عباس محمود العقاد - الحرب والشعر

من رأيي الذي شرحته قبل الآن أن الحروب والثورات تشحذ ملكات الخطابة ولا تشحذ ملكات الشعر، بل تلجئها أحياناً إلى الصمت والركود، لأن الشعر (فردي) والخطابة اجتماعية تنشط بنشاط الجماعات، وتؤدي عملاً لا غنى عنه في أيام الحروب والثورات

وما يروج من الأناشيد والأغاني في إبان الحرب أو الثورة، فإنما حكمه حكم الخطابة، لأنه يتردد بين الجماهير في حالات الاجتماع ولا ينظم بداءة كما تنظم القصائد التي يترنم بها الشاعر على انفراد

وقديماً نظمت الملاحم الكبرى عن حروب الأمم البائدة، فخيل إلى بعض الناقدين أن الملاحم تستدعي النظم وتلقح فراغ الشعراء، وهو في رأينا تخيل خاطئ، لأن اتخاذ الملاحم موضوعاً شعرياً لا يستلزم أن يزدهر الشعر في أيام الحروب، كما أن وصف إنسان في قصيدة لا يستلزم أن يكون ذلك الإنسان من عرائس الشعر التي توحي المعاني وتفتق الخواطر، وقد يكون في حقيقته على نقيض ذلك

ولقد كانت الملاحم فيما مضى تنظم على سبيل التدوين والتخليد بعد انقضاء عهدها بزمن طويل أو قصير، وكانت هذه الملاحم المنظومة هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين. فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر في الحياة وحوادث الأيام منها إلى سجلات الحفظ والتأريخ

فليست أيام الحروب من أيام الشعراء. ولعل الحرب من حروبنا الحديثة تشغل الملايين وألوف الملايين أعواماً، ثم تنجلي عن بضع قصائد مختارة لا تملأ كراسة واحدة ولا تساوي في عدد سطورها رواية من الروايات التي تمثل في بضع ساعات وموضوعها محصور بين رجل وامرأة، أو بين شرذمة قليلة من الرجال والنساء

إلا أن النفوس لا تخلو من الشعر في إبان المعامع والمذابح البشرية، فهي لا تميته ولا تحجر عليه، ولا تمنع الأذهان فينة بعد فينة أن تنصرف إليه، وكل ما هنالك أنها ليست باللقاح الجيد لقرائح الشعراء

ومن العجيب أن أشيع القصائد التي خلقتها الحرب الماضية كانت لرجل ليس بالشاعر ولكنه طبيب

ولم يكن من عادته أن ينظم الشعر، ولكنه فتح له في لحظة من اللحظات كما تفتح أبواب الإلهام

ولم تنشرها صحيفة البنش الإنجليزية التي نشرتها دون غيرها إلا وهي تتردد في استحسان القراء لها بل في التفاتهم إليها

ثم كان من شأنها أنها ملأت العالم الإنجليزي في أيام، وحاولت أمم أخرى أن تترجمها فلم تفلح في أداء بساطتها وجرسها وما يتخللها من الحزن والتفاؤل الرصين

ثم أصبح من عادة الجماهير الإنجليز كلما تجدد ذكرى الهدنة أن يلبسوا في عروة المعطف صورة أقحوانة مصنوعة تباع وتخصص أثمانها لأعمال الخير التي تقام باسم المارشال هايج، لأن الأقحوانة كانت موضوع ذلك القصيد

قال الطبيب الشاعر:

(ترفّ الأقاحي في سهول الفلاندرس

بين صلبان القبور صفوفاً وراء صفوف

معلماً من معالم المكان الذي نحن فيه

وللقنابر في الفضاء - يا لشجاعتها - لا تزال تغني غناءها،

وندر أن تسمعها الآذان تحتها بين قصف المدافع وانطلاق النيران)

(نحن الموتى!

قبل أيام قليلة كنا أحياء

وكنا نحيا ونحس الفجر الطالع وننظر إلى الشفق الوهاج،

وكنا نحب وكنا محبوبين

ونحن اليوم في سهول الفلاندرس ننام)

(خذوا بأيديكم عنان النضال مع الأعداء،

أيدينا المتخاذلة ألقت إليكم بذلك العنان.

وارفعوا الشعلة عالية. . . ارفعوها ولو بقيت في أيديكم سنوات

فإن نقضتم عهدكم لنا نحن الذين مضينا

فلن ننام في مضاجعنا

ولو ظلت الأقاحي رفافة في السهول)

نظمت هذه الأبيات قبل نيف وعشرين سنة، وعادت الأقاحي ترف في سهول الفلاندرس، وعادت الأجساد تهوي هنالك ألوفاً وراء ألوف، وتناول شاعر إنجليزي القلم من حيث ألقاه الطبيب الكندي الذي قضى قبل أن تنقضي الحرب الماضية فقال:

(الآن، ومن تلك الأرض التي يطل من قبورها الأقحوان

ينهض موتانا كرة أخرى!

علموا من قبل أنهم لا يهجعون

إذا قيل يوماً إنهم عبثاً ماتوا وعبثاً ضرجوا تلك السهول بالدماء.

لقد غرسوا ولم يحصدوا. . . أليس هؤلاء الأعداء يعودون؟

فالآن ينهضون ليحصدوا ما غرسوه، ويحصدوا الكيل ألف كيل.

لأن الموتى كلمة يعرفون كيف يحفظونها، فلا تموت)

والشاعر الذي أضاف هذه الأبيات هو ألفريد نويس صاحب القصائد التي تقرأ اليوم حيث تقرأ اللغة الإنجليزية، ولكنه يحسب نفسه من السعداء إذاً جرى مع الطبيب الكندي في مضمار

وتجري مع هذه النغمة في سهولتها وشجاها أبيات الشاعر المعروف لورنس بنيون التي يرثي فيها لضحايا الحرب ويغبطهم لأنهم لا يشيخون حيث يقول:

إنهم لن يشيخوا كما نشيخ نحن المتروكين

إنهم لن يعرفوا سأم العمر ولن تثقل على كواهلهم السنون.

سنذكرهم حين تهبط الشمس وحين تؤب

(سنذكرهم وهم غالبون!)

أما في الحرب الحاضرة فالشعر الذي نشرته المجلات حتى الآن كثير، والمختار منه قليل

ومن هذا القليل قصيدة للسير روبرت فانسيتارت من رجال السلك السياسي النابهين ومن الشعراء الذين يروق في شعرهم الترصيع الأنيق والإيحاء الموارب، لأنه يذكرك لغة السياسيين

نظم هذه القصيدة بعد هزيمة فرنسا كأنه يخاطب بها محبوبة ناكثة فقال:

(ألم أكن وفياً لك من البداية؟

ألم أخلص لك الحب منذ عهد الشباب؟

ألم أحببك غير مضلل عن عيوبك ولا واهم فيك؟

أعرف أسوأ ما عندك وأعرف أن الأحسن فيك هو الأقرب إلى الحق والصواب!

وإنك لمثلي كنت صفوحاً وكنت تعلمين ما لم أكن أخفيه من عيوب

فامتزجنا ومشينا جنباً إلى جنب

نواجه عالماً لا نقوى على مواجهته منفردين

أكنت تحفظين ودي والأيام مقبلة؟

نعم. . . ولكني كنت أحفظ والأيام ليست كذاك،

وكان الإغراء ينال من حصنك.

وبضعفك مرة أخرى تنتصرين

وتنسين!. . .

تنسين نفسك وتنسين الحرية وتنسين الصديق،

بل تنسين حتى ما ينفعك وحتى ما تغنمين.

واليوم يعود التورد اللماح من وهج الحب

مسحة من الخجل، وتنقضب القصة كما انقضبت قصص كثيرة من قديم

ويتم الوداع في بوردو

وإياي الآن تكرهين، ولن ينقص كرهك لي حين أذهب غير واهن ولا مهدود بما أصابك

وحين أقف وحدي في وجه الدنيا، وأنظر جنبي فلا أراك)

ومن قليل الشعر الرائق في الحرب الحاضرة ولا يقال مثله في حرب قبلها هذه الأبيات التي نظمها (ولفريد جبسون) وهو يصغي إلى موسيقى (بيتهوفن) من مذياع ألماني ويستمع إلى دوي القذائف الألمانية على بلاده. . . قال: (من بعض الديار الألمانية يشدو العازفون بالنشيد الخامس العظيم. . . كأن لا حرب هناك

تعيث خلال الديار

يكرمون الفن والخراب جائح

ونصغي في أكواخنا فتنسرب إلينا الأصداء العلوية بين أزيز الطائرات ونذير الدمار

لحن خالد يحمله أي فضاء؟. . . يحمله الفضاء الذي يطير عليه القاذفون ليصطرعوا

صراع الموت تحت نجوم باردة العيون

واللحن الخالد من أرض إلى أرض ومن سماء إلى سماء ينفذ في الأسماع والقلوب

كأنما يخلق الألفة والانسجام حيث أبناء الفناء لا يعرفون الألفة والانسجام

وكأنما ينفث التوفيق والتنسيق في قلوب تنحدر إلى قرار سحيق. . .)

على أننا لا نظلم الشعراء النابهين فنقول إنهم يتخلفون حيث يسبق المصلون المجهولون. ففي الحرب الحاضرة شعر حسن لبعضهم لا يمنعنا أن ننقله إلا أنه لا يقبل الإيجاز والاقتضاب

أما في الحرب الماضية فقد ارتفع فيها (كبلنج) بالشعر الحماسي إلى الذروة التي رفعته الشهرة إليها، ونظم تلك القصيدة التي لا يسمعها إنجليزي إلا سرت في عروقه هزة الحمية وصالت نفسه صولة الكبرياء. ومنها:

الشأو هناك. . .

لا يبلغنا إليه رجاء خادع ولا وهم كذوب

بل فداء من معدن الحديد

فداء بالأوصال والعزائم والأرواح

إنه لواجب واحد علينا

وإنها لحياة واحدة نعطيها

من ذا الذي تنهض قدماه وقد هوت الحرية

ومن ذا الذي يموت وقد عاش الوطن!)

وموعدنا الحين بعد الحين بما نختار من هذه الشذرات، وهي على قلتها بالقياس إلى غيرها مما تتسع له صفحات وصفحات

عباس محمود العقاد




مجلة الرسالة - العدد 381
بتاريخ: 21 - 10 - 1940

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى