علي حسين - دعونا نتفلسف.. الفيلسوف الذي أراد تنظيف الفكر (17)

كان في أواخر مراهقته حين أدرك أنه يجب أن يدوّن أفكاره في دفتر صغير :" لكي يكون دفتري منظّماً على النحو المطلوب ، فإنه يتحتم عليّ ، إذا جاز التعبير ، أن أخطو خارجاً منه مباشرة الى الحياة ، حتى لا اضطر الى الصعود بحثاً عن النور كما لو كنت في قبو ، أو الى الهبوط مرة اخرى الى الارض " ، لكنه في لحظة ما شعر بعدم تمكنه من تذوق الحياة جيداً ، رغم ثروة والده الطائلة ، وفيما أصرَّ شقيقه على دراسة الموسيقى ، كان هو مهتماً بهندسة الطيران التي قضى معها ثلاث سنوات دراسية ، ليتخرج مهندساً متخصصاً في تصميم مراوح الطائرات ، في تلك الفترة اخذ يدوّن ملاحظات عن علم الرياضيات ، وكانت الرياضيات بوابة للدخول الى عالم الفلسفة ، وليجد نفسه في مواجهة كتاب " أصول الرياضيات " لبرتراند رسل ، فأُصيب بالذهول وتساءل : " هل يمكن لعقل بشري ان يكتب مثل هذه الصفحات "


الهوس بالرياضيات
كان رسل يسعى لإظهار ان الرياضيات تستند الى المنطق بشكل اساسي ، فقرر الشاب لودفيغ فتغنشتين ان يكتب كتاباً يقلد فيه الفيلسوف الانكليزي ، فاعتزل عائلته واصدقاءه لمدة ستة اشهر ليخرج بدفتر ضخم كتب عليه " أُسس علم المنطق والرياضيات " ، وذيله باهداء كتب فيه :" الى الاستاذ الذي مسح بأفكاري الارض مسحاً .. برتراند رسل " . عرض الكتاب على استاذه عالم الرياضيات " جتاوب فريغ " الذي نصحه بان يمزقه ويترك الهندسة ليذهب للدراسة تحت اشراف الانكليزي برتراند رسل ، فقرر الذهاب الى كامبرديج للدراسة ، ولان التخلي عن الهندسة من اجل الفلسفة سيغضب والده ، قرّر ان يستشير الاستاذ رسل ، كان الفيلسوف الانكليزي في أوج شهرته يبلغ من العمر اربعين عاما ، ينتمي الى اسرة ارستقراطية ، مشهور بمغامراته النسائية ، فيما كان فتغنشتين في الثانية والعشرين من عمره طالباً مغموراً ، على الرغم من ان أسرته تتمتع بثراء عظيم ويكتب رسل في سيرته الذاتية عن هذا اللقاء واصفاً التلميذ :" كان غريباً انه محصّن ضد أي هجوم يتعلق بالمنطف ،كانت آراؤه غريبة الى حد أنني لم أحسم أمري طيلة المقابلة ان كان هذا الشخص الواقف امامي عبقريا ام مجرد شاب غريب الأطور ، لكنني توصلت بعد ساعتين من الحديث ، إن الحديث معه مضيعة للوقت " فيما يكتب فتغنشتين في دفتره الصغير : كان اول سؤال سألته لرسل : " هل تظنني أحمقاً وجباناً ، قال لي: لماذا تسأل هذا السؤال؟ قلت له وأنا أنظر في السماء لأنني لو كنت احمقاً فسوف اصبح ملاحاً جوياً ، اما اذا كنت غير ذلك فسوف اصبح فيلسوفاً " ومن أجل ان يعرف الاستاذ ان هذا التلميذ غبي حقاً ام لا ، طلب منه ان يكتب مقالة حول أي موضوع فلسفي ، كان الاستاذ يريد أن يتخلص منه وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة لكشف تخلّف وغباء وعنجهية هذا التلميذ النمساوي ، هكذا كان رسل يفكر آنذاك ، لكن التلميذ عاد بعد اسابيع وهو يحمل بحثاً عن المنطق ، ما ان قرأ رسل اول جملة منه حتى نهض من مكانه وهو يصرخ :" اخيراً وجدت الفيلسوف الذي يحل المشاكل اصبح كبيرا وعاجزا عن حلها ، هذا الشاب يمثل النموذج الفعلي للعبقرية " ، بعدها بأشهر نجد رسل يقول لأخت فتغنشتين التي جاءت لتطمئن على أخيها :" أتوقع ان الخطوة الكبيرة التالية في الفلسفة ستتم من خلال أخيك " ..بعدها يكتب رسل في رسائله الى زوجته : " فتغنشتين حدث عظيم في حياتي ، وهو الرجل الصغير الذي يعقد عليه المرء آمالا " .

****
عشاق الموسيقى
مهندس ، عسكري ، مزارع ، معلم فلسفة ، معمار ، ناسك ، عضو في فريق الطوارىء ، قبل ان يتعرّف على الفلسفة كان يجد حياته في شيئيين ، الميكانيكا والموسيقى ، قال عنه هيدجر " ظل طوال حياته القصيرة لايتوقف ابدا عن تغيير مفاهيمنا باستمرار "
ولد لودفيغ فتغنشتين في فيينا عام 1889 لعائلة تعشق الموسيقى ، كان بيتهم الكبير يضم سبع آلات بيانو ، جميع افراد العائلة عازفون مهرة ، ومن اجل شقيقه الاكبر سوف يؤلف الموسيقي الشهير موريس رافيل مقطوعته الشهيرة " بوليرو " ، وكان الموسيقار براهامز صديقا حميما لوالده مثله مثل العديد من الرسامين والموسيقيين والادباء ، الذين كان يعج بهم القصر كل مساء ، الاب كارل ثري جدا ، صاحب مصاهر للحديد
في الرابعة عشرة من عمره اخترع فتغنشتين ماكنة خياطة تعمل بطريقة الدواليب ، كان احد زملائه في الصف واسمه ادلوف هتلر ، معجباً بأفكاره العلمية وطموحاته وذات يوم قال له : " أتمنى ان نصنع انا وانت سلاحا خارقا " ، بعد سنوات سيتذكر هذا التلميذ وهو يشاهده يخطب بالملايين ويعلن الحرب على اوروبا .

****
من الطيران إلى الفلسفة
كان لودفيغ الأصغر بين ابناء هذه الاسرة الغنية المتكونة من خمسة ابناء ، كان كبير الابناء هانس معجزة موسيقية ، اثار اعجاب كبار موسيقيي عصره ، لكن الاب الذي كان يريد لأبنائه ان يرثوا مهنته ، اجبره على ترك الموسيقى والتفرغ للاعمال الصناعية ، مما ادى به الى الانتحار ، وهو في سن السادسة والعشرين ، وبعدها بسنتين اقدم شقيقه الآخر رودلوف على قتل نفسه ، فيما وجدوا شقيقه الثالث منتحراً بعد نهاية الحرب العالمية الاولى ، لان جنوده لم يتبعوه في المعركة .
كان فتغنشتين ، معذبا بذكاء استثنائي ، وفي سن العشرين باشر دراساته في مجال الهندسة ، وسافر الى مانشستر ليدرس هندسة الطيران ، فبدأت الرياضيات تستهويه ، كما ستستهويه بعد حين مسائل المنطق والفلسفة ، وسوف يتابع في كمبردج دروس برتراند رسل الذي كان قد نشر مع الفيلسوف ألفريد نورث وايتهيد " كتاب مبادىء الرياضيات " ، تحول فتغنشتين نحو الفلسفة ، فاقم الصراع مع والده الذي كان يجد فيها مهنة غير مفيدة للعائلة ، الامر الذي زاد من مرض العصاب الذي كان يلم به بين الحين والآخر ، وذات يوم سأل رسل تلميذه فتغنشتين عندما رآه بحالة دائمة من القلق : " هل تفكر بالمنطق ام بخطاياتك " ؟ وأجابه بكليهما عندها اصبح رسل قلقاً على تلميذه الذي كان يرى فيه خليفته له ، من ان يتجه نحو الجنون ، ويكتب رسل في يومياته :" فتغنشتين على حافة انهيار عصبي ، وليس بعيدا عن الانتحار " .
حين عين فتغنشتين على متن المدمرة الحربية فيستيل ، كتب اول مؤلفاته في دفتر صغير ، وسط ضجيج الآلات والتعب وتقلبات الجو ، كانت غايته من الكتاب هو ايجاد حلاً لمشكلته مع الفلسفة ، التي أصرّ على ان الجوهري فيه هو علاقة اللغة بحل مسائل الفلسفة والمنطق ، فالجمل المجردة من المعنى وحدها تصف وقائع واحداثا تجري في العالم ، لكن على اي شيء يتركز العالم ذاته ، نسيجا وحضورا هذا هو ما يبقى التعبير عنه مستحيلا : " اذا كان لابدّ من ان أجيب على سؤال ما الأخضر الذي يطرحه شخص لا يعرف عن الأخضر شيئا فلا يمكنني الا ان اقول ، هو هذا وانا أشير الى شيء اخضر بامكاننا ان نشير بالبنان الى هذا الواقع الخارج عن اللغة وان نبرهنه لكننا لا نستطيع التعبير عنه " . يُسمي فتغنشتين هذا الواقع بالمجازي ، والخطأ الأكبر شيوعاً هو ارادة التعبير عن هذا المجازي الذي لا يوصف، لذا يضع مقابل هذا الوهم قاعدة تقول : " ينبغي اخفاء ما لانستطيع قوله" .
اعطى اندلاع الحرب العالمية الاولى في العام 1914 فتغنشتين منفذا لرغبته في الموت ، لقد تطوع بسرعة في الجيش ، على الرغم من وضعه الصحي ، وتراه يكتب بعد سنوات : " ذهبت الى الحرب على امل ان يحميني الموت في المعارك من فكرة الانتحار " ، شارك في الحرب بكل قواه ، وكان من المرشحين لنيل الاوسمة عدة مرات ، ونراه يمجد الحرب في قصيدة قصيرة ، ويرسل الى استاذه برتراند رسل ، رسالة يسخر فيها من دعواته للسلم ، لكن نراه يكتب بعد سنوات :" وجدت نفسي مثل العديد
البشر قد اصابهم هوس الحرب " ، في الاسر الذي وقع عام 1918 ينهمك في قراءة مؤلفات تولستوي وتسحره الحرب والسلم ويصبح مشبّعاً بتعاليم الأديب الروسي الكبير :" الانسان ضعيف في الجسد ، لكنه حرّ بسبب روحه " وقد تفبل فتغنشتين آراء تولستوي حول الجنس التي وجد انه يتعارض مع الحياة الروحية للانسان ، لقد اصبحت افكاره بعد الحرب تذهب باتجاه التدين العميق ، وفي تلك السنوات يعثر على مؤلفات شوبنهور التي تسحره ، وتسيطر على فكره ، بحيث تكاد الصفحات الاولى من كتابه " الاطروحة " ان تكون نسخة جديدة من كتاب " العالم كارادة وتصور " ، اضخم اعمال شوبنهور وتحفته في التشاؤوم واليأس .
في الأسر ينتهي من كتابه الأطروحة ، وبعد اطلاق سراحه عام 1919 يعود الى اسرته في فيينا ، محملا بافكا شوبنهور المحبطة ، وفي القصر الكبير للعائلة يواجه اشقائه بقرار مفاجىء وهو رغبته بان يصبح معلماً في احدى المدارس الابتدائية. حيث انتقل عام 1920 الى قرية جبلية في أطراف النمسا ليهرب من العالم ، ويؤكد بعض كتّاب سيرة فتغنشتين ان فترات الانعزال في حياته ، ربما كانت بسبب ميوله الجنسية المتقلبة ونراه يكتب الى شقيقه قائلا : " اصبحت الامور تعيسة في الآونة الأخيرة .. فقط بسبب حساسية تعففي ، لقد فكرت دائما بانهاء حياتي ، ولا تزال تلك الفكرة تراودني الان ، لقد غرقت حتى القاع " ، وليحرم نفسه من الاستسلام للغواية والملذات ، قرر ان يمنح نصيبه الكبير من ثروة والده المتوفى الى اشقائه ، ولم يكن برتراند رسل معجبا بهذا الزهد والتخلي عن الثروة وقد قال له :" مليونير ويعمل معلما في قرية ، بالتاكيد مثل هذا الشخص اما منحرف او أحمق " .
أمضى ست سنوات في وظيفة معلم القرية ، قطعها عام 1926 بشكل مفاجىء ، ليعود الى فيينا حيث احتفت به " الجمعية الفلسفية في فيينا " التي اعتبرت كتابه " الاطروحة " لوحاً فلسفيا مقدسا ، وكان اعضاء الجمعية ينتظرون بشغف حضور فيلسوفهم الكبير ، لكنه خيّب املهم حيث ذهب ليعمل بستانياً في احد الاديرة قرب فيينا ، كان يفكر بالالتحاق بالرهبان ، لكن رئيس الدير رفض طلبه ، لشكوكه بتصرفات فتغنشتين التي كان يراى انها غربية وبعيدة عن الدين

****
الأطروحة المثيرة
كُتبت اطروحة فيغنشتين بطريقة مختصرة جدا وفي سبع وخمسين صفحة فقط ، واراد من خلالها ان يتناول قضايا المنطق والرياضيات وعلم ما وراء الطبيعة والتصوف ، بدأ اطروحته بعبارات مرقمة وكل عبارة تتبعها عبارات فرعية مرقمة ايضا
1. العالم هو كل ما يشكل الحالة .
1.1. العالم هو مجموع الحقائق ، وليس مجموع الأشياء.
11.1 العالم يتحدد بالحقائق ، أي الحقائق كلها .
12.1 لأن مجموع الحقائق يحدد الحالة وما هو غير الحالة.
والكتاب كله يستمر بهذه الطريقة ، لكنه ينتهي بملاحظة غريبة ومختلفة :
" اي شيء لا يستطيع الانسان قوله ، يوجب عليه ان يبقى صامتا "
عندما التحق فتغنشتين اخيرا بمناقشات الجمعية الفلسفية في فيينا عام 1927 لم يرقَ له أعضاء الجمعية الذين وجدهم سوقيين ويلبسون بشكل
سيء ، وكان تفكيره الذي لم يهدأ على الرغم من انه لم يكتب شيئا في الواقع كان يتطور بطرق لا يستطيع التعبير عنها بشكل سهل ، كان قد بدا بالابتعاد عن نظرية اللغة والتوجه نحو الوظيفة الأبداعية للغة وللعديد من الطرق التي يمكن استخدامها بها ، ومن الان اصبحت اللغة تفهم عبر المراقبة ، بدلا من التحليل ، وكان فتغنشتين يعتقد انه لم يحل جميع المشاكل بكتابه " الاطروحة " ولهذا كان يدرك ان هناك المزيد من التفكير الذي عليه القيام به وحسب احد المقربين منه انذاك :" كان لايحتمل اي اختبار نقدي من الاخرين ، ما ان يحصل على البصيرة بفعل الالهام ، فان الانطباع الذي يتركه لدينا ، هو كما لو ان البصيرة وصلته من خلال وحي سماوي " ، ولانه لم يجد سكان فيينا مستمعين ملهمين له بدا فتغنشتين قراءة اشعار رابندرات طاغور وهو يجلس قبالىة الجدار .
عام 1929 تقرر جامعة كمبردج اعادته اليها ، هناك استطاع بسهولة ان يؤثر باساتذته من جديد وقد وصف رسل الاطروحة بانها عمل شخص عبقري ، ومع حصوله على شهادة الدكتوراه حصل على منحة محاضر ، ظل فتغنشتين في كمبريدج حتى عام 1936 ثم رحل الى النرويج حيث تفرغ لمدة عام في تاليف كتابه " ابحاث فلسفية " ثم عاد الى كمبردج ليخلف الفيلسوف مور على كرسي الفلسفة ، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية شارك فيها فعمل في احد المعامل الطبية ، وعاوده القلق من جديد لنراه يعتزل كرسي الفلسفة عام 1947 ليستقر في مزرعة بالريف الايرلندي حيث عاش في وحدة تامة ، وهناك اكمل الجزء الثاني من كتابه ابحاث فلسفية.
مرض فتغنشتين في تلك الفترة مرضا شديدا ، وتبين عام 1949 انه كان يعاني من مرض السرطان ليتوفى في 29 ايار عام 1951 وكان اخر عبارة قالها لممرضته :" قولي لهم انني قد عشت حياة رائعة ".

****
تحقيقات فلسفية
في عام 1938 يلتقي الفيلسوف الاميركي نورمان مالكوم بفتغنشتين فيسحره الاخير ، ليصبح احد تلامذته ونراه يصف اللقاء : " ر أيت فتغنشتين لاول مرة في اجتماع نادي العلوم الاجتماعية في جامعة كمبردج كان يتكلم بصعوبة وكانت كلماته تبدو غير مفهومة بالنسبة لي وحين همست إلى الشخص الجالس بجواري متسائلا من هذا ؟ اجابني انه فتغنشتين، وقد دهشت لأنني كنت اتوقع ان يكون مؤلف الرسالة المنطقية للفلسفة الشهير رجلا متقدما في السن في حين بدا هذا الرجل شابا في نحو الاربعين ( كان عمره الحقيقي انذاك 49 عاما ) وكان وجهه نحيلا ، ذو أنف أقني كما كان رأسه مغطّى بخصل من الشعر البني وقد لاحظت الاهتمام البالغ المملوء الذي وجهه اليه كل الحاضرين في القاعة وهو لم يتكلم كثيرا في ذلك اليوم، بل كان يبدو عليه كما لو انه يصارع افكاره وكانت نظراته مركزة كما كان يبدي بيديه حركات كما لو كان يناقش احدا . وقد ظل الجميع في حالة صمت الى ان انتهى فتغينشتين " .
عندما نشر كتاب " تحقيقات فلسفية عام 1953 فان المرحلة الثانية من عمله قد تركت تاثيرا هائلا على الفلسفة في سنوات ما بعد الحرب لم تعد اللغة عبارة عن دلالات خارجية بل مجالا واسعا من اشكال الحياة المختلفة ولئن كان العالم هو ما يشكل الحالة كما وارد في كتاب الاطروحة ففي كتاب التحقيقات الفلسفية تحدد اللغة عالما أغنى واكثر تباينا مما كان يعتقد سابقا " اللغة كما هي " تعني ما تقوم به وما لا يتم تقييمه بالرجوع.

****
الفيلسوف المجهول
في تاريخ الفلسفة ، ليس هناك من فيلسوف اختلف حوله الناس مثل فتغنشتين ، الذي ظل مجهولا لسنوات طويلة ، ولا يتداول اسمه إلا النخبة من المهتمين بالفلسفة واللغة ، وبقدر ما كان عبقريا في تأسيس فلسفة جديدة بقدر هدمه لنفس الفلسفة التي بدأها، كان فتغنشتين يتذكر دوما مقولة نيتشه: "أصل نفسك حربا لا هوادة فيها ولا تهتم بالخسائر والأرباح، فهذا من شأن الحقيقة لا من شأنك أنت. وإذا أردت الراحة فاعتقد وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل".
مؤلفات فتغنشتين هزت الأوساط الفلسفية وما زالت حتى اليوم، على الرغم من نبذ صاحبها الفلسفة وراء ظهر:" من يريد أن يتابع الفيلسوف عليه أن يطلق الفلسفة، لأنها تضعنا أمام الأشياء في حملة ألغاز، وعلينا أن نعود إلى اللغة البسيطة لفهم الأشياء عند استعمالها، وليس بما نضيف عليها من معاني" .
ومن وجهة نظره فإن القضية المحورية ومشكلة المشاكل هي علاقة اللغة بالعالم، واستخدم لها مثل طنين الذبابة في الزجاجة، أي تلك التي تخرج الذبابة من حيرتها عبر عنق الزجاجة إلى الفضاء الفسيح.
ولعل أعظم ما في فلسفة فتغنشتين تفكيكه لعمل اللغة، وأن اللغة في أحسن أحوالها تصور الواقع، ولكن ليس من واقعة مرتبطة بأخرى بأي وسيلة من الوسائل، وهذا يعني أن اللغة وهم، ولعل أفضل ما فيها أنها قناة تواصل ولكن من خلال الاستعمال؛ فالكلمة لا تحمل المعنى بل نحن من يشحنها بالمعنى، وأفضل مبدأ هو (التحقق) من الكلمات، وهو ببساطة الرجوع إلى الواقع. وكان فتغنشتين يقول إن اللغة لا تزيد عن لعبة؟ ومنه اعتبر الرجل مؤسساً للفلسفة الوضعية المنطقية .
يبقى تحديد مكانة فتغنشتين امرا عسيرا ، لكن ليس من خلاف حول الاهمية الكبيرة لفكره في القرن العشرين ويظهر كتابه " تحقيقات فلسفية " باعتباره واحدا من اكثر الكتب تاثيرا في الفلسفة الحديثة ، وقد حاولت فلسفته اعادة توجيه تيار الفلاسفة الغربيين الفكري منذ ديكارت ، لقد قال عنه ميشيل فوكو " يناسبه لقب الصوفي الغامض " ، لقد كان يظهر لمستمعيه اشبه بالساحر او الحكيم ويضيف فوكو :" يعتقد الناس بان رجلا مثله عبارة عن مجنون ، لكن على المرء ألا يقيس هذا الفيلسوف حسب المعايير العامة " .



* عن جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى