إبراهيم درغوثي - الشيطان الذي تلاعب بالمدينة؟.. قصة قصيرة

حدث أبو سعيد الخدري أن رسول الله قام يصلي صلاة الصبح ، وهو خلفه يقرأ . فالتبست عليه الصلاة . فلما فرغ من صلاته قال :
لو رأيتموني وإبليس. فهويت بيدي . فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصابعي هاتين ، الإبهام والتي تليها . ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة
ابن كثير - البداية والنهاية - باب خلق الجان وقصة الشيطان

الشيطان الذي تلاعب بالمدينة
( لمن تقرع الأجراس )
رأيته في ساحة السوق .
كان له رأس ثور ، وذيل قصير كذيل المهري يهش به الذباب الذي تكدس على مؤخرته التي تشبه مؤخرة قرود البابوان .
اقتربت من المسخ الواقف على قدمين كبقية بني آدم . كان يتحدث ، والقوم كأن على رؤوسهم الطير ، بأحاديث مروية عن النبي وبأسانيد يزعم أنها صحيحة ، عن البخاري وعن مسلم . ويستشهد بالصحيحين .
وعن سيد قطب ، وعن أبي هريرة رضي الله عنهما . ويمسح وجهه ولحيته بيديه
وعن أبي سعيد الخدري ، وعن ابن عباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم تسليما
وعن الحسن الترابي ، وعن الحسن البنا . ويحكي عن الفريضة الغائبة .
كان يعظ الناس بآيات يختارها حسب هواه من القرآن ، وبحكايات عن السلف الصالح . ويضرب الأمثال للناس ، يقول : لعلكم تهتدون .
ويقرأ من الشعر القديم حتى ظننته واحدا من الرواة . يقرأ من معلقات النابغة الذبياني ، وعنترة بن شداد العبسي ، وزهير بن أبي سلمى ، وطرفة بن العبد .
يقول : ... وأفردت إفراد البعير المعبد .
ثم يتنهد ، ويمسح اللعاب المتناثر فوق لحيته . ويلوح في الهواء بسيف استله من تحت جبته .
والناس كأن على رؤوسهم الطير .
كانت له لحية تيس عجوز معلقة في وجه ثور . وعلى جانبي الرأس ، من اليمين والشمال نبت له قرنان معقوفان .
والصدر غطاه وبر كوبر الإبل .
وجبة الصوف التي ارتداها تلامس الركبة .
رأيت تحت الركبة حافري بغل .
والرجل يتحدث عن الشعر الحديث ، وعما بعد الواقعية الاشتراكية ، وعن انهيار أمبراطورية الثلج ، وعن سمير أمين صاحب المركز والهامش الذي يريد تطوير وتثوير الماركسية . ويخرج من فيه صوتا كالضراط . ويقول : هذا لسمير أمين ، وللماركسيين الجدد الذين جاءوا في زمن الجدب . ويحكي عن روجي قارودي الذي طلق المذاهب الوجودية واعتنق الإسلام دينا ، فأكرمه الله ونعمه خادم الحرمين الشريفين بجائزة الملك فيصل العالمية .
ويعود بعد هذا الاستطراد إلى سعاد وعبلة .
وأطلال برقة ثهمد .
وأفاطم مهلا بعد هذا التدلل .
وقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل .
ويسب التجديد والمجددين .
ويتهم شعراء الحداثة بالكفر .
ويطالب بسفك دمهم في الأشهر الحرم .
ويستشهد بأبيات لأدونيس ، وأنسي الحاج ، والماغوط ، ويوسف الخال .
ويبكي .....
والناس – الكأن على رؤوسهم الطير – يبكون وراءه .
ويتمخط ، يمسك أرنبة أنفه بين السبابة والإبهام ، ويتمخط فوق الأرض ، فيتمخطون .
ويمسح اللعاب الطائش فوق لحيته .
ويعود للحديث من جديد .
*****
صدفة ، رفع رأسه فالتقت نظراتنا .
غرس عينيه في عيني .
انطلقت النظرة كطلقة المسدس ، سريعة وحادة . أحسست لهيبها يكوي كامل وجهي ويهبط حتى القلب الذي تبدلت فجأة دقاته من دم تك تك إلى دم دم دم . ثم عاد إلى مكر مفر مقبل مدبر معا .
والى الحديث عن جنس الملائكة .
وهل يدخل مسلمو الجن يوم القيامة إلى الجنة ؟
وهل تقبيل صورة نادية الجندي على شاشة التلفزيون حلال أم حرام ؟
وعدت أنظر إلى الحلقة التي اتسعت بازدياد الخلق .
دققت النظر في وجه الرجل الواقف جنبي ، فصدمتني صورته . كان له وجه ثور ولحية تيس عجوز .
التفت يمينا وشمالا ، فرأيت نفس الوجوه .
وأحسست برفسة حادة فلمست رجلي .
كانت الرجل قد تحولت إلى حافر بغل .
وجاء الوجع من مؤخرتي .
كان الذباب يلسعني ، فوجدتني أحك دون شعور مني ذيلا نبت في نهاية عمودي الفقري .
قلت : أنا أحلم .
والتفت أبحث عن السيارة التي ركنتها في مرآب السوق.
هي في مكانها .
والشمس في كبد السماء .
وصياح الباعة يأتي من بعيد .
والأطفال الضاجون يلعبون الكرة .
وروائح الأطعمة الشهية تنبعث من شقق العمارات المقابلة .
ونجاة الصغيرة تغني :
عيون القلب سهرانا * ما بتنمشي .
*****
عدوت نحو السيارة .
سمعت ورائي خبطا كخبط حوافر الخيل .
لم ألتفت ورائي .
جريت كالمجنون .
وحين ارتميت وراء المقود ، طالعتني صورتي في المرآة الصغيرة المعلقة في الزجاج الأمامي .رأيت وجهي معكوسا هناك بوضوح :
الرأس : رأس بغل .
واللحية : لحية تيس عجوز .
وشعر كثيف ، غليظ ، أشبه بوبر الجمال يغطي كامل الصدر .
ضربت المرآة الصغيرة بجمع يدي ، فتهشمت .
ونزفت دما وزجاجا .
ضمدت الجرح بسرعة وبدأت في قرع زمور السيارة قرعا عنيفا متواصلا .
جاوبني من بعيد دق أجراس .
بدأ خفيفا ، ثم صار يعظم ويعظم إلى أن ملأ ما بين السماء والأرض .



* صدرت هذه القصة ضمن مجموعتي القصصية : رجل محترم جدا .وقد أزعج بعض عناوينها السادة المتناقدين . ومن بين هذه العناوين ، لمن تقرع الأجراس ، هذا العنوان الذي استلفته من القاص والروائي الأمريكي ارنست هيمنقواي . لهذا قررت أن أرد العنوان لصاحبه آسفا، و أسند لهذه القصة عنوانا جديدا ، عساه يذهب عني شر الصديق والعدو .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى