بسمة الشوالي - الميراث

إلى العراق

جلستْ.
جبين معصوب . ثياب مهملة . دم يجفّ على ندوب تحفّ الوجه.
الصِّبْية يتقافزون صخبا والطّاعمون يتناوبون على مآدب سخيّة . أطباق الأكل صنوان وغير صنوان يسعى بها قِرًى حثيث .
كانت مراسم الإطعام جاهزة ترصد خروج الرّوح من سكنها ، وكان أهله على أُهْبَةِ الفقد وتراب المقابر ينْمَل في نعالهم .
نساء باسِرات الوجوه مرهقات العيون يتحلّقن حولها ملتفعات بصمت خشن ، وقرآن يسترسل تلاوة من مسجّل يُوثِقُ الآذان بخشوع متين تتحوّل فيه وجهة البكاء إلى شفير القبر. لكنّ بعضا منهنّ يتهامسن ورجال آخرون هناك يتهامسون..
- مات مُتْخَما بالمنكر . شرب البارحة حتى اختنق ..
- مسكينة زوجه .. عياله صغار ..
- ماذا عسى يترك لهم نادل في مقهى من بعده ؟
رأسها منكّس يتأرجح على حبل السّهو ميمنة وميْسرة ، يتلقّف سقوطَه ذراعٌ ينغرز في فخِذٍ لو رأيته مُلِئتَ منه إشفاقا ووَلّى عنه بصرك مستنكرا.
كان مُزْرَقّا من لَطْمٍ وفاجعة ، وكنتَ مِمّن لم يُفجع في لذّة بموت فلا تجد لهذا الحزن الوحشيّ ذريعة.
كان اللّيل يزحف متلعثم الخطى متعثّرا في عباءته الصّوفيّة . وظلمته ما فتئت تغْسَق بردا وحزنا وقطعانا من الوحشة تتسلّل بين الأجسام المتكاتفة في غرف المنزل أو أرجائه المغطّاة ، فتنتعش الهموم في الوفرة وتتوحّد فيها الدّموع المتفرّقة على ميّت واحد.
هرجت المقاعد ، وتقارعت الصّحون. طعِم المعزّون شبَعا ترحُّما على الميّت ودعاء له، وانفضّ المتسوّلون مُتخمين سرورا وصدقات.
الموت حزن موارب ، له رائحة الفرح ولون الفرَج يَبْهَجُ بعد عسر . وفي شهقة البكاء قد يتسنّى للصّدر أن يزْفِر ضحكا، وقد يغيّر تاريخ مَجْراه..

لم ترفع خديجة رأسها عندما فلق صوتها غفوة العويل المتعَب . لم تكن تحدّث أحدا بعينه، ولا كانت هي تماما من يتحدّث . ذهول قاس يستبدّ بها فتبدو شفتاها شبه جامدتين كأنّ جنيّة بجوفها تنوب عنها في الحديث.
بصر فارغ ووجه قتِرٌ يزوّدان صوتها المبحوح بسطوة التّبليغ، ويقتنصان كلّ ذهن شارد.
رَسَتْ عليها الأبصار وشَخَصَ الفضول يُضْرِمُ الثّرثرة التّقيّة بشهوة الأسئلة..
حدّثت مُطْرِقة ، فاترة التّعابير:
" طُرِقَ الباب في جُنح الوَجَل المتحفّز. حامد في العاصمة !
خلفه، وقفتُ حيّزا من تردّد حشد المخاوف كلّها عند القفل وهتك دعة اللّيل فما أبقى منها سكينة ولا وَذرَ.
اِرْتجّ الباب وصدع جدارَ التردّد صوت متهدّم : " اِفتحي يا امرأة أنا حامد.. "
حامد ..؟ ماذا يعيده على أطراف الخلسة ليلا ؟
كأنّ الطّارق لم يدخل من فتحة الباب . فقد ولج الفناء بأسرع من ارتداد القلب الهلِع إلى مكانه. قفز على أسئلة الغياب الطّويل والعَوْدِ المريب إلى النّوم رأسا.
قال : " لا تسأليني التوَّ عن شيء .. ذريني أنام ولا تُعْلمي الأطفال بعودتي حتى أستفيق."
تَرَكْتُه يسْبُتُ منفردا في غرفة موصدة وألقيْتُ عَلَيّ دثار الهواجس وأنا أؤوب إلى مرقدي جوار الصّغار .
أكان شاحبا فعلا أم اصفرّ الضّوء المُبَاغَتُ في عينيّ ؟
كان وجهه كظيما مَغْزُوًّا بالسّواد كمن يغادر الرّهان مُثْخنا بالهزيمة ..
ماذا عسى يحدث لرجل يلبس الجرائد نوما ويقتات بالأخبار في معاشه ؟ قلبي أبصر من ليلة حسيرة كتلك .. كنت أعلم أنّ السّفر دودة ما فتئت تدغدغ قدميه .. من تتحرّش به الذّاكرة لا يلبث أن يسقط في غواية الحنين..
بَعُد ذلك الصّبح حتى كأنّ اللّيل جلاميد همّ تنكسر عندها حراب الضّوء المسنونة..
اِستفاق مسكونا بالحرب . كان يراهن على موته . يُجْلِسني إليه ، يحدّثني بما نسيتُ من صهيل الدّم العربيّ في رقاع التّاريخ .. يقول:"بابل لا تكرّر حدائقها مرّتين ودجلة لا يلْتاثُ بلعابٍ مسعور في كلّ مرّة .. الحرب في العراق لن تقوم.. "
كم فاجأته يحزم قرار السّفر إلى العراق فأحتال عليه بالكذب ونوبات الرّبو تؤزّ ابننا البكر كلّ ليلة .
أصيب بجنون الأخبار.. اِهتاج أيّاما.. اِحتضر أيّاما.. ومات بغتة .
الموت لا ينازل الحياة مواجهة، يطعَنُها دوما في غفلتها . يُلهينا بالأمل فيبدو الغمام المسافر في الجدب سحبا ماطرة . ويزيّن لنا انتظار الفاكهة حتى لا يكون مَقدَمُه إلاّ قهرا ..
مات حين انقطعنا عن انتظار موته .. فجأة اتّصل هدوء كان متقطّعا ، فترَتْ حمرة الشرّ في عينيه ، سكنت حمّى الخوف ، اطمأنّت النّفس المتوحّشةُ عداءً لِسَلام النّوْم .. تفرّق عنه أهله ..
نمتُ فمات .
لم يشأ أن يجهر بالرّحيل . كأنّ به ندمَ من تجاوزه الاعتذار بزمن من اللاّمبالاة.
مات بحجم الخيبة التي شهقت في نفسه ذات هزيمة .. يوم شبّت الحرب..
مات هازئا بصبرنا الضّعيف ..
مات حامد ..
قبل ساعات قليلة، بعيْد العصر، راودني النّعاس وأغراني بنسيانه . خلعتُ عنّي أيّاما من ترقّب الموت وَسْوَسَة ورقدتُ جواره .. ما الذي حملني على النّوم عصرا ؟
أين الصّغير حسن ؟ نام جوعان . لهف قلبي على الأيتام .. من لهم إثرك يا حامد .. ويلي من بعدك يا حامد .. يا رجلا ليس كمثله الرّجال .. يا.. "
تنزّلت الكلمات في مطافئ الذّاكرة جمرات حامية نفخت الشّرر في رميم الحرائق القديمة، فإذا الهدوء الرّاكد زلزلة نُواح ورعود مصوّتة وأيد تهوي على الأفخاذ كأنّها السّياط الهوجاء.. وإذا السّابقون بالموت ينسِلون من أجداث الأحزان ويمشون عراة في موكب ميّت جديد فتشيّعهم النّسوة بالنّواح كما في أوج الفقد..
اِستشرى البكاء بين النّساء تجمعهنّ مائدة الحزن المستديرة حول امرأة حامد ، فيتطارحن الأحزان، ويتطاولن في العويل، وينشُرْن فجائعهنّ ، وتنشرح صدورُ بعضهنّ للبوح الجسديّ في شطحات جنونيّة لا تني إلاّ إغماء..
" الله أكبر .. الله أكبر .. اُكْفُفْن عن النّدب والعويل فذلك حرام.. "
ولج المقرؤون غرفة يسجو بها الميّت . تحلّقوا شبه استدارة . بعضهم تربّع . ثنى آخر ركبتيْه. سعل أحدهم باصقا في منديله وأَعْلوْا حمحمة بدء القراءة .
جنحت النّفوس إلى الصّمت يَقِبُ رهبة على الألسن فتُذْعِن . الهامات عناقيد مثقلة تتدلّى والجذوع رقّاص ساعة ضلّ سكّة الأرقام واتّخذ من أصوات المقرئين زمنا آخر لحركة الوعي الرّتيبة.
وحدها الأطباق تتحرّك خارج إيقاع القراءة. تثير الحواسّ ببريقها وتُقَارِعُها بما تحمله في كلّ جولة . تخطر بين النّاس في ذروة الفتنة وبهجة الملذّات . تلاحقها الأعين أينما حلّت ، ترتشف كؤوسها ، تلتهم ما عليها من أكل ومشروب ونقوش مطرّزة بالذّهب أو الفضّة أو ما كان على رَحِم بهما .
الأطباق نساء محتجِبات في أكمام الأدراج، لا يُبْدين زينتهنّ إلاّ في المناسبات الصّاخبة.
في حدث كالموت، حين يسوس الفَقْد الموجع المشاعر، وتسيل لروائح الأطعمة المسافرة في فراغ البطون مرارة معتّقة في الحُلوق، تنوب الأطباق عن نساء الفقيد في التبرّج . تخرج من المخابئ السريّة في غنج بكر ، تميس بين الحاضرات بكؤوس الشّاي البذخة، تغدو وتروح على المقرئين ومن يصاحبهم من الرّجال في غرفة الميّت بفتنة الألوان المحلاّة والأواني الثمينة وتجرّ خلفها في كلّ غدوّ ورواح أسرابا من العيون المغلولة بكثافة الفضول وغريزة القنص، متلصّصة على الأدراج الدّاخليّة للبيوت ، مقدّرة حجم ثرائها أو بؤسها في طبق .
إنّها شهوة النّساء في التحرّش بالحسد السريّ والغيرة المتّقدة تحت ثوب بعض الحاضرات الزّاهدات في الدّنيا المتذرّعات بالحياة الفانية..

اِصطفّت أصوات المقرئين في طبقة صوتيّة واحدة لا تنحو قرارا ولا جوابا، يتْلُون سورة " يَسِ " أو يسبّحون بنغم فريد للقراءة والتّسبيح تختصّ به مناسبة الموت.
يسري الخشوع كالخدر في الدّماء . ترتخي النّفوس شيئا فشيئا . تستسلم لنشوة صوفيّة لذيذة الدّبيب يتزّين فيها الغياب للشّعور فيُغْرى به وينساق إليه شدَها.. وتنخرط الجذوع المحمولة على رُكب مثنيّة أو متربّعة في رقصة هادئة النّفس ، رصينة النّسق ، تذرع الفضاء حركة نواسيّة رتيبة..
يوم مشهود يُبَشَّر فيه مقرئ بالموت في زمن تمنّع فيه الرّزق وغُلّتْ أبوابه. تراه يبشّر صحْبه بالنّعي فيَفِضُون عَجِلين إلى أهل الفقيد :عيونا ضاحكة ، وجوها ناضرة ، وثيابا حُلُّوها عطرة النّصوع. فيَطْعَمون ويُؤْجرون جزاء تراث التُّقى والبركة الذي يحملون .
يا لها من تجارة تكْسُد بالحياة وتثْرى على فُوّهََةِ القبور المفتوحة..
دخلت "الدّنيا" غرفة الرّجال بألوان الأطعمة على الأطباق فتراخت سريعا قبضة الآخرة على النّفوس وفترت موعظة الموت. اِنقطعت القراءة .. اِنقطعت الأجسام عن حركة كانت تبدو قسريّة . خرجت الرّهبة من القلوب تتأبّط الخشوع وتركت المعزّين في شغل فاكهين..

غفتْ أرملة حامد سَهْوًا واستفاقت فاجعة. كأنّما الأرض تلد زلزالها.. كلّ ما عليها منتفض ولم يبق مبهوتا إلاّها.
السّيقان تلتفّ بالسّيقان وتُساق إلى بعثرة خارج المنزل. المقرؤون يتلعثمون في جُبَبِهم يكاد بعضهم ينطفئ رَوْعا . النّساء مُوَلوِلات كمن يستقبلن جثمانا يعود مكفّنا بالغربة إلى رمسه. الأطفال باكون، مشرّدون في أرجاء كانت لهم ملاعب. العجائز مديسات كالخرق المنسيّة .. كلّ إلى سقف السّماء يأوُون ..
حُمِلت خديجة على الفزع الجماعيّ إلى العراء المزمهر . لذع البرد ندوب وجهها فشاكت واستعاد اللّحم ذاكرة الأظافر المفجوعة.
- منذ متى والسّماء تتفجّع ؟
نظرت بين شروخ الظّلمة تفلقها البروق السّائطة فإذا البصر يرتدّ قفْقَفَة : قمر بين البزوغ الشّريد والأفول ، قِطع السّحاب تتنادى كفُلُولِ الرّدى المتحفّز للنّزال. وجوه شاخصة يُرْهِقها الشّحوب لا يرتدّ إليها طرْفُها. الصّدور فراغ ينْعَق..
- أي هوْل تنزّل ؟
لحظة السّؤال كانت ردْحا من الظّنون تتناسل في عدم الفهم وتينع في الصّمت المريب..
- اِستفاق .. اِستفاق ..
- من المستفيق دمدمة ؟
- الله أكبر.. " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ " .. الله أكبر .. روح مَشْقِيّة في الدّنيا شقيّة بالآخرة .. اللّهمّ خفِّف عنّا عذاب القبر.." قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ.." أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ..
- أيّ خطب حلّ أيّها النّاس بحقّ هذه التّوبة المستفيضة ؟
النّاس عنها في قارعة يرجفون.
نفضت وهَنًا أثقل مفاصلها وخفّت للأجوبة فأفْحمها صراخ حادّ كأنّه خلاصة العذابات في الأغوار السّحيقة ..
- اِستفاق ؟ .. حامد اِستفاق من موته ؟
سَهَتْ هنيهة. ضحكت بَلهًا .. صوّتت زغردة .. تهاوت مصعوقة ..
- نمتُ فمات حامد ، نمتُ فحَيِيَ حامد .. أولادي .. أين أولادي ..؟ أأحياء بعدُ يرزقون؟ كم مرّة ماتوا في نومي؟
أفْزَعَتْ من حَضَرَ ضحكا كأنّه العَتهُ الجموح .. أوْجَعَتْ بكاء كالمُدَى يهوي على القلوب .. صمتت وقارا مريبا .. نطقت حكمة مشبوهة : " تماسك يا قلب ولا تقع في الخذلان .. هذا ليس أوان الإغماء.. أولادي .. أين أولادي ؟ "
شردت تبحث عنهم . اِستوقفها حامد يجهر في صلاته والنّاس حوله متفرّقون يتجاذبهم الفضول والهلع ممّا يَرَوْن ، فلا هم منصرفون عنه ولا هم مقبلون عليه لتهدئته .
سِيقتْ امرأته إليه بجزع اللّباس يُشْفِق على لابسه العاري .. لكنّ احمرارا بعيْنيْه وزَوْغا أوْثقاها بالخوف . ما كان وَجْهَه الذي ترى . بعض ليل لحَدَ سبيل النّور ومغاوِر خوف هي حواسّه .
قام حامد عن الصّلاة وكانت سجودا ولا قيام، كلاما مبعثرا ولا تسبيح . واستوى بغتة حركة، اضطرابا ، هياجا غير ذي عقل وصوتا يَؤُدّ الوقوف أدّا .. "ألا انْسِلوا يا بشرا يَغُطّون نوما من مراقد الغفلة وانتبهوا إنّي لكم من الواعظين.. اِنفروا ألاّ تدكّ رؤوسكم .. الدبّابات .. الطّائرت تهدّم بيتي .. أهلي تحت الرِّدم.. اِبنتي.. اِبنتي.. الله الرّحمان الرّحيم الملك.. الغَوْثُ.. النّجدة .. إنّهم قادمون.. الله جبّار الغضب .. قعُوا أيّها النّاس تائبين .. حجر من لهب منضود يتساقط .. سبحان الله عمّا يصفون .. الملك القدّوس السّلام .. الموت آت.. الموت آت في علب.. لا تفتحوا العلب .. اُدْعوا الله الرّحمة .. الله الرّحمان الرّحيم الجبّار .. "
وانفلت يجري على غير صواب فلحقه بعض النّاس واستردّوه عسرا . صار بقوّة شديدة وعناد صخريّ . يصيح فينخلعون . يجثو صلاة فيقفون عند مسقطه . يحاولون فشلا تهدئة روعه فيُسْلِمون ..
ضحك مشاهدون ، لمزوا ، همزوا ، تخِمُوا مُلحًا. بسَرَتْ وجوه ووجوه امّحت شحوبا. فئة اطمأنّت لِعِلّة الجنون واستباحت لنفسها اغتياب الرّجل ملء حضوره:
- حتى وهو على شفا القبر يتحدّث في السّياسة . أحسبه سيطرد الأمريكان من العراق بهذا الجنون ..
- هراء ما يفعل ومحض هرج.. لو دُعِي للحرب لولّى هاربا.. قول يُتلى ولا فعلَ يُؤتى .. كذلك نحن دوما ..
- علمت أنّه ترك عمله بالعاصمة بسبب أزمة الخليج .
- بل طُرِدَ. لا يجوز للنّادل أن يتحدّث فيما يزيد عن ألوان القهوة وعدد المقاعد الشّاغرة ..
- لا رادّ لقضاءٍ نسأل الله اللّطف فيه. ماذا تملك أيْماننا لإخواننا هناك ؟ لهم الصّبر على ما يَلْقَوْن ..
البعض اقشعرّ خشية من عذاب القبر . نسوة باكيات. أمّي مريم تجول على مبعدة من "المِسْتَدْرِجْ " بالبخور تتمتم بتمائم قالت إنها تدحر الجنّ والشّياطين .
المقرؤون .. ؟ أين المقرؤون ؟
أخذوا أجرة عملهم ودعوا للميّت بطول العمر ثمّ انفضّوا سراعا إلى ديارهم . لا شأن لهم مع الحياة ..
وحامد ؟
بعْدُ ، يبلبل النّاس بفوضى الحركة وقعقعة الكلمات ..
" صه .. أصيخوا الأفئدة وأنطقوا عيونكم بالحقّ .. أترونه ذلك الخرير عند سيولكم ، إنّه الخراب يترعرع فيكم ولأنتم تسقونه وتزيدون .. القيامة.. الحرب.. الحرب قطعة من الجحيم كلّما ألقيت فيها مدن سأل خزنتها هل من مزيد .. سبحان الله والحمد لله .. يلوّح زبانيتها بالمطارق ويتحيّنون الغافلين .. ولا إله إلاّ الله .. الله أكبر .. المدن تتساقط كِسَفا والشّوارع يحصدها الدّمار.. يا إخوتي احموا الشّوارع الباقية .. كفكفوا دمها .. لا تذهبوا إلى الموت بأخفاف المدن وقلامة التّاريخ .. الله أكبر . ربّنا اغفر ذنوبنا . ربّنا لا تؤاخذ صغارنا بذنوب المُعْجَزين .. الرّحمة .. " يَسِ * والقُرْآنِ الحَكِيمِ "
هدرت السّماء كالمستجيبة وعصفت الرّعدة بمفاصله . اِصطكّت شديدا . زمَّلوه. بعد هدأة نزع الدّثار وسقط يُصَلّي سجودا غير ذي قبلة ولا رفع . أطال الدّعاء وأمعن في السّامعين تجريحا وإبْكاءً وتعْرِية لأسرار القبور ..
صار النّاس كتلا جامدة كأنّهم رمل مرصوص . لا يَنبسون بحركة ولا يعتري أقدامهم حفيف . كأنّ عددهم قد تضاعف وصار حشدا يتدافع .. وزوجه تلاحقه بأقراص الدّواء وكوب الماء، يدفعها أرضا كَشَرٍّ ينال منه فتعاود الرّجاء.. حتى نال منه الإجهاد فأوقعه باليا يرجف بردا وينزف عرقا..
قضى حامد سبعا من الأيّام في نَسْيٍ من الذّكر ولمّا ترجّل الثّامنُ حتى أطراف الضّحى خرج المنادي في النّاس:
" يا أهل البرّ والتّقوى انتقل إلى رحمة ربّه حامد "المِسْتدْرِجْ "* غروب الأمس والدّفن عصر اليوم.. أيّها النّاس " أسرعوا بجنائزكم فإنّما هو خير تقدّمونه له أو شرّ تضعونه عن رقابكم".. يا أهل البرّ والتّقوى .. "
* المستدرج أو المستلبس : كلمة في العاميّة تطلق على من يحيى بعد غيبوبة كالموت .
اِنسلّت الأقدام من كلّ فجّ عميق تتسابق في حمل الجثمان. بلغ حامد من الصّيت بالموت ما لم يبلغه بالحياة. لكنّ الدّفن أولى عتبات النّسيان، فعلى وقع الخطى المنسحبة تبدأ الحياة في حياكة أعذاره وتبرئة الضّحك المتفجّر ليلتها من تهمة النّكران.
عند المساء خفّ إلى منزل المرحوم المقرؤون والمعزّون والطّاعمون صدقة على روح الميّت والمتسوّلون بأكفّهم المبسوطة شَرَهًا .
وجدوا وفاض الموائد خاليا وصدور الجدران خاوية : لا بُسُط ، لا نمارق ، لاحشايا مبسوطة للجالسين.
هي قالت : " لا عزاء بعد الدّفن . لم يبق بالجيب غير قوت العيال لأيّام قادمة."
هم سخطوا : "زوجة جاحدة ظِلّ العشير ولم يَخْْبُ نبض الرّوح تحت التّراب . أكلتْ رزقه حيّا وشحّت عليه بالصّدقة ميّتا ."
وهم أيضا من انسحب بغير مواساة . كأنّ الحزن لا يُرى إلاّ في مراسمه المعلنة.
وليس منهم من يدري أكان ذروة الحزن أن تنفجر السّماء بعدئذ رعودا وبروقا ودِلاءً أم هو الموت بعكس الحياة إذا سكب الماء خلف سفر الأموات محا الطّرق التي تنتظر عودتهم .
اِستعادت خديجة فلذاتها من بيت الجيران . غلّقت الأقفال . كان يجب أن تستر هدوءها المفاجئ إثر دفنه. لا عتب إن لم تبكه. قد يكون الموت أيضا نهاية سعيدة، شكل راحة تنبسط بعد شقاء، وزغب أمل يينع غِبّ جدب ..
أيّام مرّت سبعا دولا والعذاب فيها سجال. يُولِجُ الأسى اللّيلَ في النّهار ويولج النّهارَ في اللّيل أسى جديد ..
الحرب تدور هناك على ضفاف الفرات والدّمار في منزل حامد : سُكْرٌ وصراخ وعويل وهدم وتحطيم وندم زعاف يشطر الوعي : فبعض عالق بعشق السّماء صلاة وتسبيحا ودعاءَ خَطّاءٍ يتوب وبعض إلى دَرَكِ الجنون نازل ..
يسافر حامد في حقيبة مرّات في اليوم . يعرج إلى أرض الحنين على جَملٍ ولمّا يأتيه خبر الفناء في جريدة يفزع عائدا إلى عياله وشِيَعٌ فيه تقتتل..
كان وعيا غافيا فاجأه الصّحو بصفعة .. وطنا آخر سقط محتلا . وطنا آخر أهله مشرّدون ..
خديجة وحيدة هذه اللّيلة . الغاسق ساجٍ ، يغفو على جوانبه أرق ليال سابقات .
هرول الغد نابشا في تفاصيل التّركة: صبية أربعة . فوضى امرأة عزلاء ، لا زاد بالجِرَار ولا حِرَفَ باليدين . موتان لأب واحد . ليلة يُتم أولى . ضياع باسِط مباهجه بالوصيد ..
تضاءلت الحياة في عيون أطفالها خوفا من البكاء وسَوْرَة حزن أشدّ عليهم من النّوم على الطّوى ليلة اليتم الأولى . فلتجْمَعْهم بالخرافة كفعل أمّها أو جدّتها إذا سألوا عن أب حَيّ لا يؤوب ، أب راح يضرب في الأرض سعيا وراء عروس ما بعد البحار.
لن تعرف النّار حتى تحْفِنَ الجمر.. ولن تجد أكثر الآباء إلاّ خارجا، فكلّما فرغوا من شأن أُغْوُوا بآخر، فهم في الغياب رُحّل لا يستقرّون.
"اُدْنوا أحبّائي أحكي لكم حكاية من خرافات جدّتكم. "
تحمّس الصّغار، تدانَوْا اِلْتصاقا بأمّهم والْتزموا الإصغاء .
قالت :
" يا سادَهْ يا مادَهْ يِدِلْنا وِيدِلْكُمْ للشْهَادَه .. بِيتْنا حْريرْ وبِيتْكُم كِتّانْ وبِيتْ العْدُوْ مَجْمَعْ الفِيرانْ .. وكانْ يا ما كانْ عْلِي وِلْدِ السّلطانْ ماتْ بُوهْ ومَا خَلاّ مْنِ السّلطانْ كانْ عْدَدْ مِلِخْيُولْ . تاقِتْ نَفْسْ عْلِي للوَرْثَه وحَنْ لِلجاهْ وِلْهيْلَمانْ وما لْقَى في هاكْ لِخْيولُ ما يَخْتارْ ..
قال : " يامِّي وِينُو إرْثِ السّلْطانْ ؟"
قالت : "يا وْلِيدي بوكْ ضَيّعْ المَجْدْ والسُّلطانْ وما بْقَى عِنْدي كان حْصانْ جدِّك اِلْمِنْسي شُوفُو يُمْكِنْ يِعْجْبِكْ . وِرْثوُ بُوكْ عْلَى بُوهْ وِْنساهْ من هاكْ النْهَارْ.. خوذْ حْصانْ جَدّك يا وْليِدي والسّعدْ ما تِدْرِيه في سْبولَهْ وِلاَّ في قُنْطارْ.. "
وِخْذَاهْ عْلِي مَهْمُومْ ومِحْتارْ وُمَا كانْ يِدْري إلِّي حْصانْ جَدُّو المِنْسِي هو إلِّي باشْ يَرجْعُو سُلْْطان في يُومْ مِِلْيّامْ .. و .. " *
نام الصّبية . لم يعد للخرافة داع . الواقع سيّد الحكايات .
هل نحن نبكي الأموات بكاءنا للأحياء الذين بقَوْا من بعده ..؟ بكاءنا لما خسرناه بموتهم.. ؟ عندما يحضر " شَهْرَ واقِعْ " يسكت الحزن عن الحديث العاطفيّ ويغيّر قبلة الدّمع حيث الأحياء..
يحدّث "شَهْرَ وَجَعْ " عن " شَهْرَ واقعْ" عن أرملةٍ يقول:
حامد مات ولا فجوة للرّجوع . الحرب تتسلّى في العراق ولا بارقة انقطاع .. أنا؟ أرامل عددا لرجل واحد يحترفن الحزن وغزل الذّكريات ليلا ويقتتلن نهارا من أجل ذكرى اللّيلة الأخيرة ؟
- لمن كانت ليلته الأخيرة ؟
- للقبو..
- وأنا وريثة القبو : شِقْف الزّجاج المكسور ، أصداء الصّراخ والهياج معلّقة بالسّقف كالخفافيش المذعورة ، رُزم الجرائد ، صور مطعونة بالسّواد ، حرائق المعلّقات ، سيرة حلم كبير بلا حدود، أخبار مضرّجة.. أخبار مقطّعة الأوصال.. وأطفال جياع بلا عائل: أربعة خامسهم "سيأتي بعد صيف" أكنتَ يا
* خرافة شعبيّة.
حامد تُعِدُّني على مقاس قصيدة ..؟ تُلهيني بإنجاب الذّكور وتَعِدُني بطفلة تكون أجمل منّي وأنت تضمر غدرا أنّها ستكون في حُسْن مَهَاكَ ..؟
يا للملهاة العربيّة..
اليتم يتناسل في القصائد والقوافي تحتفل صخبا بتدشين شارع جديد للاّجئين يفتتحه خمسُ ضُيَّع أُخَر..
بل قبل ذلك.. قبل ذلك بكثير يا حامد نُذِرتُ أنا وأطفالي للأرصفة : يوم بُشّر أبي بأنثى بدل صبيّ ، قمّطني في أحلامه ونذَرَني لاسم مثقل بالعبر والقرابين . كان وحده ، حتى اختفائه ، يخترق عادات النّداء ويدعوني "خَديجَه " بمجد التّاريخ الفصيح وهفهفة الظّلال عند مضارب الخيام البدويّة ، ويترك للنّاس اسمي الثاني "اِخْدِيجَه " . من بعده ، ظلّت جدّتي تُلْهينا بخرافة "عْلِي وِلْدِ السُّلْطَانْ" وحصان جدّه الخارق الذي سيعيد مجد الأب الضّائع يوم يُنفض عنه غبار النّسيان ..
ماتت الجدّة فحفظت الأمّ "الحصان" بالتذكار. مات حامد فهرولت الحفيدة تفتح اصطبل الذّاكرة..
كم جيلا تناوب على حفظ الصّهيل من العَقْر..؟
أبعد هذا اللّهاث العسير تنطفئ الشّعلة على مرمى خريطة ؟
قامت خديجة عن الذّكرى والصّمتُ المغلول يضرم الحرائق في صدرها ويفتح المقابر للنّدم يسوق الجنائز تلو الجنائز.
قصدت القبو. لم يعد منخفض أرض يحفظ تراث العائلة من الفساد ويصون تاريخ الأشياء من التّلف. إنّه بئر غائرة الظّلمة تحتضن صبيّا أفرده إخوته للهلاك وتبارَوْا في رثائه عند عكاظ.
نزلته. كان مُضاءً بعتاب موحش، وكانت تنزل إليه بخجل حضارة تعود أدراج التاريخ بعد سفر طويل ضيّعت خلاله كلّ المدن التي وهبها إيّاها.
بقايا حامد كالأشباح تهيم يأسا . وصوته أنين يدوّم.
وقفت وجها لوجه العتاب القاسي:
- موت حامد ليس وجعا وحسب، إنّه حساب الوجع العسير لك يا امرأة غفلت عن عذاب زوجها المكتوم سنينا طويلة..
- ولكنّي لم أعد امرأة الشّعارات المخضّبة بثورة الشّباب مذ تزوّجتُ وأنجبتُ ولا ظننت أنّ للنّادل في مقهى شوارعُ للرّكض غير التي تؤدّي لجيوب الزّبائن ..
- بل هو الأكثر عرضة لفخاخ المبادئ الكبيرة وأحابيل الأفكار الجميلة تنصبها جريدة منسيّة على الطّاولة ، أو حلقةُ قلق بين زبائن يتناقشون ، أو أخبارٌ يرويها عائد من أرض مهزومة..
- أكان إذا يُعْرِض عنّي اللّيالي ليعانق عجائز أحلام شاخت أبكارا؟
- ويُحْلِم النّفس أيضا بخريطة كبيرة بلا برازخ ، ونهر واحد يدفق من الوريد إلى الوريد ، وناقة الله السّائبة تقيل بنَجْدٍ وتمسي بطَنْجَة ولا صكّ عبور.
- وأنا في غفلة عنه..؟ أعدّ لذائذ الأطعمة ، وأحتفل بأعياد الميلاد ، وأتبرّج كأجمل النساء..؟ ما كنت إذن أزوّده بغير الأفول حين كنت أزوّد حواسّه بعطري وأملأ عينيه بوجهي وأحمّله صُررا ثقلى من الوصايا عند كلّ سفر ..
هل كان يجب أن يموت لأعذره؟
عد يا حامد ولك من الأعذار ما يردم بئرا عقيما محفورة فيك .. عُد تجدني كما حلمت سيرة مجد لا ينضب ووعود نصر لا تكذب ويمامة لا تجنح لِسِلْمٍ مُسْتورد..
اِنهمرت أولى الدّموع بعد الدّفن بكاء وقورا لا لَطْمَ فيه ولا جروح ، وغصّة مقتضبة يغالبها كبرياء امرأة أخذها عن عادات النّساء في الحزن ترفّع جديد وثورة قديمة.
نظرت حولها فإذا المكان غِيرانٌ من الشّوق انفجرت عن ألوان من الجوع تقتتل على الفريسة الأولى.. كلّ موطئ قدم إلى الأمام يوقع القلب في شرك من النّدم المفغور.. هنا أصداء حنجرة مخمورة الحبال تتلوّى غناء أو بكاء أو شتما.. على مرمى كأس أشلاء سجائر لم تأخذ نصيبها الأوفر من الموت فهي أنصاف وأرباع ومزق متفرّقة أو جثث تامّة الأعضاء ماتت مدهوسة العنق .. وهناك جرائده تفوح موتا من الزّوايا ومنبره أعلى صندوق التّراث العائليّ يعتليه عند اللّيل فيُعِدّ لها ممّا يترقرق في قواريره الخُطَبَ الغرّاء.. عَلِق بالأذن آخر ما قال كأنّه مراسم التّوديع تأبى إلاّ أن تسفك بياض المناديل بحبّ لهفته ناصعة الشّفرة:
".. اِقتربي يا زوجتي منّي أسرّ لك بأمر ولا تغضبي. لا تفزعي منّي.. اِقتربي قليلا. أتعلمين أنّ لي في العراق أهلا : صحبا وأجوارا وعائلة ومنزلا..(يخفض صوته إذ يُدنيها مناجيا فترزح أنينا تحت قبضته القويّة ) ولي هناك امرأة كليْلى حسنا أوصيتها أن تنجب لي طفلة بعيون المَهَا . (يزدجرها عنفا مباغتا ولا تدعها قبضته) أنت محتالة مخادعة ، نصبت لي فخّ الحبّ فأعشيْت ذاكرتي .. (يسحبها ثانية إليه بشدّة .) أيّ ميّت مرّرتْ أمّي مريم يدَه على طبق الكسكسي الذي حملتِه لي تلك اللّيلة ؟* اِعترفي .. الآن فقط سقط عنّي مفعول السّحر. ويل لكما منّي غدا .. ثمّ .. (يشهق ، يتجشّأ طويلا ، يدلق القارورة في فمه فتقرقر حنجرته ثمّ يعاود الكلام صوتا متقطّعا ) ثمّ .. اِحتلتِ .. عليّ ثانية بصبيٍّ قلت إنّه.. يشبهني كثيرا فأنساني المَهَا والرّصافة وال.. جسْ..ررر .. طفلتي هناك .. تموت .. أنا الآن أثكل أو.. بعد نوم أصير كذلك .. لا..لن أذهب للنّوم. لست متعبا. لن أنام مجدّدا.. وبعد موت ابنتي أو قبلها مات أهلي كلّهم (ينفجر بكاء تردّده جوانب القبو نواحا يصمّ السّمع وتتخلّص هي من
* طريقة شعبيّة يعتقد فيها القدرة على جعل الزّوج يتعلّق بزوجته ويطيعها تماما.
قبضته وتنزوي بعيدا عنه محتمية بصمتها الجداريّ ) ألا تبكين طفلتي؟ (تجيبه بدمع ذلول يبتلع غضبه ويواريها عن الوهج الأحمر بعينيه) لن تعرفي بكاء الأرامل حتى تترمّلي ولا حزن الثكالى حتى تثكلي .. هلمّي .. سأفعل بك ما يُفعل بهنّ و.. أُثكل نفسي ثانية على مرأى من فحولة زائفة .. لا .. لا تمْ.. نَعيني من السّفر إليهم .. ستريْن ما .. ما .. أنا فاعل بهم أولئك الأمْم.. ريكان ال .." يختنق نوْبة أخرى ، يشتدّ عليه السّعال ، يغصّ في جرعة يزدردها على عجل ، يشهق شهيقا قائظا ، يتجشّأ ..
لم يعد مصدر خشية . صار كيسا جلديا يلفّ عظاما أذْوَتها الخمر..
لمّا استقام واقفا قطف الموت استقامته .
مشت خديجة في أرجاء القبو تستأنس في وحدتها الموحلة بصوت جدّتها المغبرّ..
- مات يا جدّتي "الطِّيرْ اللِّي يْغَنِّي وِجْنَاحُو يْرُدْ عْلِيهْ "
- هوَ ذا الهدوء الأوّل يا خديجة وذا ليل القبو الهاجع كما تشتهين .. فأين الفرح القديم ؟
الموت يا ابنتي منزلة عَوانٌ بين الرّبح والخسارة ، يد مبسوطة ويد مغلولة حتى القبر والعاقل من يحزن في الدّنيا بمقدار .
- ويمشي فيها العاشق بحزن دائم يا جدّتي.
دنت من مجلس كان لزوجها ليلة تفطّن النّدم إلى مخبئه وفاجأه في قعر القبو يرتّب تفاصيل الفرار من ذاكرته . كانت تدنو من بقايا صوته الذي ظلّ يقاوم السّقوط حتى آخر الأنفاس، تغوص في الذّكرى فتعذره كثيرا وتعود لحبّه أدراجا..
بعض النّاس يمضون في الحياة صخبا وعجيجا فإذا ماتوا خلدت العيون للنّوم، وبعضهم يخْطُون في الأرض هوْنا وموتهم كبحر يتقيّأ جرّة مغلقة جوفُها أسفارُ أسرار..
بقيّة سائل في إحدى القوارير تترقرق وعلبة السّجائر توسوس لها : "لا ترفعي راية النّدم يا خديجة . مازال في الوقت متّسع للاعتذار.. لكن حذار !لا تشرعي في وجهه باب الكلمات فتُغير عليك رياح الشّكّ الباردة ، تسلّلي إليه من الحواسّ المتحفّزة ، أشهدي عينيه عليك وأنت تتذوّقين نضاله المهزوم .. لم يكن ما يفعل مقاومة صائبة ولكنّه كان بالنّسبة له شكل عصا يستند إليها الرّفض الكسيح حتى لا يحيا متغابيا أو يسقط بُكرة محتجّا بالموت "
نفسها المسوِّلة كانت حينئذ متوهّجة الإقناع . أفرغت بقيّة القارورة في كأس ببطءِ حركاته وأشعلت سيجارة برشاقة رأسه المرتفع قليلا إلى الأعلى . اِمتصّت بشفاه راعشة الجرعة الأولى من الدّخان الحارق فاشتعل حلقها وانفجرت تسعل بشدّة .. تداركت السّعال بشربة خمر سكبت على النّار أجيجا. اِحترقت. اِحتملت. همّت بما في الكأس شربة واحدة وأردفتها بجرعات متتالية فهمّ بها الدّوار الجميل وبرقت عيناها.. بعد كومة من أعقاب القوارير صار الغياب يفترش الوعي : بعث بدءا نشوة مرتجلة أحيت الأفراح القديمة وأرجعت لصوتها شهيّة الغناء .. همهمت ، دندنت ، تمايلت ، شهد اللّيل سقوط خيوط من الضّوء على ابتسامتها المنفرجة برجفةِ من نسيتْ شفتاها الوضع الأنسب للضّحك . كانت ستجهر بالغناء وتنفجر بالضّحك وكانت الأحزاب المتقاتلة ستتّحد في حدّها بالرّجم جزاء السّرور بدل البكاء. لكن النّواح باغتها ..
" أبكاء طفل هذا ؟ "
لم تسمع حين سمعت. حدس وَقرَ في القلب كرعشة السّقوط في حلم. ألم زعاف غطّها شديدا فنفرت الغرائز تلبّي النّداء ..
بلى هذا بكاء طفل .. أحد الصّغار استفاق فزعا من نومه ..
هرعت إليه لهفة مترنّحة. اِصطدمت بجدار. مشت حافية على الشّظايا . تعثّرت بأولى درجات الصّعود فأكبّت مستندة إلى يديها ثمّ استدركت ..
كان الرّجوع إلى المنزل ضلالا كمن يدخل مكانا كثير الأبواب لأوّل مرّة . الدّوار يعصف بالرّأس ، والنّزف يئنّ بكفّي القدمين ، والمرأة لا تعرف من أين تبدأ أمومتها المستنفرة .
بكى الطّفل ثانية. إنّه الصّغير حسن يفتّش عن حضن أبيه . حنت عليه إشفاقا وثملٌ يرخي مفاصلها المتعبة . هدهدته حتى غفا . محمّد، الولد البكر، صدره ينتفض وأنفاسه العسيرة تحشرج بين ضلوعه. الآخر أفاق يشكو الجوع والرّابع يرتعش بردا ، وخامسهم يتمطّى نشوان في بطنها.
اِستندت للجدار وجلست إليهم بقيّة اللّيل تقطّع النّوم تقطيعَ مُجْهَد تتربّص به المخاوف من كلّ بطن.


طلع الفجر سهامَ ضوء تنغرز في لحم اللّيل . كم عنيف هذا الفجر. خرج منذ بزوغ يحتطب من أعجاز الظّلمة لنار الضّياع المقبلة على وحدة وحيرة ، فاللّيل يتخاذل متراجعا حاشدا هزائمه لغزوة أخرى ، كاشفا أكنّة النّفوس للعيون . وكم غادرة تلك اللّيلة الآفلة ، انسحبت بسرعة وهدوء كما ينسحب الغطاء عن بردك ، فجلدك يشوك كلّ همسة قرّ وحضنك يصقع كلّما احتميت به.
عندما فاجأها الصّبح باردا لم تجد حولها مقدار حضن يغطّيها فأسدلت غطاء إضافيّا على أبنائها.
كانوا يغمغمون بأحلام تراودهم في نومهم .
قامت تصلح هيئة حزنها وتخرج بحثا عن عمل .
هي ذي تسير.. فؤاد هواء. غثاءة مفردة ، لا سماء تمطر فسَيْل يجرفها ولا أرض تنحدر فشقّ يبتلعها.
اِمرأة بحَوْل ضعيف وحمل كبير من الوصايا والأمانات . يتيمة تماما. أرملة تماما. جسد فتيّ يغادر العقد الثالث برغبات يانعة تستعصي على الحزن وحضن مثقل بالصّبية. نقض حرب تدور في أرض بعيدة ودمارها يخترق جغرافيّة الصّمت ويزرع الموت في أرحام متفرّقة ..
هي ذي .. قبل كلّ مواعيد العمل تخرج . تمشي بخطوات متلعثمة سعيا في مضارب الرّزق، وبها جهل مدقع بأزقّته السّريّة والطّرق الملتوية الموصلة إليه.


بسمة الشوالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى