عبدالزهرة زكي - المتنبي.. السحابة غرابٌ والمطرُ نعيب

مطر الغراب

قَد كُنتُ أَحذَر بَينَهُم مِن قَبلِهِ = لَو كانَ يَنفَعُ حائِناً أَن يَحذَرا
وَلَوِ اِستَطَعتُ، إِذِ اغتَدَت رُوّادُهُم = لَمَنَعتُ كُلَّ سَحابَةٍ أَن تَقطُرا
فَإِذا السَحابُ، أَخو غُرابِ فِراقِهِم = جَعَلَ الصِياحَ بَبينِهِم أن يُمطِرا.
المتنبي

هذه (قصيدةٌ ضمنية) تتألف من ثلاثةِ أبيات، هي الثامن والتاسع والعاشر، من رائيّة أبي الطيب المتنبي "بادٍ هواك، صبرتَ أم لم تصبرا". وأريد بتعبيرنا (القصيدة الضمنية) هو ما يأتلفُ من أبياتٍ من قصيدة طويلة ليشكِّلَ مع بعضه قصيدةً قصيرة ضمن سياق القصيدة الطويلة، وحتى المتوسطة، بحيث يمكن اجتزاء هذه (القصيدة المتضمنة) من سياقها لتكون قصيدة قصيرة مكتملة البناء والمعنى الشعري. وما أكثرَ قصارَ القصائد في القصائد العربية القديمة، بل إن الشعر بعمومه يمكن أن تصادف في أعماله الطويلة ما تتضمنه معظم هذه الأعمال من قصائد قصيرة. ولعلَّ مطلعَ هذه القصيدة الرائية ذاتها، بالأبيات الثلاثة الأولى منها، هو أيضاً قصيدة ضمنية مكتملة البناء والمعنى، إنها قصيدة سنقف عندها في مقال تالٍ.

سمّينا هذه القصيدة الضمنية "مطر الغراب". هذه التسمية محاولة في معادلة موضوع القصيدة القائم على الاستعانة بنحس الطالع المقترن بظهور الغراب، وبنعيبه، كما هو سائد في الثقافة، ليحولَ الشاعرُ بهذا دون رحيلِ مَن لا يودّ رحيلَهم. سنأتي بعد قليل لتوضيح كيفية معادلة العنوان (المقترح) لموضوع القصيدة الضمنية، وهو توضيح يقارب الشروح التي تناولت ديوان المتنبي فاهتمّت بمفارقة تعبيرية تضمّنتها الأبيات الثلاثة التي هي متن القصيدة المختارة هنا.

***

يتفق الشرّاح على أن الأبيات متداخلة في معناها ومرادها الشعري؛ وهي هكذا فعلاً. إنها قيلت بعد وقوع البَين (الفراق)، وهي تشترك مع بعضها في التعبير عن العجز في فعل ما من شأنه أن يحولَ دون الفراق (بَينَهم) قبل وقوعه.

القصيدة ترثي هذا العجز وتتأسى له. ثمة ما هو مستحيل يلزم للحيلولة دون السفر؛ يلزم ذلك قدرة للحائن (مَن يدنو أجله وهلاكه) أن ينفعه الحذر لتفادي الحين، وأن يمنع السحاب من أن تمطر.

يقول أبو الفتح عثمان بن جني في (الفسر)، شرحه لديوان المتنبي: "الروّاد: جمع رائد، وهو الرجل الذي يذهب يرتاد الكلأ ويطلبه لأهله". إنه الشخص الذي يجري اختياره ليسبق قومه في رحيلهم بحثا عن الكلأ. وينبغي للشاعر، في محنته مع الهجر والرحيل، إفشال مهمة الرائد؛ عدم اكتشافه للكلأ، لمنع (البَين).

لقد كان على الشاعر أن يمنع السحاب عن أن يمطر لتخفق بهذا مهمة الرائد، فيفشل في العثور على الكلأ. لقد جاء في شرح الواحدي، حينما يتناول البيت التالي، قوله: "لما بعثوا الرواد لطلب الكلأ والماء، لو قدرت (أي الشاعر) لمنعت السحابَ أن يمطر لئلا يجدوا ماء وكلأ يرتحلون إليهما للانتجاع".

يسهب ابن سيده في شرحه لمهمّة الرائد وأخلاقيّاته، فيقول: "وافتراق العرب من حلالها إنما هو للنجعة بهم. يقدمون الرواد ليخبروهم بمواقع الماء في مواضع الكلأ. وفي المثل: (لا يكذب الرائد أهله)، فإذا أخبرهم بوجود ذلك ظعنوا، وإن أخبرهم بعدمه سكنوا، فلم يظعنوا. فإذاً: إنما سبب الفراق نزول المطر وظهور الخضر، فيقول (أي الشاعر): لو كان من قوتي أن تطيعني السحاب لنهيتهن عن المطر لئلا يجد رائدُهم أرضاً خصبة، ولا روضة معشبة، يدعوهم إليها، ويدلهم عليها. فلو كان ذلك في قوتي لم يفارقوني".

لكن البيت الثالث هو ما يستغرق كثيراً من الشرح. إنه بيت ملتبس فعلاً. ويعزو الشرّاح هذا الالتباس لـ(وجود حذف)، أصفه بالحذف البليغ، فهو حذف قائم من أجل توسعة المعنى الشعري، وليس نتيجة إخفاق تعبيري، من الممكن أن تُلجئ الشاعر إليه ضرورات الوزن.

ينقل البرقوقي في شرحه عن شرح الواحدي قوله بصدد هذا البيت: "قال الواحدي: هذا كلام فيه حذف لا يتمّ المعنى دون تقديره، كأنه قال: لمنعت كلَّ سحابة أن تمطر لأنّي تأملت الحال، فإذا السحاب - الذي هو أخو الغراب في التفريق - أبعدهم عنا. جعل السحاب أخا الغراب، لأنه سبب الافتراق عند الانتجاع وتتبع مساقط الغيث في الربيع كعادة أهل العير السيّارة، ولما جعله أخا الغراب جعل المطر كصياح الغراب، لأن صياح الغراب سبب للافتراق على زعمهم، كذلك سقوط الغيث من السحاب سبب للارتحال في تتبّع الغيث. فالسحاب - في قوله: فإذا السحاب مبتدأ؛ وأخو غراب فراقهم: نعت له، وجملة جعل الصياح: خبر، ولك أن تجعل أخو: خبر عن السحاب وجعل الصياح: خبراً آخر عنه".

الواحدي يشير صراحةً إلى (الحذف)، لكنه، وبعده البرقوقي، يأخذان هذه الملاحظة من ابن جني من دون أن يشيرا إلى ذلك. يقول أبو الفتح في (الفسر): "هذا كلام محمولٌ على المعنى. ومعناه: لمنعت كل سحابة أن تمطر، لأني تأمّلت الحال فإذا السحاب هذه حاله. فقطع بعض الكلام، وأتى ببعضه اختصاراً (أو إدلالا)". يستشهد ابن جني على مثل هذا الحذف الذي ينعته مرة بـ(الاختصار)، وأخرى بـ(كلام محمول على المعنى)، بما جاء في سورة البقرة/ 60: (فَقُلْنَا ٱضْرِب بِعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)، أي فاضرب بعصاك، فضرب، فانفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً. يشير ابن المستوفي في (النظام) إلى ذلك، ويشير أيضاً إلى قوله تعالى في سورة الرعد/ 12: "(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)، أي: يقولون سلام عليكم، فحذف يقولون".

ولعلّ من أطرف ما يشير إليه الشرّاح في مقاربة معنى الحذف الذي تضمنه بيت المتنبي هو إشارتهم إلى بيت شعري جاء فيه قول قائله: قالت له وهو بعيش ظنك لا تكثري عذلي وخلي عنك. وهو قول قد يبالغ في الحذف، فقد حذف الشاعر فيه ما قالته المرأة من تقريع ولوم لرجلها واكتفى بالتعبير والإفصاح عنه بقول الرجل: (لا تكثري عذلي وخلي عنك)، إنما الشعر عمل في اللغة قائم على كثافة التعبير كوسيلة، وعلى انزياحات التعبير كنتيجة.

***

ينتهي الشرّاح إلى نتيجةٍ تفيد بيأس الشاعر من التحكّم بالسحاب، لا يستطيع منع المطر من الهطول لكي لا تعشب الأرض، وتفيد أيضاً بأن صوت المطر هو قرين صوت الغراب، صوت المطر نذير شؤم يؤكد حتمية البَين وارتحال قوم مِن يحب نحو موطن جديد مترع بالكلأ. هذا ما اتفق عليه شرّاح المتنبي، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هؤلاء الشرّاح من النادر أن يختلفوا، وإن اختلفوا فبمواضع وإضافات طفيفة، وإلا فهم متطابقون إلى حد انتفاع اللاحق من السابق بطريقة لا يتردد فيها بنقل رأي من سبقه حرفياً، بإشارة إليه أحياناً، ومن دونها مرات كثيرة.

لكن القارئ يظل حراً في قراءته، يمكن للشرح أن يكون هاديا ودليلاً. لكن الحرية نفسها تعصمنا أحياناً كثيرة من الخضوع تماماً لما يمليه الدليل/ الشارح علينا. الشعر يتطلب أن تكون هذه الحرية حيّة ومنتجة، ولا تكون هكذا من دون أن تكون فاعلة بالتخلص حتى من وصاية الدليل، الشعر ملهم بتصورات تظل متجددة كلما اختزن النص بطاقة قابلة لأن يجري تفعيلها باختلاف القراءات. هذه الحرية لا تعمل باتجاهٍ واحد؛ من القارئ إلى النص، إنما هي تفاعل باتجاهَين؛ من النصّ إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص.

البيت الثالث، وهو مصاغ بأسلوب يسمح بتعدد التأويل، قد تمكن قراءته بوجه آخر، سوى الوجه الذي يتفق عليه الشارحون. فمن الصحيح أن المتنبي كان يريد بالأبيات الثلاثة تأكيد استحالة البقاء وحتمية البَين، لكن لا أدري لماذا لم يأخذ شارحو المتنبي البيتَ الأخير على أنه بعضٌ آخر من تعبيره عما يتمنى لمنع الرحيل؛ منع السحاب من أن تمطر، واستحالة السحاب، بعد ذلك، إلى غرابٍ لا يمطر هناك إلا نعيباً. ليس المطرُ هو ما يستحيل إلى صياح غراب، هذا لا يحول دون أن يساعد المطرُ الأرضَ لتعشب، لكن حين يكون الغرابُ هو ما يمطر نعيباً، فلا عشب ولا رحيل. لا يتعارض هذا التأويل المقترح مع الموضوع الذي انشغلت به الأبيات والذي يركّز على تعبير الشاعر عن فشله بمنع الرحيل والبَين، لكنه يضاعف من شدّة ما كان يتمنى عليه قدرته لتساعده في ما يأمله من بقاء الحبيب وقومه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى