التجارية في كل طرف من أطرافها، وتنامت المساكن حول تلك المراكز ضاغطة بطلب الخدمات والمراكز الصحية والتعليمية والترفيهية، مما حولها الى مدينة مرقطة، وافقر مركزها القديم، بل وجعل الناس يتنقلون فيها في هجرة دائمة الى الشمال بتغير الأحياء الجديدة الراقية في فترة لا تتجاوز عقد الى عقدين من الزمان، وقد شكل ذلك التغير الدائم الوعي السيميائي ليس لدى ملاك العقارات ووسطائها فحسب، بل ايضا لدى السكان والزوار ومن يكتب تاريخ المدينة، فقد اصبحت احياء كانت يوما ما راقية جدا، مثل الملز والعليا والسليمانية، مقرات للشركات وبعض المحلات التجارية، او من يرغب من الأجانب في السكن قريبا من مواقع العمل، كما فقدت بهذا التحول سمة المدينة الكبيرة التي يكون لها مركز وعدد من الضواحي، حيث ينتقل المركز في كل حقبة الى منطقة قريبة من الاحياء الجديدة، وباتجاه الشمال غالبا، مما يحول الجنوب والغرب الى ضواح لمركز لم يعد جاذبا، رغم محاولات الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض بجهود جبارة في تنظيم الوسط، واعادة الحياة اليه، واقامة المهرجانات في ساحاته، واظن هذه الجهود تحتاج الى قرارات كبيرة تغير الوعي السيميائي بالمدينة بوصفها حلقة تتكامل فيها الثقافة مع الطبيعة.

أما الجانب الثاني المتعلق بتقسيم المكان الى عام وخاص، والذي اخترنا مثالا له مفهوم "المقهي" بكل ما يحمل من ابعاد متغيرة بتغير الأمكنة والثقافات، وبتغير الزمان في المكان الواحد، فالمقهى يفرض نوعا من العلاقات على رواده تختلف عن بقية المواقع العامة، ويؤطر ثقافة قد لا تكون محسوسة للفرد، او خلال حقبة تكونها، فمنذ منتصف القرن الماضي الميلادي كانت العبارات الدالة على بعض الأمكنة العامة في المناطق الوسطى من البلاد على أقل تقدير "ومنها القهوة - اسما للمكان - او القهاوي (جمع قهوة) وما يؤدي دورها مثل زوايا الشوارع وبعض الأرصفة وملاعب كرة القدم الترابية" تتضمن معان تشير الى احتقارها في الوعي السيميائي بتلك الأماكن المرتادة، بل امتدت النظرة إلى الإنسان نفسه الذي يرى او يعرف انه قد ارتادها، او تناول فيها مأكولات او مشروبات او غيرها، فنشأت مصطلحات مثل "داج"، "راعي قهاوي"، "سرسري" "سمرمد" (والأخير خاص بشباب الأرصفة والسهر الطويل) فما الذي حدث في وعي الناس بعد النقلة الكبرى (في التسعينات) لا يشك أحد في ان تحولات الأجيال لها دور في تغير النظرة، حيث اصبح الكبار في المجتمع (اغلب ارباب الاسر) هم من ولد في الخمسينات والستينات، ولم يعودوا من اقتصرت ثقافتهم على الحياة التقليدية القديمة لكن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد في التحول، بل اظن تزامن تلك النظرة مع تحول مدينة الرياض الى مدينة ميتروبوليتية من خلال السفر او سياحة، ومن خلال الأفلام ووسائط نقل الثقافات الأخرى، قد اسهم في تقبل تلك الثقافة.

لكن تلك الأماكن لم تحتفظ بأسمائها القديمة، التي اكتنزت دلالات سلبية لا يريد المستثمرون او الرواد ان تلتصق بالمكان او بهم، فأصبحت تحمل رموزا دالة أخرى كالمقهى، او الكوفي شوب، وان كان الأخير يستخدم غالبا او حصرا لدى النساء، بهدف اسباغ صفة ارستقراطية على المكان، في حين بقي الدل القديم (القهوة) للأماكن التي تقدم فيها الشيشة والمعسل خارج المدينة، وإن كان بعضها تعصرن بالأسماء الحديثة من المقهى الى الاستراحة وغيرهما، وقد تبعها في ذلك أو تداخل معها مكان عام آخر تقدم فيه خدمات الانترنت؛ بين اسم بسيط يحمل المقهى وواقع يتناغم معه، وآخر يطوف في عالم الخيال، ليتناسب مع سعة الخيال الرومانسي عند الشباب، كما نافسها جميعا شركات المقاهي العالمية التي غزت مدننا بعد أن أصبحت مهيئة لذلك، وهي لها سيميائية ثقافية أخرى غير سيميائية المكان يمكن تناولها في مكان آخر.


أ. د. فالح العجمي

* عن الرياض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى