مفيد بركان - جمالية التيه في رواية : " شبابيك منتصف الليل " لإبراهيم درغوثي

في فاتحة الرواية عتمة غامرة تطل شبابيكها على القلب ، وفي حدها الخاتم حمرة قانية تطل فيها الشمس من رحلة الليلة الطويلة ، وهي رحلة الرواية وقد تعاقبت فيها الفصول فشكلت دورة منغلقة .
وبين البداية والنهاية يتنامى فعل القص في أحبولة مداورة تلتهم فيها الحكاية شخوصها في عنف متوحش ، تسلم الواحد منهم إلى الموت انتحارا في حتمية مفجعة . فعبر صورة القتل نطأ عتبة النص ، إذا فاتحة سبيل الحكي فيه مشهد يرويه الراوي الحفيد حول طريقته التي صارت مضرب الأمثال في شنق الكلاب الشبقة وقد فعل فيها طقس الغرام فعله . ثم ترتد مسارب السرد تجوس في دواميس الماضي يسترجع فيها هذا الراوي المضمن في نسيج الحكاية وقائع ختانه الذي انتهى بقطع نصف الذكر مع القلفة وبرجولته ناقصة ستلقي بعض مخايلها على بقية خبره المبثوث بين طيات تجارب أبيه وعميه ، فسرعان ما تتشعب انتظامات السرد فتتحكم إلى بنية التيه في اندفاع تنفلت فيه الكتابة نحو آفاق تخييلية تؤثثها تجارب ثلاث يرصد فيها الراوي استتباعات وصية الجد لأبنائه الثلاثة ، فبعد أن رباهم فأحسن تربيتهم وفقههم في علوم الدنيا والدين و قال لهم : هي الدنيا أمامكم فاختاروا من الطرق الأقرب إلى قلوبكم ( 1 ) . لقد أطلق الجد أبناءه يسيحون في أقطاب الأرض يملأونها فعلا. و أطلق الكاتب قصته في إنتاج المعنى عبر التخييل و استحال نصه إلى رحلة ثلاثية الأبعاد فمضى كل ابن في مساره يلتمس معنى يملأ به وجوده و يعتلي مدارج الحياة في وجد بالطريق الذي اختاره.
- رحلة خليفة أبي الشامات :
الشامة ( 2 ) : في لسان العرب علامة مخالفة لسائر اللون . ورجل مشيوم لا فغل له ، و الشيمة التراب يحفر في الأرض . هي ذي فسحة المعجم تسيء بخضوع فعل التسمية إلى استراتيجية دالة فاعلة في إبراز مقومات الشخصية و نحت ملامحها، فاعلية وظيفية تنفي الهذيان عن النص و تقيد منطوقه في قصدية سيميائية واعية . فخليفة الأول طالب المستقر في لجة الحب و قيود الوجدان يروي بصوته قصة اندساسه في قبر المجنونة صفية ، معشوقته ، يعود إليها بعد ثلاثين سنة و قد أدلته تباريح الهوى . و يقتحم عليها عتمتها فيلفي هناك في ظلمات الرمس لحما طريا سخنا ينام جنبه و قد بلغ المرام والمنية بعد أن أعياه الوجد طويلا ولم تسعفه زيجاته الكثيرة على إنضاء عشقه. فالعشق هو العلامة الفارقة التي صنعت اختلاف هذه الشخصية ، و الفشل في إدراكه يشيء بلا فاعلية خليفة الأول و انتهاء التجربة الأولى في الرواية، وهي وإن كانت منطقية التتابع سببية الانتظام في نشوئها و تناميها وخاتمتها كونا و استحالة ومأساة ، فهي في خطيتها النصية خاضعة لنمط من التشكيل السردي الذي تنخرم فيه وشائج الصلة بين زمن الحدث وزمن الخطاب و تتلون بين طياته أنساق سرعة السرد بين تعجيل وإبطاء ، فخبره يستهل بذكر شغفه بالنساء وزوجاته اللاتي يجددهن أربعا فأربعا مستهينا بأمر المرسوم الرئاسي الذي يحدد النكاح بواحدة لا يلتمس غيرها إلا بموت أو طلاق ، ثم يتوسل النص بالإضمار ellipse و يسرع إلى تصوير اقتحام أبي الشامات لمنزل المعشوقة و ما لقيه في سبيلها من معاناة انتهت بمشهد تعذيب بالغ التشفي ، و بالسجن الذي التهم عمره عقودا ثلاثة ارتد النص إلى إسقاطها مجددا في حثه الخطى نحو تصوير نهاية هذه الشخصية في قبر صفية يحرسها " إلى أن ينفخ في الصور " ( 3 ) . و الخبر تخترقه أصداء قصة الحفيد الراوي يجرب رجولته المثلومة على بعض إناث الحيوان أسوة بما سطره الجاحظ و ضمنه النص في أن " كل إناث الحيوان أطيب من النساء " ( 4 ) ، كما يتضمن عجيبة من عجائب الجد ، هذا الذي أجهز على وباء التيفويد بهراوة .
بالموت إذن ينتهي الكتاب الأول في الرواية و تبلغ رحلة أبي الشامات غايتها ، وبالعشق يملأ خليفة الأول مسلكه فكانت رحلته صورة من مصارع العشاق تؤثثها المغامرة المتجاوزة للحدود و يكللها الجنون الذي يستهين بمواضعات العقل و اصطلاحات المجتمع و سننه إذ يتصدى للناس " ينزع عن نفسه ورق التوت و يعرض سوأته على قارعة الطريق ... و لا يخجل " (5) يطلب المستقر في براث الهوس بالحب فلم ير لنفسه في حضنه مستقرا و يعد القلب صخرة نجاة بها يكسب وجوده المعنى ، ولكن القلب بدا أعجز من أن يهب الذات توازنها ، بل لقد ورطها في مسالك الوهم و مهاوي الزلل . و ينغلق الشباك الأول و الليل مازال في اغتلام أمواجه و العتمة لا تزحزحها شاردة ضوء واحدة .
- رحلة خليفة أبي اللعنات: اللعن ( 6 ) في اللسان الإبعاد والطرد و الرجل اللعين منتبذا عن الناس و اللعين المخزي الهالك و فلان يتلاعن علينا إذا كان يتماجن و لا يرتدع عن سوء و يفعل ما يستحق به اللعن.
تؤشر دلالة المعجم على المسار الذي وشم حركة هذه الشخصية بسمة فارقة، فكذا كان أبو اللعنات في المتن الحدثي للرواية مبعدا منبوذا طلب من المخازي ما جعله ذكرا و طبقت شهرته الآفاق في التماجن و اياء السوء فاستحق اللعن لبسه اسما وكلله رسما . من حيث انتهت قصة خليفة الأول انطلق خبر خليفة الثاني ، وتصدرت كتابة سابقة أجملت خبره و أومأت إلى جنس فعله و أرهصت بمآله، إذ يفتح الشباك الثاني في الرواية فإذا بخليفة هذا منكاح شأن أخيه فقد باع أملاك و أنفق حصاد بيعه في الزنى والزنى الشرعي ( 7 ) ، وساح إلى المدينة- المنجم حيث عادت لذعة الجنس تنخره من جديد فانتبذ عن الناس مكانا ملعونا في قعر المدينة يرتزق بآلة رجولته ، ثم يضيع خبره عبر الإضمار في ذاكرة التاريخ ثلاثين سنة و يعتلي صهوة ركح الأحداث من جديد طالبا نهاية رحلته ، أفضت به هالة التيه إلى أن آل إلى ضرب من الضياع الممض و التماجن الذي اخترق كل ضابط فصار كعبة القصاد من مختلف أجناس السياح يؤمونه من كل أوب وحدب للفرجة على آلته العجيبة إلى أن شنق نفسه في الغرفة التي يقيم فيها في نزل الأنترناسيونال ( 8 ) بعد لقاء عاصف بالحفيد. هذا منطوق النص الذي شغله أبو اللعنات و لكن رجعا لصدى حبره يتردد في بقية كتابه فغديره الذي أسن بحصاة الجنس و البوهيمية تتسع دوائر متعاقبة و تحكم قبضتها على الراوي ، و عدوى التماجن تنفعه في اللعنة . و يورطه النص – أو قل ربه الخالق في مشهد شذوذ صارخ في دلالته مع المصور الأمريكي – ( و التنصيص على كونه أمريكيا متوهج الدلالة ) قاطع عضو أبي اللعنات و سارقه و المهووس حد الجنون و حد انتهاك المقدس بكتاب الشيخ العارف أبي بكر النفزاوي . لعلها صورة أخرى لفحولة الشرق و أنوثة الغرب هذه التي تداولتها اللعبة السردية العربية منذ رواية " عصفور من الشرق " لتوفيق الحكيم حتى وإن كانت الرجولة هنا في دلالتها المادية و الحضارية في آن مجروحة مجذوعة مكبلة بقيود النقص و أوهام التقادر ، مسكون بزيف الاستطاعة و ميط الفاعلية .
الجنس يملأ فضاء الكتاب الثاني – بل لعله أكثر ما شغل به درغوثي هذه الرواية – و لذعة الجسد تبدو كما توحي بذلك تجربة خليفة الثاني لعنة لا يمكن أن تنجح فعلا خلافا ، أو تهب الذات الإنسانية الحائرة معنى تتصدى به لحكم الحياة و مداوراتها فهل يحقق الدين ذلك ؟
رحلة خليفة أبي البركات تسعفنا المقاربة المعجمية هاهنا أيضا بزخم من الإحالات المرجعية المحددة لطبيعة هذه الشخصية و الراسمة لملامحها الإطارية فالبركة ( 9 ) في لسان العرب التشريف و الكرامة ، من برك البعير إذا أناخ في موضعه فلزمه ... و كل شيء ثبت و أقام فقد برك ... وبرك البعير ألقى بركه على الأرض . و كل هذه المعاني لصيقة بالمسار الذي نهجه أبو البركات في الرواية . يستهل حديثه بإبراز وشائج الصلة المتينة بينه و بين أبيه صائم الدهر و سالك درب الآخرة درسا صلاة وتهجدا ، فهو خليفة في النعت والاسم لزمه و " برك " على آثار نهجه فاستأثر ببركته إذ قال له : لم يبق لي إلا أنت ، مبارك أنت وذريتك إلى يوم الدين ( 10 ) . و مضى ينفذ وصيته في حدب وإخلاص و اتخذ من الزاوية التي اختارها الأب مكانا لموته سكنا ، ألف بين قبائل القرية فصاهر أهلها و صار يشيع فيهم دعوته في العزوف عن الحياة والإعراض عن سبيل نعيمها الخادع . و جاء المريدون من كل مكان فأمعن في تثبيت نهجه فيهم ، أذرى أجهزة التلفزيون فجعلها حطاما حتى لا تتسرب الأعين منها إلى الحرمات . و منعهم من ارتياد الحمام سوق الشيطان ( 11 ) كما وسمه لأتباعه ، بل لقد حرم عليهم اللحم و نفرهم من طيبات الدنيا . و لكن سرعان ما سئمت منه شيعته و هجرته أزواجه إذ صدحت فيهم نوازع الدنيا و عجزوا عن نفض خرشائها عنهم فمضى يطلب موته فغي وحل السبخة العجيبة .
الشباك الثالث في الرواية إذن ينفتح بدوره على الموت و الغياب . وتجهض تجربة خليفة أبي البركات إذ بدت قاصرة على تحقيق المعادلة المستعصية بين الشاهد والغائب و بقي مرض الإحساس بانعدام الدور و فشل المسعى و خواء الوجود غيضا في وقعه . فالحياة تلفظ من يرفضها و التقوقع وراء قضبان الروحانيات لا يؤول بدوره إلا إلى فشل ذريع ، فلم يعد يسمح به إيقاع العصر و لا مجمل التغيرات الحادة الطارئة عليه .
تعددت الأسباب والموت واحد و اختلف الكنى و خليفة هنا هو خليفة هناك يمضي إلى مصيره المفجع و يطلب حتفه الداني و قد أفلست مسيرته و فقد أسانيد الانتماء إلى الحياة بعد أن وهنت روابطه بها فتضيق به سراديب القص و شرنقة السرد و يورطه نسيج الحكاية في التلاشي والاندحار .
إن إبراهيم درغوثي يقدم لنا شخصيات يحتويها الإحباط و يسكنها وهم الفعل فتتخبط في العدمية و لا قرار ، يوحد بينها الفشل الذريع و تجمعها خيبة المسعى و إفلاس المآل ، فلا القلب أسعف ببرد اليقين و لا الجنس أرست طوافته على مرمى الأمان و حتى الدين سرعان ما تلاشى وعده في وهده الضياع .
إننا لم نعد إزاء الشخصية الفاعلة الساعية لسد النقص و إعادة التوازن من خلال البطولة المطلقة . فقد تبخرت هذه البطولة و تشضت آيات هيمنتها و سطوتها و بدا العالم غائبا معتما لا يسمح بالفعل الناجز المكتمل . و لعله بسبب ذلك لا نجد في النص شخصية مركزية واحدة تتجمع حولها بؤرة الحدث و تهيمن على المسار السردي فتضطلع فيه بوظائف حاسمة. ولا نلفى أيضا استغراقا في تقصي الصفات و الأحوال إلا ما كان عاما يضيء التجربة و يحدد وجهة الرحلة أكثر مما يولع بالملامح المادية . معنى ذلك أن الفواعل الروائية إنما هي أفكار ومرايا ومواقف ، وهي إذ تتوحد جميعا في طلب الموت والسعي الحثيث إلى الانتحار فإنها تصدح باستحالة الفعل إذ ألزم نفسه بأحادية الموقف و احتكم إلى قيم ثابتة يباشر من خلالها الواقع ، أفلا يعني ذلك أن درغوثي يهجس بعمق ما يضج في ذواتنا من حيرة خانقة و نحن ندق عتبة آت عاصف مزلزل لدعائم ما وطنا أنفسنا عليه من قيم ؟ إن الإنسان الراهن و الهنا يقف على أرض لزجة متحركة دأبا زلزلت زلزالها و حدثت أخبارها و بددت بأثقالها الحادثة الأسس و الدعائم فابتلعتها و حتمت البحث عن تجديد للعلاقة بهذا الواقع . و في النص إرهاصات لهذا اللبوس الجديد الذي يمكن أن يقي من عري الفراغ و عصف الحيرة ، إنه لبوس خيوطه نبذ الجهود ونفي البركة و مراجعة الثوابت أو إعادة إنتاجها في صيغ و أشكال جديدة ، و ألوانه المعرفة تطل بنفاذ جهرها على كل الزوايا و تستبيح ما قد يذهب في الظنون إنه مكتسب ثابت فتضيء كل عتمة . عندها فقط يمكن مراجعة روابط التركيب الإضافي التي تصل في عنوان الرواية بين " الشبابيك " بكل ما تعنيه من حوارية و تسام إلى معانقة ألا محدود و " منتصف الليل " بثقل وطأة سديمه ، عندها ستحقق هذه الحوارية التي بقيت في الرواية وعدا مشروطا ، وتنفتح شبابيكها على السناء بغمرة ضوئه الدافق الباهر فتشرق الذات و يتحقق الطلق بعد طول تعص
مواقع الرؤية السردية :
تنعقد الرؤى السردية في مستوى الخطاب القصصي على التداخل و نلمس في الرواية نزاعا بين الضمائر و مستويات التبئير و مداورة بين الأصوات القصصية ، فالراوي – و هو الحفيد – ابن خليفة الأول أبي الشامات – فهو إذن متضمن في الحكاية – Narrateur Homodiégétique - ينهض بوظيفة سرد الأحداث و يحضر فيها باعتباره شخصية من شخصياتها مسهمة في أفعالها - Je narrant - ، و لكنه حضور ضعيف ثانوي إذ لا يعنى بتقديم تجربة أساسا و إنما هو معني أساسا بترصد تجارب جده و أبيه و عميه ، أما أفعاله فباهتة عابرة مبثوثة بين ثنايا الكتب الثلاثة و هو لذلك يبدو دون اسم أو قصة محددة ، بل إن هيمنته على الرؤية السردية ليست حاسمة أحادية فسرعان ما يسلم دفة القص إلى بقية الشخصيات تصدح بحديثها مباشرة إلى المروي إليه دون وساطة من الراوي الحفيد فيتحول المسرود عنه إلى سارد مباشر ، فهذا خليفة أبو الشامات يروي سعيه في طلب العشق و استهانته بالموت في سبيله ، يقول :" صارت أيامي معدودات ، و لم يبق لي إلا أن أترقب ملك الموت ، و أن أراقب الأبواب ، فلست أدري من وراء أي باب سوف يأتي ، لست أدري " ( 12 ) و كذا الأمر بالنسبة إلى الجد قاتل و باء " التيفوس " يستحيل بدوره إلى سارد مباشر يروي خبر تقصيه لملك الموت في تطوافه بين بيوت القرية يقول : " في الليلة الثانية ، بعد أن أغلقت باب السور لم أذهب إلى بيتي . أشعلت فانوسي و بقيت أترقب . رأيت صاحب الحمار يلبس وجه ملك الموت و يعمل المهماز في ظهر الحمار ."
( 13 ) فإيقاع المنظور السردي يبدو متعدد الزوايا متباين الرؤى ، بل أنه يتلبس أحيانا و يتقطع فيبدو غائما حد عسر تحديد السارد كما هو الشأن في الفصل الخامس من الرواية . و قد يغدو الراوي في بعض السياقات النصية ذا سلطة إلهية نافذة و و معرفة كلية متحكمة في المصائر مطلعة على السر و النجوى و الظاهر والباطن إذ يتقدم القص وتتنامى وحداته و لا قرينة لفظية تعلن عن وجود السارد ، وتحكي وقائع القصة نفسها بنفسها و لا راو ظاهر في نص الخطاب ، ففي الفصل الثالث و العشرين نقرأ انتهاك هذا الراوي الممعن في خفائه لسر الأسرار و نفاذه إلى لحضات نعاس الجد معلنا عن تلقيه لما كان ينتظر من بشارة الموت : " في تلك الليلة على غير عادته نام باكرا ، جاءه صاحبه بين اليقظة و النوم - قال له لن أمهلك لغد . سأقبض روحك هذه اليوم ، قبل طلوع الشمس ، قم الآن اركب الحصان و سر وراءه سيقودك إلى مرقدك الأخير "
( 14 ) هي رؤية من الخلف- Vision par derrière - تحيل الملفوظ القصصي إلى راو محتجب وراء ستار هو الراوي النبع الذي تصدر عنه أفعال الحكاية في حرص بالغ على التخفي ، وهو الخفاء الذي تنتهكه قرائن نصية عديدة من أكثرها وضوحا و جلاء تنضيد الرواية على ثلاث وعشرين فصلا و تعيين كل فصل بعنوان يرتفع في مستهله و ينتصب في فاتح فضاء التخييل فيه يؤشر على محتواه و يسميه
إن هذه الرؤى السردية المتشضية مظهر آخر من تجليات جمالية التيه في الرواية . فهي إذ تشتت زوايا الرصد و مواقع الرؤى إنما تعلن في همس عن تعصي الواقع و استحالة مباشرته بمنظار واحد ، واقع فقد التمييز و اختلكت فيه البدائل و الخيارات و استحال متاهة ملغزة تنهمر فيها المعوقات الحادة تجهض المسعى و تحاصر الفعل و تنخر الأسس و الدعائم لتحيل الأحلام و المطامح إلى أوهام كبيرة خادعة ، إنه الواقع الذي تترصده الرواية و تسلط عليه مرصد الاهتمام فتبرز عمق ما يخفيه من تشتت و لبس . و تنهض الكتابة في غمار هذه المفازة فعلا جامحا للاحتجاج على هذا الواقع الرديء و مجازا مرسلا يصدر من مواقع مختلفة و رؤى متعددة متباينة تنبه إلى المتاهة الهادرة في خطواتها الساعية إلى ابتلاع البلاد والعباد تماما كما وصفها هامش النص أو قل متنه على لسان " البكري " في مصنفه " المسالك و الممالك " و في بعض نعته لسبخة شط الجريد " لا تثبت عليها قدم و لا يسلكها أحد جاهل إلا غاص فيها لما لا قعر له " ( 15 ) . و لا عزاء لتأمين الذات من الغوص في هذا المجهول المتربص إلا في مضاعفة مجاهر المقاربة و تكثيف المنطلقات و تعبيد طرق جديدة مختلفة هي غير المسلك المسطور المعتاد و غير الطريق الواحدة الممجوجة .
إن الكتابة هنا شبابيك بالجمع الدال و الكثرة غير المحددة و بالتنكير الذي يطيح بكل وصاية و ينأى عن كل تحديد .
العجيب : الحوارية الممكنة / النص الماكر
للعجيب في الرواية شأن لافت للانتباه فهو يلف بردائه مختلف النص أحداثا و مرجعية زمنية و فضاء و شخوصا . إننا إزاء سمة أخرى من سمات تفكك الواقع و مزق مضامينه ، و هو تفكك لا يقوى المعقول النصي على التوليف بين عناصره ، ولعل هذا الشكل من أشكال حضور العجيب مظهر من مظاهر ما يميز الخطاب القصصي من مكر ، فهو إزاء إشكالية الواقع يناور بقناع العجيب و يخاتل بالمتخيل غير المألوف و لا المعتاد يجاور بينه و بين الإيهام بالوصف و المحاكاة . فمن أعجب العجب الإيحاء بأسطورية شخصية الجد من خلال ابراز آيات فضله و علامات بركته على القرية فهو الذي طهرها من وباء التيفوس الحاصد الذي صوره الخطاب في هذه الصورة " زارنا وباء التيفوس ، جاء راكبا على حمار قصير القوائم أجرب أغبر ( 16 ) ." و هي أسطورة عجائبية أورثها الجد لأبنائه الخلفاء في أشكال متباينة ، فهذا يفرط في الاستجابة لنوازع القلب و يسوقه داعي الهوى إلى الإندساس في ظلمات القبر . و ذاك يوهب آلة رجولة عجيبة يشقى بها و يشقي و يذيع صيتها ، و أكبرهم أعجب يعلم ما لا يعلمه الجاهلون و يستمرئ ظل أبيه و لحاف بركته حد إذواء الجسد و طلب الفناء في ملح السبخة .
و العجيب يخترق بنية غير قليل من الأحداث التي تبدو مفرطة في مد بساط التخييل حد افراخ الروع ، مما يمنحها وهجا كثيفا و عمقا مترامي المدى شأن جسد المجنونة صفية تموت منذ ثلاثة عقود و عندما يحفر عاشقها الموله أبو الشامات على قبرها يجد جسدها مازال ينبئ عن خفق الحياة كأنه أزجي توا في تراب الحفرة .و شأن قافلة الجن التي تعبر داموس الجبل في محفل عرس و تهمس جنية منها في أذن خليفة أبي اللعنات محذرة : " لا تعد مرة أخرى إلى هذا المكان أيها الإنسي فلو كان معنا رجال لأطعموا لحمك كلاب الجن " ( 17 )
و كذلك الأمر بالنسبة إلى تشكيل الزمن إذ تبدو وحداته عائمة ضبابية لا تثبت الوقائع الحدثية في حقبة تاريخية بعينها . فحديث خليفة الأول يستهل بتحديه السافر للنصوص الوضعية في فقه النكاح في إشارة واضحة إلى الحاضر الراهن " فقد حرم سيادة رئيس الجمهورية السابق المجاهد الأكبر فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة تعدد الزوجات في تونس بمرسوم رئاسي صادر بالرائد الرسمي و صادق عليه مجلس الأمة الموقر بإجماع أعضائه وباركته الدول المتقدمة و مجلس الأمن و الجمعية العامة للأمم المتحدة و صفق له المغفور له كمال أتاتورك في قبره " ( 18 ) . و لكننا نقرأ بعد حين ، بعد إيداع أبي الشامات السجن أن ابنه الراوي يلتحق " بجامع الزيتونة طالبا في حلقة سيدي و مولاي الحاج محمد بك الفكيني نفعنا الله بعلمه و بركته " ( 19 ) فإذا بالزمن يشهد ارتدادا بينا عقودا إلى الوراء ، إلى عصر التعليم الزيتوني التقليدي بالحاضرة ، فلا نعلم أي الحدثين هو سابق للآخر . إنه ضرب من التشكيل السردي الذي يتوسل بخلخلة المألوف المكرور ليبني لنفسه إنشائية مستحدثة تنساب جامحة إلى العدول و تشط في فنون التعجيب و تتناثر مكوناتها و مضامينها في كل الاتجاهات إذ يشحنها رافد الخيال بطاقة عاصفة من الإنعتاق عن أعراف المحاكاة و طرائق التنميط . بل إن هذا الإنعتاق تتسع مجالاته و آفاقه ليطال مسألة الجنس الأدبي . فالرواية تنفتح شبابيكها على نصوص تراثية عديدة تنفض عن أسفارها ما علقها من غبار النسيان ، تحاورها و تبني بها طقوسها الحكائية في تقاطع محكم عجيب بين النص الحادث و النص الوافد يذوب فيها هذا في ذاك فكأنه منه . إن الرواية بهذا التناص لا يستبد فيها صوت درغوثي الكاتب بل تمتحي جماليتها على حوارية خصيبة منتجة تتزاحم فيها النبرات هامسة طورا ناطقة صريحة طورا أخر ، تحتل من النص متنه حينا فتسهم في تأثيثه أو تتأخر إلى الهامش أحيانا ، نبرات الجاحظ في حيوانه و ابن الأثير في تاريخه و الشيخ النفزاوي في روضه العاطر و التيجاني في حلله السندسية و البكري في مسالكه و ممالكه ... أصوات كثيرة هي من عجائب التجنيس في " شبابيك منتصف الليل " و من مظاهر انفراط عقد النص نحو ضفاف جمالية التيه ، جمالية لا تستأثر بالقول ولا تستبد بالإفصاح بل تمتد شرايينها إلى تخوم الذاكرة و تتحين الفرصة لتمد لسانها سخرية و احتجاجا ، و هي أيضا جمالية لا تفصح بل تهمس و لا تعلن بل تهجس ، و لا تحاكم الواقع و لا تباشره بمقاربة معيارية أخلاقية بل تكتفي بإطلاق صرخة التحذير الأخيرة .
إن العجيب هنا تورية كبرى و استعارة تخييلية في عزف فقهاء البلاغة أو هو ضرب من التوجيه الدلالي الذي يدق ناقوس الخطر و يصنع عالما مغايرا بديلا محايثا لصفاقة اليومي و المعيش يزامن فيه المروي إليه بحث الكتابة القصصية الدائب عن لغة سردية لم تملكها أنماط القص الدارجة و لم تعرك وحداتها أيدي الكتاب ، و هي لغة تنأى عن إيقاعات الغريب ولتقترب و تعرى من خلال طقوس الأخيلة لتحتجب ، يظل هذا دأبها اتصالا وانفصالا .

المصادر:
* ابراهيم درغوثي : شبابيك منتصف الليل / ط 1 دار سحر تونس 1996
1 – الرواية ص 4
2 – الشامة : لسان العرب – دار صادر / بيروت الطبعة الأولى 1992 الجزء 12 ص 329
3 – الرواية ص 39
4 – الرواية ص 27
5 – الرواية ص 6
6 – لعن : لسان العرب ( نفسه ) الجزء 13 ص ص 387 – 389
7 – الرواية ص 41
8 – الرواية ص 62
9 – البركة : لسان العرب ( نفسه ) الجزء 10 ص ص 395 – 400
10 – الرواية ص 78
11 – الرواية ص 89
12 – الرواية ص 36
13 – الرواية ص 33
14 – الرواية ص 78
15 البكري : المسالك و الممالك و الحلل السندسية للتيجاني في : " ذكر شط الجريد "
16 الرواية ص 32
17 – الرواية ص 55
18 – الرواية ص 17
19 – الرواية ص 78 .


مفيد بركان / تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى