هدى حمد - التي تَعُدّ السلالم.. فصل من رواية

هل يمكنك يا فانيش أن تكوني كالهواء ؟!

جهزت أوراق فانيش وتأشيرة خروجها من الإمارات إلى عُمان. لم أحتمل عدم معرفتي بتفاصيل دخولها إلى الإسلام. أرقبها من المرآة الأمامية للسيارة. تُراقب فانيش البنايات والشوارع. رأسها مرتفع وما أن أتحدث إليها حتى تضع عينيها في عينيّ مباشرة، على عكس دارشين مطأطأة الرأس. تتحدث فانيش بدرجة من الثقة. لغتها الإنجليزية المختلطة بالعربية تشي بحصولها على قسط من التعليم. خشيتُ المبادرة بطرح الأسئلة والتحدث معها، فاللقاءات الأولى مع الخدم تُحدد نمط العلاقة لاحقا. خشيتُ أن أكسر الحواجز بيننا، فتصعب مهمة انقيادها إلى المربع فيما بعد. رغبتُ في قتل المسافة بحديث ما، لكن حساباتي المعقدة ظلت تنهشني. بسهولة وخفة، خفض عامر صوت الموسيقى، رفع رأسه وتحدث إلى فانيش:

– فانيش. لماذا لا تحدثينا قليلا عنك؟

تجلس فانيش خلفي تماما. أحلتُ رأسي لأرقب المرآة الجانبية.

– حكايتي طويلة بوس. لا أظنها مُهمة.

ترى هل لديها مفاجآت أخرى مخبأة؟ عدا تلك الثقة في جلستها، في انتصاب ظهرها على الكرسي كسيدة، في قدرتها على التحدث برأس مرفوع، بلغة واضحة، في تحريك يديها وتدوير ابتسامتها بيننا، كأنها على وشك أن تعقد صداقة معنا؟ هل لديها مفاجآت أخرى عدا نظرتها التي تُصوبها إلى مرآتي الجانبية فينة والمرآة الأمامية فينة أخرى. ماذا أيضا؟

– عملتُ في ثلاثة منازل. منزلان في السعودية ومنزل في دبي.

– أها. جيد. حدثينا عنكِ أنتِ وعن أثيوبيا، دراستكِ مثلا، عائلتك؟

تستمتع فانيش بإلحاح عامر، بلهفته لمعرفتها أكثر. يقهرني أسلوبه. تودده. أشعر بحرقة في معدتي. أشعر بالغثيان، فيما تواصل فانيش حديثها بثقة:

– تربيتُ بين حقول القهوة في أديس بابا. انتظر والدي أن يكون طفله البكر ولدا يُساعده في مزرعة القهوة، فكنتُ بنتا. أحبني والدي كثيرا. لكني أحببتُ الذهاب إلى المدرسة أكثر. وفرّ لي قسط رسوم الدراسة ولوازمها عندما شعر بلهفتي للعلم. كنتُ أقطع مسافة هائلة لأصل إلى مدرستي سيرا على الأقدام. تعثر حظ والدي وتدنى مردوده المادي، فأبقاني في البيت بعد المرحلة الابتدائية. قال لي بأن تعليم أخي جرما أهم وأكثر فائدة مني. شعرتُ وقتها بالإحباط.

رفع عامر رأسه يطالبها أن تتابع، فاستعاد وجه فانيش حيويته. كبرت لديها شهية الكلام وعامر كعادته يكسر الحواجز التي أبنيها. تصاعدت أنفاسي فيما فانيش تحكي:

– لم يكن الأمر بتلك التعاسة سيدي. بدأتُ أقتات على الكتب المتوفرة لديّ. أكتبُ على هوامش دفاتري، لكي لا أنسى ما تعلمته. جرما يُلقي بحاجياته. يتسيب عن المدرسة أياما ويهرب منها أياما أخرى. أتلصص على كتبه. أتجرأ على حل واجباته.

تضحك فانيش كأنها أوشكت أن تكون صديقة لنا. كأننا أصبحنا فجأة في مرتبة واحدة، لا فرق بيننا، كأننا نعرف بعضنا من عشرات السنين، أو تربينا مع بعضنا البعض. كم أكرهك الآن يا عامر. كم أنت هش ومضحوك عليك. تكمل فانيش حكايتها:

– يتواطأ أخي جرما معي سيدي. يحصل هو على علامات كاملة وأحصل أنا على تدريب مستمر لدى حل واجباته.

كاد أن يصفق لها عامر. انتشى قلبه ورفرف كطفل حصل على لعبة:

– خيار جيد يا فانيش

– لصديقتي زاناش التي تكبرني بأعوام فضل كبير أيضا. تعمل زاناش مع منظمة اليونسيف التي تُشجع على تعليم الفتيات. كانت تمرر لي بعض الكتب المكتوبة باللغة الانجليزية وكنتُ أجد صعوبة هائلة في قراءتها. لكني أثابر على التعلم، وأذهب إليها أحيانا وأطرح عليها الأسئلة وأعود بحماس أكبر للقراءة في أوقات فراغي القليلة. هل تدري يا سيدي. عندما لاحظ والدي اهتمامي الهائل بالقراءة والتعليم، فيما جرما منشغل بالعبث أعادني إلى المدرسة، شريطة أن أساعده في الحقل في أوقات الفراغ. قسمتُ وقتي بين مزرعة القهوة والمدرسة. ابتسمت لي الدنيا، فدخلتُ الجامعة. درستُ السنة التأسيسية في كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية.

اندهشتُ من قصة فانيش. هل يعقل أن تكون قد دخلت الجامعة وانتهى بها الأمر خادمة في بيتي؟ كل هذا بسببك يا عامر، تُعطي الخدم فرصا ليمارسوا الكذب كيفما تسنى لهم. لستُ غريبة على أكاذيب الخادمات. ذقتُ منها الكثير. عاود عامر سؤالها باهتمام أكثر هذه المرّة:

– ذهبت إلى الجامعة فانيش! أها. شعرتُ بذلك. أسلوبك ولغتك الانجليزية جيدة. لكن ماذا بعد؟ ماذا حدث لهذه الحياة الحلوة؟

تغيرت نبرة صوت فانيش قليلا. يبدو أنها استمتعت بفرص الكلام الذهبية، لتنسج قصصا إضافية. يُصدقها عامر كأنها فرّت من الكتب التي يُداوم على قراءتها. يحفر معها الحكايات كأنه على وشك أن يأخذها بشحمها ولحمها إلى روايته التي يكتبها منذ سنوات، ولم أتمكن بعد من قراءتها أو معرفة شيء عنها. يقول لي بأنّ الكتابة شيء حميمي، شيء يشبه الجنين في الرحم. لا ينبغي أن يُرى أو أن يخرج إلى النور إلا عندما يكتمل نموه وتحين ولادته بشكل طبيعي. الحقيقة، لا أدري متى ستحين ولادة روايته المتعسرة. يكتبها منذ الابتدائية كما أخبرني عمي حمدان. يكتب كل الأحاديث التي يسمعها من والده عن زنجبار وعن والدته بي سورا. يحتفظ بكل شيء في ملف أبيض شفاف. عدّة كراسات زرقاء صغيرة وأوراق. يعمل على إعادة كتابتها في جهاز اللابتوب الخاص به. لم يكن من حقي أو من حق راية أو يوسف الاطلاع على ما بداخل الملف الشفاف. في ساعات تنظيف غرفة المكتب، يرفع عامر الملف بعيدا عن الأعين المتلصصة، ريثما تنتهي قصة تنظيف المكتب

المزعجة كما يقول. أشركنا عامر في قراءة قصص أخرى كتبها ونشرها في دار الانتشار العربي وقد حضرنا حفل التوقيع الأخير في معرض الكتاب في مسقط. أذكر جيدا عندما سأله الإعلامي سليمان المعمري في برنامجه المشهد الثقافي عن كتابه المقبل؛ أجاب: “ستكون رواية”. مرّت ثلاث سنوات على صدور مجموعته القصصية الأخيرة “يزغرد الفرح”، مرّت ثلاث سنوات وهو يواظب على الكتابة ساعتين كل يوم، لكن لم يحن أوان ولادة الرواية بعد. استأنفت فانيش حديثها:

– كثرت الأفواه الجائعة في عائلتي. أمي تنجبُ كل عامين أخا أو أختا جديدة، ولم يكن بيد والدي الأجير في حقول القهوة سوى أن يُفاتحني بالموضوع.

تصمت فانيش، أتلصص عليها من وراء نظارتي الشمسية، تأخذ نفسا أو ربما تخترع كذبة.

– قال لي والدي: أرغب في مساعدة منك يا فانيش. لم أفهم أي نوع من المساعدة يريد أبي من ابنته البكر. انهارت أمي بالبكاء المتواصل وهي تلف ذراعيها حول عنقي من خلف مقعدي. فهمت. هذه القصة تكررت في بيوت جيراننا المجاورة. أب تخنقه الكلمات، أم تبكي بحرقة وابنة تذهب للعمل في الخليج. والدي قال بصوت مضطرب: “إنها الحاجة يا فانيش. الحاجة هي التي تدفعني لأن أطلب ذلك منك”.

انطلت حيلتها القذرة على عامر. تغير صوته. بدا متعاطفا معها كما يتعاطف مع الشخصيات التي يكتبها :

– هل أجبرك والدك على السفر؟

تخفض فانيش رأسها، ثم ما تلبث أن تعيد رفعه:

– ضيّق والدي على نفسه لأدرس. خبأ كل بير يكسبه لأجلي. الأفواه من حوله تتسع كل يوم وظهره ينحني. كان ينبغي أن أرد الجميل سيدي.

كنتُ خارج لعبة الكلام بينهما. أنصتُ إليهما. أتعجب من أكاذيب الفتاة ومن قلب عامر الهش. يسأل عامر:

– كيف قضيت مدة الخدمة في السعودية. وبالمناسبة، ما هي قصة دخولك إلى الإسلام؟

أشعر بالغضب الهائل، فيما عامر يُحول الخادمة إلى امرأة ستنضم قريبا إلى العائلة بصفتها فردا منها. لا أكترث لأمرها، لكن عامر يُعطي لصوتها أهمية. صوبتُ نظرة عتب إليه. لكنه لم ينتبه لي. ربما تجاهلني.

يصفُ عامر السيارة بالقرب من محطة البنزين في ولاية صحار. يلتفتُ لحظتها إليّ سائلا: “أين سنتغدى؟”. أقترح الذهاب لتناول الغداء في البيتزا هت. يوافقني الرأي. يعرف عامر أني لن أتجرأ إلا على تناول السلطة الخضراء. أفكر في الطريقة التي

سنجلس فيها ثلاثتنا على طاولة واحدة. وجدت فانيش الحل. جلست على طاولة تبعد عنا بطاولتين، من دون أن يطلب أحدنا منها ذلك. تصرف جيد يا فانيش. هنالك ما يمكن أن أصلحه في علاقتنا بعد أن أصل إلى البيت. يأتي عامر محملا بالسلطات وعلبتيّ البيتزا. ثم ما يلبث أن يشير إلى فانيش.

– فانيش. اجلسي معنا. سنستمع لباقي القصة بينما نأكل

شعرتُ لحظتها برغبة جادة بقلب الطاولة في وجه عامر. لمّحتُ له بعينيّ عدم موافقتي. انتبهت فانيش لذلك قبل عامر.

– سيدي. لا بأس. أنا مرتاحة بالجلوس في طاولة منفردة.

تصنعتُ ذهابي إلى دورة المياه. تبعني عامر. قال ضاحكا:

– ويش هنالك زهية. معقولة تغاري عليّ. تراها بعمر راية؟.

رفعتُ يديّ وصوتي في آن:

– أنا أغار من هذه الحثالة الكذّابة. شوف عامر وش سويت. تسمع قصصها وتطلب منها تاكل معنا بعد

تناول عامر نفسا عميقا. لفّ كتفيّ بين يديه بحنان بالغ ثم ألقى قنبلة في وجهي:

– طوال عمرك تُعاملي الشغالات مثل الحشرات تحت رجولك. وأنا خبرتك يا زهية هذي طريقة فاشلة

انتبهتُ لنظرات الناس من حولنا. تركوا طعامهم يبرد ليتفرجوا علينا. ارتعبتُ عندما غادرني عامر ورأيته ينضم إلى طاولة فانيش. أخذتُ نفسا عميقا. هدأتُ قليلا. عدتُ وجلستُ بينهما كأن شيئا لم يحصل. تناولتُ صحن السلطة. قلبت الخضار بالشوكة لأتأكد إن كانت مغسولة بشكل جيد. دسستُها في فمي. التزم ثلاثتنا الصمت ولم يعاود عامر بثّ الأسئلة، كما خبأت فانيش عينيها بعيدا عني.

صحوتُ من نومي. جلستُ على سريري. كان عامر قد غادر إلى عمله. حضنتُ الوسادة، بينما كانت كآبة مُرّة تصعد إلى حلقي. فكرت، ألم يكن تجاوزا حادا في حياتي أن أختار أثيوبية، بعد أن تنعمتُ طويلا بنظافة الفلبينيات والأندونيسيات والسيريلانكيات؟ ألم يكن تجاوزا مساحة الحكي تلك التي منحها عامر لها؟ أطرد أفكاري السيئة من رأسي. أستمتع بحمام ساخن. ينزلق الشامبو على وجهي، على عينيّ المغلقتين. أفكر، هل يمكنك يا فانيش أن تكوني كالهواء، بلا كلام فائض؟ هل يمكنكِ أن تكوني كالكهرباء، أشعر بنتيجة وجودك ولا أراكِ؟ هل يمكن أن أصحو لأجد بيتي ممتلئا بالحياة. النوافذ مُلمعة ومفتوحة لأشعة الشمس، رائحة البخور تعبق من الصالات التحتية، لتصعد إلى غرفتي في الطابق العلوي. هل يمكن أن أتجول فوق خشب الأرضية حافية من دون أن يُصيبني التقزز أو الغثيان. هل يمكن أن

تُعيدي إليّ خفتي ونشاطي لأرسم على “الشيل” السوداء وعلى العباءات بألوان صاخبة من دون أن أعاني حُكاك النظر إلى الفوضى. افعلي ذلك لأجلي وأنا سأدللك براتب جيد، بهدايا قد لا تحلمين بها. نظفي واكنسي وقطعي الخضار إلى قطع متساوية، ضعي الأشياء في أماكنها تماما، كأنها لم تُمس بعد، كأن الأيدي لم تطلها من قبل، فهذا يُشعرني بالاطمئنان يا فانيش. غطي يديك جيدا بالقفازات أثناء غسيلكِ لدورات المياه وارتدي القفازات الأخرى المخصصة للمطبخ، وقبل هذا وذاك تأكدي أن لا تُغادر شعرة طائشة من شعركِ خارج الغطاء، لا تسمحي لخطوكِ أن يتسلل إلى أذنيّ وأنا أنشغل بالرسم والألوان. ارتدي الخُفّ الناعم الذي لا يُسمع له صوت ولا يُحس به. افعلي ذلك يا فانيش، فهذه الأشياء هي دواعي بقائك في بيتي لمدة أطول.

ألبس ملابسي، أحضر نفسي لكلام طويل سأقوله لـ “فانيش”. أنزل السلم المؤدي إلى الصالات، تشهق روحي بتعجب هائل. كأني لستُ في بيتي الذي كنتُ أركض فيه بعينين مغمضتين لأتجاوز مطالعته قبل يومين. يا إلهي. كأنّ دارشين عادت فجأة. هل هذا حلم أم حقيقة؟. قفزت فانيش أمامي وهي ترتدي “يونوفورم” أنيقاً من المجموعة التي أعطيتها إياها فور وصولها مع غيارات نظيفة وفوط وقفازات وأغطية رأس. ابتسمت فانيش وحنت رأسها وحيتني. ابتسمتُ لها والدهشة تملأني.

“متى استطاعت أن تفعل كل هذا بنت الجنية”.

وقفت قدماي على الأرضية اللامعة. كانت رائحة “الديتول” تدغدغ أنفي وتعبق من دورات المياه. مشيتُ لأول مرة حافية على أرضية المطبخ التي لم أدسها منذ سفر دارشين. الأشياء في أماكنها تماما. لم تسألني فانيش عن أي شيء. كأنها تعرف أماكن الأشياء بدقة متناهية. تعرف مكان أدوات التنظيف، تعرف ضرورات استعمال كل واحدة منها. كأنها كانت تقطن في هذا البيت. رتبت أدوات تلوين الشيل. نفضت السجادات، ووضعتها جانبا. نظفت المراوح. فتحت الشبابيك وسمحت للضوء أن يتسلل إلى الصالة. تفاجأتُ بدواليب المطبخ. أخرجتْ كل الأواني والأطباق والقدور. فرشتْ مفارش النايلون في أرضية كل دولاب وأعادت تنظيم أدوات المطبخ بتنسيق أبهجني.

“هذه الشيطانة من أين خرجت؟!”

أردتُ أن أصفق. أن أقول لها أنت تفهمين ما أريد حتى قبل أن أتكلم. أنتِ تصنعين معجزة. ولكن لا. لن أفعل ذلك وإلا فرّت من المربع الذي أحاول أن أدخلها فيه. تقف أمامي بقامتها التي تعلو قامتي بقليل، بجسدها النحيف المتناسق. ألحظ حركتها السريعة، عملها المتقن الذي لم يُهمل تفصيلا واحدا. كأن أمنيتي الصباحية تحت دوش الماء الساخن والشامبو قد تحققت. كأني مسحتُ على المصباح السحري، وخرج المارد ليحقق لي أمنيتي الصغيرة بضربة موفقة على رأس فانيش.

سألتني إن كنتُ سأتناول فطوري الآن. وجدتني أرد عليها بحزم:

– لا علاقة لك بإعداد الطعام. فهمتِ. أنا فقط التي تعد الطعام هنا.

تغير لونها، انكمشت ابتسامتها، بالكاد لاحظتُ إيماءة رأسها وهي تنسحب من أمامي لتكمل التنظيف. حضرتُ شاي الحليب بالزعفران هذه المرّة. إنه شاي المزاج الرائق والأفراح المؤجلة. وضعتُ الشاي في صينية برفقة بعض من الخبز والجبن والزيتون. تناولتُ هاتفي وتحدثتُ إلى راية ويوسف وأبلغتهما عن خبر وصول فانيش. أخبرتهما أنها كما يبدو ستتفوق على دارشين. فرحا لأجلي، وما لبثت أن أضافت راية في نهاية المكالمة:

– ماه.. خفي عليها شوي.

امتعضتُ من تلك الكلمة التي يُكررها عامر والأولاد. لا لن أخفّ عليها. ينبغي أن تبقى في مساحتها المحددة لكي لا أظلمها، ولا أتحامل عليها. نبهتُ فانيش إلى ضرورة أن لا تطرح الأسئلة. تنفذ الأوامر وحسب. نبهتها إلى ضرورة أن لا تتحادث مع ضيوفي. لا أكثر من تحية عابرة.

– سأناديك باسمكِ الذي تحبين. لا مشكلة لديّ فيما يتعلق بالحجاب والصلاة، إنهما خياركِ الشخصي ولكن غطاء الشعر مهم، ليس لأسباب دينية، وإنما لكي لا يقشعر بدني عندما يسقط شعرك في طعامي أو على أرضية منزلي. ستحصلين على إجازة مرّتين في الشهر، مرّة لشراء حاجياتك، ومرّة لتلتقي بمن تتعرفين عليهم أو إن شئتِ لزيارة الكنيسة. ما يهمني هو النظافة وحسن النوايا.

أطلقتُ جملتي الأخيرة تمهيدا لمحاولتي إدخالها إلى المربع. لكي لا تفكر أنّ قصصها التي حكتها لعامر ستجلب لها تعاطفي.

تنسحب فانيش من أمامي خفيفة كريشة. لا أسمع وقع قدميها في الخف القطني الذي ترتديه. لا أسمع صوتها ولا حركة عدّة التنظيف. كل شيء يجري وفق القوانين التي أرسمها. ياااه الخدم كالعجينة الطرية القابلة للتشكيل. فقط علينا أن نقول بجرأة كل ما نريد وأن لا نتغافل عن الترغيب والترهيب والأهم من كل هذا، أن تبقى المسافة بيننا وبينهم كأنهم ليسوا هنا. كأننا لا نراهم.

دخلتُ إلى المطبخ وبدأتُ بتحضير وجبة غداء شهية لعامر. فانيش تُقطع الخضراوات بمقاسات صغيرة ومتساوية. ترتدي القفازات طوال الوقت وتلف شعرها في حجاب قصير. كل إناء أستعمله تغسله في اللحظة ذاتها. طوال بقائنا في المطبخ، لم تفتح فانيش فمها بكلمة. لم تقل شيئا. ياه كم أحب هذا الإنسان “الروبورت”. عليّ أن لا أبدي أي إعجاب بصنيعها. إنه جزء من واجبها الذي تتقاضى عليه أجرا آخر كل شهر. يصل عامر في الوقت المناسب. أضع السلطات الشهية وبرياني الدجاج على الطاولة. لم يتمالك عامر نفسه عندما دخل البيت:

– عادت للبيت الحياة أخيرا

وضعتُ يدي على فمه. طلبتُ منه أن يصمت لكي لا يكبر رأسها علينا فلا نعود قادرين على ضبط المسألة. يصمت عامر. جلسنا لتناول الطعام و تحدثنا عن

أشياء كثيرة وكأن الحياة عادت لتدب في قلبي. كنتُ مرحة وطفولية وكثيرة الشغب والدلال. أعرف تماما أن عامراً يُحبني بكل هذا الوهج ويتضايق عندما يأكلني الاكتئاب وألوذ بالصمت وأنطفئ.

اختبأت فانيش في مكان ما. لم أشعر بعينيها تتلصصان علينا ولا بأذنيها تسترقان الحديث الذي دار بيني وبين عامر. توقف دبيب جسدها. ياااه. تبدو لي مدربة وجاهزة. لا حاجة لمزيد من الصراخ وتكرار النصائح والأوامر


* فصل من رواية جديدة للكاتبة العُمانية هدى حمد بعنوان “التي تَعُدّ السلالم” تصدر قريبا عن دار الآداب اللبنانية ضمن مشروع “محترف نجوى بركات” للرواية في دورته الثانية في البحرين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى