جورج سلوم - شرشف العار

هذا الحلاق النسائي أصابعُه سحريّة .. وذاعَت شهرته بسرعة بين الحريم .. تناقلنَ أخباره .. وأصبح الخيارَ المفضّل في تلك الدار المخصصة للتجميل ..

تنتظرنه دوناً عن غيره .. وتلتزمن بمواعيده .. بالرّغم من أن تلكم الدار فيها الكثيرات ممّن تعملن بنفس الصنعة .. لكن ذلك الحلاق له طعمٌ آخر كما يبدو .. أصابعه فيها نكهة خاصة من ذاقتها مرة أدمنتها

ذلك المكان محرّمٌ على الرّجال ارتياده .. يأتون كمرافقين لنسائهم .. لكنْ هنالك خطٌّ أحمر ممنوعٌ تجاوزه بالنسبة لبني آدم .. ما خلا ذلك الحلاق يسرح ويمرح بين بنات حواء كواحدة منهن ..

والأزواج يعرفون ذلك .. لكن لاحول لهم ولاقوة .. فذلك الحلاق مطلوبٌ ومرغوب .. بعضهم يعترض على وجوده في مكان كهذا .. بل ولماذا الإصرار عليه ؟.. ألم يخلق الله له بديلاً؟

أمّا الزوجات فأجوبتهنّ جاهزة :

- إنه شاب خلوق .. ولطيف ..فنان .. أصابعه ملفوفة بالحرير .. ولا تحسبوا له حساباً ممّا يشغل بالكم .. فهو أختنا الكبيرة .. ويسمّونه في دار التجميل (الأخت عباس )..

وحاول بعض الأزواج التملّص والتخلّص منه بدون فائدة .. حاولوا استبدال المكان برمّته هروباً من سحره بلا جدوى .. ثم أقنعوا بعضهم عندما يلتقون في غرفة الانتظار الخارجية .. بأنه رجلٌ بالإسم فقط .. وأشبه بالخصيان في بلاط الخليفة فلا ضيرَ منه على الجواري ..

وقال أحدهم ممازحاً:

- كنت أستغرب إصرار زوجتي عليه كمصفّف للشعر .. لكنني اقتنعت أخيراً فهو فنّان بحق .. يعطي لكل زبونة حقها .. يملأ الفراغات ويضع النقاط على الحروف

وردّ آخر ضاحكاً :

- أنا رأيته .. ناعمٌ كالنساء .. ولولا أنني متزوّج لتزوجته

وقال آخر بصوت قريب من الهمس :

- تأتي زوجتي كل خميس إلى هذه الدار لترتيب نفسها .. وها أنا ألتقي هنا بكم تكراراً.. صار (الأخت عباس ) برنامجاً أسبوعياً عندنا كما يبدو.

لكنّ الحقيقة المُرّة أنهم يكذبون .. فلم يرَهُ واحدٌ منهم .. وهم جميعاً ممتعضون من إلحاح الزوجات عليه .. لكنْ تهون مشكلتنا عندما نرى غيرنا واقعٌ بها وساكتٌ عليها .. وإرضاءِ الزوجة بأمرٍ بسيط كهذا مبلوعٌ ومهضوم .. بل ومنسيٌّ أيضاً .. ولا يعتبر الزوج في الأمر منافسة له ولا خيانة ولا إشراكاً به .. كأنّ زوجته تحبُّ مطرباً عالمياً .. قد تحمل صورته .. تتأمّلها بحضرته .. تسمع موسيقاه وتتغنّى بها .. والمطربُ موجودٌ وراء البحار .. وقد يكون متوفياً رحمه الله كعبد الحليم حافظ !..ماالمشكلة في ذلك ؟!

أصبح (الأخت عباس ) ظاهرة منتشرة في تلك المدينة .. سرٌّ نسائي غير قابل للتداول بين الرجال .. كإحدى طرق نزع الشعر من أجسادهن .. كإحدى الكريمات السرّية التي تُدهَنُ بها بقعة ما فتمنحها الطراوة المطلوبة .. أو كعلامة تجارية لحمّالات الصدر .. لا يحفظها الرجل لكنه يسعد بشرائها .. ويدفع راضياً .. وتعجبه النتيجة

تلك الأسرارالنسائية غير قابلة للإفشاء بين الرجال .. فالرجل يريد الساق لمّاعة وناعمة الملمس .. والعقب طرياً ومدوراً لو ارتطم بعنقه..والصدر مشرئباً محمولاً بأنفة .. ولو ناء بثمن حمّالته .. وتسريحة الشعر جذابة عندما يرتفع السّجف عنها .. أما الطريقة فغيرُ مهمّة .. دعوها ( لعباس الأخت)!

و(الأخت عباس ).. على شهرته .. وأطياف النساء اللواتي يغرق بينهن.. يعيشُ في عالمٍ آخر .. شكلُه غير ما يظنّ الأزواج .. طويلٌ .. ملتحٍ بكثافة .. عابسٌ أبداً .. بل وعبّاسٌ كإسمه .. صارمُ النظرات قاسيها .. وكلماته قليلة لكنها آمِرة .. ناهِرة .. آسِرة .. وقاهِرة أيضاً

حضورُه مَهيب .. كشيخٍ مشعوذ .. وعيونه بلا حراك ينظر في عيني المرأة أولاً فتستسلم لتنويمٍ مغناطيسيّ .. تجلس على كرسي الحلاقة مستكينة خاضعة ..تعطيه رأسها وعنقها من الخلف .. تُسنِد إليه ظهرها بثبات ولو كان الكرسي قابلاً للدوران .. تنظر في المرآة ولا ترى إلا عينيه التي ارتبطت بعينيها عبر المرآة .. ثم تسترخي وتسدل الأجفان .. لا تفيق حتى يقول كلمته المشهورة ( نقطة انتهى ) .. بمعنى لملمي نفسك وافسحي المجال لغيرك ممّن تنتظرن الدور..ثم ينزع عنها بعنف تلك الملاءة التي تقيها من بقايا الأشعار المقصوصة .. ينفضها نفضاً .. مرات ومرات .. كأنما يغسل عاراً التصق بها !

تلك الحركة تميّز بها .. ولم تعنِ لإحداهنّ شيئاً .. قد تكون إيعازاً بانتهاء العرض المسرحي كرفع الستارة وإنزالها

لم تسأله أحداهن عن لون الشعر الذي يناسبها .. ولا شكل التسريحة التي تلائم وجهها .. يسكتن بين يديه وكأنهن بين يدي الجرّاح يبقر بطونهن ويستأصل أعضاءهن .. يتلاعب بها .. يغيّر شكلها.. وهنّ راضيات كأنهن تحت التخدير العام

يداه تعمل كآلة ذاتية الحركة بدون تفكير.. فالخبرة لديه كبيرة ببواطن النساء وأهوائهن ... وهنّ دوماً سعيداتٍ بالنتيجة حتى ولو نتف أشعارهن نتفاً .. يثقن بأنه يختار ما يناسبهن .. فتراهنّ صاغراتٍ بين يديه السحريتين

قال لها زوجها ذات ليلة .. عندما كشفت له رأسها :

-ماهذه التسريحة الغريبة ؟... شعرٌ أحمر وواقف كعرف الديك !

فتجيب :

- وما أدراك بالتطوّر العصري يا زوجي الحبيب؟ .. إنها صيحة جديدة في عالم الجمال .. هذا ما يناسبني اليوم .. وأنا من اختار ذلك

والرِّضا الذي حلّ على الزوجة يومها .. منحته للزوج في الفراش .. فعمّ الرّضا على البيوت وكان الفضل في ذلك (للأخت عباس )

عباس في بداياته كان شاباً وسيماً .. لم يتابع دراسته الجامعية في كلية الفنون .. وضاع وراء أهوائه وعشقه لامرأةٍ أذاقته الويل .. في تمنّعها وتبدّلاتها وتقلباتها .. إذ قابلت حبّه الصادق بخياناتٍ متكررة .. وصبر على ذلك فالحب أعمى والحبيبُ مغفورةٌ خطاياه .. حتى رآها بأمِّ العين .. وكان سيغفر لها أيضاً لو لم تنتفض عندها كذئبة ضارية .. لفظته وأطاحت به عرض الحائط .. نبذته .. طرَدَتْه ولم يرفّ لها جفن ولم تزلْ ممسكة بيد الشريك المنافس الملتحف بشرشف العار .. وكان سيغفر لها أيضاً لولا ماء الوجه المسفوح على مرأى من الخصم الساخر .

بعدها أصبح عبّاسُ عابساً أبداً .. حاقداً على النساء أجمعين .. وحتى على أمه .. تعلّم الحلاقة كوسيلةٍ سهلة للعيش.. وأبدع وتفنن في الذقون ورسم عليها لوحاتٍ شعرية (بفتح الشين)... كان يُشفق على الرجال كحمقى تسير المياه من تحتهم .. وهم آخر من يعلم .. لذا كان مقصّه عطوفاً وشفوقاً بأشعار رؤوسهم القليلة المشتتة .. فلا يجور عليهم بالجزّ والقصّ .. يتلطّف بتلك الشعيرات المنثورة على الأرضية الصلعاء .. يسحبها من قطب إلى آخر .. يثبّتها .. ينفشها .. عسى أن تبدو تويجاً يعجب (ذات الجدائل )

كان يرثي لهم وهو ينتف أشعارهم البيضاء على الفودين .. ويصبغ بالسّواد ما عجز عنه .. يسخر من شاربهم الضخم المستفحل الفارغ من الداخل .. يضحك من أحاديثم السرية عن الحبوب الزرقاء .. ودهوناتهم وأعسالهم .. ووصفاتهم المقوّية .. وللرّجال أسرارٌ أيضاً لا تأبَه بها الزوجات .. المهمّ النتيجة والاستفحال عند ذات الجدائل وسيدة اللواعج وأم البنين .. وأميرة الخميس .

كان يمزح مع الرجال قائلاً:

- أيُّ حربٍ عربية ستقوم يوم الخميس .. سنخسرها حتماً .. لأن الجبهات تكون مفتوحة في الفراش .. والقوى مشتتة .. والقوات مشرذمة .. وقادة الجيوش أيام الخميس هم النساء.. أما الرجال فأجنادٌ ومجنّدون !

أمّا معلّمه الذي لاحظ رقة أنامله ودقة صنعته .. فقد نصحه بالإنتقال إلى شعور النساء .. حيث الإبداع مجالاته أوسع .. فأخذه إلى بيته وسلّمه رأس زوجته أوّلاً .. وكانت النتيجة رائعة .. ومن يومها ما مسّ شعرها إلا عباس .. وزوجها طبعاً

وهكذا ذاعت شهرته .. وأصبح عنصراً أساسياً في أكبرِ دارٍ للتجميل في تلك المدينة .. وأصبح شريكاً لمعظم الرجال في شعور نسائهن .. (والشعور هنا تجمَعُ الشَّعر والمشاعر ).. ووصل إلى رؤوس كبيرات القوم .. وكبيرات القوم هن زوجات كبار القوم طبعاً..

ماذا فعلت بهنّ يا عباس ؟!

لقد عشقن قسوتك اللطيفة.. المحببة والمثيرة .. النساء بحاجة لقسوة محدودة .. وما زلت ضمن الحدود .. ويفشل الزوج الرقيق في منحها فيصبح بارداً .. ويتجاوز الزوج القاسي حدودها فيصبح ظالماً .. والإثنين تنفر منهما المرأة

ما سرّ ذلك الإستسلام اللحظي لسحرك؟

كأنك تعزف على أوتارهن..كأنك مُمسِكٌ بمفاتيحهن .. (تدوزنها )..تشدّها وترخيها .. بعض النساء تثار بلمسةٍ من بشرتها .. وبعضهن بحاجة لقرصةٍ من جلدتها .. واللغز في مبلغ وشدّة وموطن العزف .. وهذا ما أتقنه (عباس الأخت )

ما هذه الألوان التي أسبغتها على كبيراتنا ؟

حتى ألوان ثيابهن تدخّلتَ بها .. وحتى نوع المصاغ الذي سيتدلى من أعناقهن .. تلك الأقراط الغالية أنت من فرض شراءها .. تخلعها من آذانهن وتضعها على طاولتك بينما ترشرش عليهن مثبّتاتك ومعطّراتك وملوّناتك .. خدودهن أنت من يكسوها بالمساحيق .. وأحمر الشفاه تدعكه بقسوة على شفاههن .. لتترك واجب إزالته لأزواجهن .. فيلعقون آثار يديك

أصابعكَ التي تلعب بشعورهن وتدغدغ مشاعرهن .. فاقت الحدود .. وتطاولت نحو الخدود والأعناق وما دونها .. وتركت آثاراً تدق بها الأعناق لو فعلها غيرك

كل ذلك وما زال (الأخت عباس ) مجهولاً كرجل .. حاقداً .. مهزوماً .. مطعوناً برجولته .. لن ينسى شرشف العار الذي ما ارتضت الخروج من تحته تلك الخائنة .. وما زال يعضّ أصابعه السحرية ندماً..

كيف لم ينزعه عنهما لتنكشف عوراتهما المغطاة بالأشعار ؟

كلُّ مكان يغطيه الشعر هو عورة عند المرأة .. ولا تعتبر الرضيعة المكشوفة عورة لأنه لا شعر عليها .. فلا حيف عليها ... ويبدأ المرء بالخجل غريزياً من التعرّي عندما تنبت أشعاره!

ما كان حلاقاً عندها .. وإلا لكان كبّلهما عراة .. ونتف أشعارهما شعرة شعرة حتى يعودا إلى النقاء .. ثم ينفض ذلك الشرشف نفضاً عن غبائره وخباثاته وعوالقه وأسراره

كل ذلك.. حتى جاءته دعوة لحضور مؤتمرٍ للإتحاد النسائي كواحدٍ من الجمهور .. اختار الصف الأخير وكان قادراً على رؤية جميع الحاضرات من الخلف في المسرح الصغير .. وبنظرة واحدة كان قادراً على معرفة الكثيرات منهن .. فتلك التسريحات صنعته .. وتلك الرؤوس يعرفها جيداً ..يغسلها ..يمشطها .. ينشفها .. يزينها .. يستبدل خصلاتٍ منها بمستعارة .. يزيّفها .. وهنّ زيفٌ على زيف

بعد أشهر طويلة .. ترك عباس صنعته .. طردوه .. وأبعدوه .. إذ تجاوز الحدود ... ويُحكى أنهم سجنوه بأمرٍ من إحدى كبيرات القوم !.. وتلقى ضرباً بالعصا على يديه التي مسّتْ وأشركت

أصابعه السحرية صارت متشنّجة وطالت أظافره .. والكثيرات اشتكين من قسوته .. أصابعه كانت تشدّ الأشعار ولا تقلّمها .. وتخنق الأعناق ولا تداعبها ... وتمزج الألوان على الوجوه بكثير من السواد .. فالكحل وظلال الأجفان والشفاه وكراسي الخدود ومهاوي القرط .. كلها أغرقها السواد .. وصار يسحب الملاءة عن الزبونة بعنفٍ غريب .. لا ينفضها بل يمزقها بأسنانه .. قد يدوس عليها كبديلٍ عن شرشف العار الذي لن ينساه أبداً .

*************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى