رءوف جنيدي - نداء الغروب.. قصة قصيرة

في بلدة ريفية بإحدى محافظات مصر الزراعية.. داخل ڤيلا أنيقة تقع على قارعة أرضه الشاسعة.. كان مراد يعيش مع زوجته، وابنته الوحيدة فريدة، وهو سليل عائلة إقطاعية، فقد أتت قوانين الإصلاح الزراعى على الكثير من أطيان والده، إلا أنه، وبعد فتور وهج الثورة، استطاع أن يسترد الكثير منها، إما ببطش نفوذه على صغار المنتفعين، أو بالشراء من البعض منهم أحيانًا، حتى عاد مراد إلى سابق عهد والده من كبار الملاك.

نشأ مراد فى بيئة مادية جافة المشاعر.. فقيرة الإحساس.. فما كان يرى من والده إلاّ شجارًا لا ينقطع مع المزارعين، وخلافات دائمة على أمور البيع والشراء، وهو ما ألقى بظلاله على حياته مع زوجته، وابنته، بعد أن بات لا يرى الدنيا إلا من ثقب باب خزانته، وكم بلغ ارتفاع مصفوفاته النقدية بداخلها.. كان الرجل يقضى معظم أوقاته بعيدًا عن زوجته، وابنته.. غارقًا بين أوراقه.. منهمكًا فى حساباته حتى صار فظًا غليظ القلب.. انفض الناس من حوله إلا من بعض علاقات ضنينة المودة.. بنيت على حسابات المكسب والخسارة، ومدى النفع الذى قد يأتيه من ورائها.

نبتت فريدة فى بيت شحيح العطف والحنان كنبتة صحراوية بأرض جافة تنتظر كل حين عطاء السماء، عسى أن يصيبها وابل، فإن لم يصبها وابل فطل، إلا أن مشاعر الأبوة باتت عندها كسراب بقيعة الوالد، تحسبه الفتاة حنانًا، فلا وابل يروى ظمأ جذورها، التى بدأت تنشبها فى أرض الحياة، ولا طل يبلل وريقات خضر رقيقات نبتت على أغصانها..

راحت فريدة تتسلق برفق وهوادة سلم الصبا، وريعان الشباب، سنة بعد سنة، حتى تربعت بكل دلال واقتدار فوق قمة عامها الثامن عشر.. بدأ عطاء الأنوثة يطرح على عودها سقيًّا بماء الله كثمار بريئات، تطل على استحياء من أكمامها، تحفها وريقات رقيقات كأغلفة العفة والشرف، فهذا نبت الله الذى لابد أنه آت، بينما تعثر عندها نبت المشاعر لدى فتاة فى مثل عمرها تعيش قسرًا فى كنف أبوة فقيرة الحس، وأمومة عمياء البصيرة.. قليلة الحيلة.. تحاول جاهدة الإبقاء على سفينة الحياة طافية، بعد أن باتت دفتها فى يد ربان أرعن.. لا يبالى بأن يخرقها فى أى لحظة ليغرق أهلها.

تمر فريدة عبر أضيق سنوات العمر الدراسية ( الثانوية العامة )، التى بدأت أيامها تمر متثاقلة رتيبة.. ثقل الحياة فى بيت أبيها.. تلك الحياة التى لا تشحذ عندها همة، ولا تثير لديها نزعة للتفوق، بعد أن رأت فريدة من والدها أن الحياة ليست شهادات علمية، بقدر ماهى أموال وأطيان، إلا أن الفتاة كان يحدوها الأمل كل حين فى التفوق، علها تلحق بركب ابن خالتها حاتم، الذى كاد ينهى دراسته بكلية الصيدلة.. متفوقاً على أقرانه، وسيرًا على نهج الوالد بشحه، وبخله، وافق على أن يأتى حاتم ليساعد فريدة فى استذكار دروسها، بعد أن عرضت عليه زوجته الأمر فرحب به.. ولِمَ لا ؟ فهذا درس خصوصى بلا مقابل، وحتى إن كان له مقابل فلن يتعدى واجب الضيافة.
بدأ حاتم يتردد على ڨيلا خالته فى مواعيد ثابتة حددها سلفًا مع فريدة التى راحت تنتظره فى كل مرة، وقد أعدت لدرس اليوم، وهي فى كامل استعدادها لمناقشة ما فات.. ظلت فريدة على حالها هذا.. طالبة تنتظر أستاذها كل حين.. ومع تكرار اللقاءات، بدأت فريدة تقرأ فى عينى حاتم سطورًا غير التى تقرؤها على صفحات كتبها، فبات الانتظار ترقبًا، وصار الترقب توترًا ولهفة رعناء.. وبما تبقى لدى الأم من مشاعر الأنثى شعرت بأن حبًّا وقر فى قلب ابنتها، تصدقه رعونة الانتظار، ما بين إطلالة من نافذة، ونظرة خاطفة من شرفة، أو العودة سريعًا إلى تليفونها، عله اتصل وهى غافلة.

لم تعد فريدة تستقبل حاتم كمدرس يشرح الدرس، ولكن كضيف عزيز غال يشرح الصدر، ويهدهد الوجدان.. لم يكن يطرق باب ڤيلتها، وإنما كان يطرق باب قلبها، حتى صار وقع خطاه فى بهو بيتها كنقر أصابع الغرام على قلبٍ، باتت أوتاره تهتز، حتى على هديل أنفاسه.. ترافق فريدة حاتم فى كل مرة من باب ڤيللتها، حتى منضدة دائرية، وضعت تحت نافذة زجاجية كبيرة تطل دون حواجز على أفق فسيح.. يجلسان وجهاً لوجه.. يدقق حاتم النظر فى عينى فريدة.. لا ليعلم كم استوعبت من الدرس، ولكن ليعلم أيضًا كم وصلها من دفق إحساسه، وخفقان قلبه، وتنظر فريدة فى عينى حاتم، لتبحر بشراعها فوق صفحة نهره، وبين ضفتى حنانه، ولتعلم أن للدنيا مذاقًا آخر، غير الذى تذوقته بين جدران ڤيلا والدها، وكأنها عصفور يعيش داخل قفص قضبانه من ذهب.

ظلت فريدة على حالها هذا طويلاً.. تجالس حاتم كل زيارة فى المكان نفسه.. وسرعان ما يقام بينهما جسر المودة، عبر نظرات العيون، لتحبو عليه فى حسن ودلال قبلات القلوب، وتنهداتها.. يسافر شعرها الكستنائى معربدًا فوق أكتافها، وأوراقها، كلما داعبه نسيم، فتبتسم فريدة، و تلملم على استحياء شقاوة خصلاتها الطائشة، وتلملم معها أيضاً أمنيات قلبها: لو أن حاتم يقترب منها قليلًا، لعل خصلاتها تمسح على وجهه، وتربت على كتفيه، معلنة أن باب قبوله بات مفتوحًا على مصراعيه !!!

يسافر حاتم متجولًا فى جنباتها ليرى كم أعدت قلبها لاستقباله حبيبًا يحتضنه شغافه، وضيفاً على رحب الشوق والسعة، فناقوس الفؤاد قد دق له، وباتت حنايا الأضلع معبده، صارت القلوب واجفة فى أن تصل لمرادها على سنة الله ورسوله، والأبصار خاشعة متضرعة الى الله أن يجمع بين قلبيهما ليكون كل منهما سكنًا للآخر، ولِمَ لا ؟ وهى التى تؤمن بأن الطيبين للطيبات.. آملين، مع لحظة الغروب، في أن يكون فيها الخير كله، فما غربت الشمس إلا لتشرق من جديد، وما جاء ليل إلا ومن بعده صبح يتنفس الصعداء، معلنًا قرب المسافة من موعد تعاهدت عليه.



* الاهرام اليومي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى