معاوية محمد نور - المكان (قصة تحليلية)

معاوية.jpeg


فتح مذكرته التي يدون فيها خواطره وأسماء الموضوعات التي يود الكتابة عنها فقراء فيها أسماء هذه الموضوعات:
1. حماسة شاعر عصري
2. هكذا نحن!
3. حرفة الكتابة
4. الأولاد الأشقياء في الليل
5. إحساس بالمكان.
ووقف عند هذا الموضوع الأخير يديم فيه ويفكر متى كتبه؟ استجاش إحساسه بالمكان، فذكر إن للمكان من كل ظاهرات الوجود النصيب الأوفر من خياله وإحساسه، واستولى عليه شعور قوي يدفع به لتدوين ما يحسه تجاه المكان. لكنه شعر إن الموضوع مترامي الأطراف متشعب النواحي لا يستطيع صهره وتركيزه وتبويبه على الوجه الذي يرضيه! وكيف يستطيع ذلك والموضوع شائع في كيانه شيوع النور في الفضاء كله. وعلى كل حال ابتدأ بالطريقة الزمنية في توضيح الموضوع ولم أطرافه واستعرض صفحة حياته من طفولته إلى عهده الحاضر.
فذكر انه وهو طفل لم يتجاوز الرابعة من العمر، كان قد أخذه والده إلى بيت زوجته الثانية لكي يلتحق ((بالخلوة)) هناك. وبقي زمنا في ذلك المكان، كانت أعجب الظواهر العقلية عنده انه حالما يستيقظ من النوم مبكرا على صياح الديك يذكر أهله وبيته. لكن شيئا واحدا أعجب له وظل يعجب له طيلة إقامته هناك، وهو انه خيل إليه أن عنده مفتاحا سحريا يعرض أمامه السوق التي كانت تقع بالقرب من بيتهم في كل حركتها وصخبها وحيويتها ولم يبق له لكي يصدق خياله إلا أن يشترى من ذلك البائع أو يضرب ذلك الرجل! فلما كبر قليلا ظن في نفسه إن هذه الظاهرة غريبة فيه وانه يجدر به أن يسال الناس إذا كانوا يحسون ويتخيلون مثلما يحس ويتخيل. لكنه لم يفعل ولعل شيئا من الإشفاق على نفسه والخوف من الضحك عليه منعه من ذلك السؤال.
وكبر ((مجدي)) فادخله والده المدرسة الابتدائية فكان يري حوائط المدرسة حينما تقرب العطلة الكبرى باهته شائخة ويعاوده شيء من الإشفاق عليها، فلا يترك المدرسة يوم العطلة إلا بعد أن ينظر إلى كل حائط وكل شق ويذرع ((الحوش)) ثم يودعها ويلبث ينظر إليها وهو في الطريق إلى أن تغيب عن نظره...!
ثم راح ((مجدي)) إلى المدرسة الثانوية في الخرطوم، فكان وهو في حجرة الدرس يكتب أو يستمع إلى المدرس تقفز به ذاكرته من غير أن يشعر إلى خرائب رآها قبل عشر سنوات في ام درمان! ولا يعرف ما علاقة تلك الخرائب والأطلال التي لم يقف عندها في يوم من الأيام باللحظة الحاضرة، ومالها تلح على خياله وتصوره وتحتلهما من غير أن يناديها أو يفكر فيها حتى في ام درمان كلها – وبعد جهد ليس بالقليل يستطيع صرفهما والانتباه إلى حاضره...!
فإذا ذهب لينام في الليل وسمع صوت البوري الذي يضرب عادة لعشاء الضباط الانجليز ذهب خياله توا إلى من فقد من أهله وقرابته.
واغرب من ذلك كله انه كان لا يسمع صوتا إلا ويعطيه لونا خاصا. فصوت البوري اصفر باهت، وصوت الاتومبيل اسود عامر السواد، كما انه كان ينظر إلى الأرقام المكتوبة كلها بخط واحد، فيتفاءل بالبعض ويتشاءم من البعض الأخر، ويعطي تلك الأرقام ألوانا فالثمانية والأربعة أرقام عامرة طيبة، والخمسة والتسعة أرقام باهته صفراء لا يرتاح إلى رؤيتها أو التيمن بطلعتها!!
وكان صوت ذلك البوري دائم الاقتران بصورة خاله الذي مات. وهو لا يذكر ذلك الخال حينما يذكره إلا على صورة واحدة ولو انه رآه في مختلف الصور والإشكال. يذكره حينما كان معه في المولد النبوي في ليلة مقمرة في حركة واتجاه واحد بعينه دائما!
وهذه الظاهرة هي الأخرى لا يستطيع لها تفسيرا، فانه قل أن يذكر الناس الذين عرفهم من من ماتوا من أهله أو من هم بعيدون عنه إلا في هيئة الحركة. وفي اغلب الأحيان في حركة بعينها وفي مكان بعينه ويوم وساعة بعينهما – فلا يذكر خادمتهم التي ماتت، في البيت مثلا أو في المطبخ أو ما إليه من الأماكن التي طالما رآها فيها، ولكنه يذكرها في مكان بعيد كان برفقتها فيه. في مكان قفر بالقرب من النيل بعيدا عن المدينة وفي خطوة وإيماءة واحدة، حالما يذكر تلك الخادم يذكر ذلك المكان الغريب وتلك الإيماءة من غير قصد ولا تعمل ولا استحضار!!
وهكذا فالصور التي رأي فيها والده كثيرة، ولكنه قل أن يذكره في غير صورة واحدة وحركة واحدة ومكان بعينه!
وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، فإذا ساعدته الظروف وذهب إلى ذلك المكان رآه مثل ما تخيله حتى الوضع وأشياء دقيقة لا تلوح في خاطر إنسان، وقد يدهش أحيانا حينما يزور مكانا لأول مرة فيخيل إليه انه قد عرف هذا المكان قبل ألان في حياة أخرى، والكل يظهر أمامه كحلم غريب!.. لكن الالفة أو الإيناس الذي يشعر به نحو الأمكنة ومنعرجاتها يخيل إليه انه قد عرف ذلك وصحبه ردحا من الزمن لا شك في ذلك ولا ريب فيه..
فإذا أمعن في التفكير والتعليل ظن إن هذا الذي نسميه زمنا وهم لا أصل له (Illusion ) أو خرافة تخلقها عقولنا (Fiction ) وان الحقيقة الواحدة الباقية هي المكان وإننا أحياء من أوائل الأزمان إلى أواخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة كلها لها حظ من الوعي يختلف قوة وضعفا باختلاف الأفراد والأشياء. وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة الصماء والأشجار وعي وإحساس من نوع وعينا وإحساسنا، إلا انه قليل في الكم بنسبة حظ تلك الأشياء من الحياة والحرية والحركة! وان مهمتنا نحن أن ننتقل من شكل من أشكال الحياة ونمر على تلك الأدوار في تلك الأثناء التي نسميها الزمن، وهو مصدر ذلك الإحساس، وسبب ذلك العطف الذي نحسه نحو أشكال الحياة المختلفة من غير أن نعرف سببه!
ويرى ((مجدي)) إن بعض أحلامه تتكرر فيرى أمكنة غريبة في بلاد لم يعرفها، فلا يمر عام أو عامان حتى يسافر إلى بلد من البلدان يرى فيه نفس المكان الذي رآه في حلمه من قبل أعوام!..
ولمجدي عادة تقلقه ولا تريحه، لكنه يحس في ممارستها والشوق إليها راحة وطمأنينة. فهو إذا لم يضع ملابسه وكتبه وسريره في أمكنة بعينها وفي أوضاع خاصة لا يرتاح باله قط. فإذا وجد اقل تغيير في وضع كتبه وملابسه غيرها إلى نفس الوضع والمكان لأنه يتفاءل بأمكنة بعينها ويتشاءم من أخرى.
وقد يلج به هذا الإحساس المكاني في ساعات تيقظه إلى ما هو اغرب من ذلك. فإذا مر بالسوق لج به الخاطر أن حياته لا تكمل إذا لم ير كل الدكاكين والشوارع. فإذا فرغ من هذه العملية ود لو أن في مكنته أن يدخل إلى كل حوانيت البقالة ويرى من قرب حوائطها الداخلية وزواياها وترابها، كأنما لكل تلك الأشياء قصة معه، وهو لا يعلم من أمر تلك القصة سوى هذا الإحساس العارض الذي يقلقه في بعض الأحيان ولا يرتاح ضميره إلا حين ينفذه!.
استعرض مجدي كل تلك الذكريات والصور والأسباب في خياله في لحظة واحدة من الزمان وظل يفكر .... يفكر.!
(( ما معنى كل ذلك ! ............ معناه .......... معناه.... نعم معناه إن الإنسان لا يموت أبدا. وان ما يسميه موتا هو في واقع الأمر تغيير لشكل الحياة، وإننا نحن والسماء والأرض والأمكنة كلها أخوان وأولاد أعمام وهذا هو سبب العطف والكلف بالمكان!))
فقالت له نفسه الثانية (( لا هذا غير صحيح. وإلا فلماذا يمتاز بعض الناس بهذه الخصلة والبعض الأخر لا يعرفها. ألا تذكر ما قرأت في كتب السيكولوجي إن بعض الناس بتركيبهم اقدر على تخيل المرئيات، وآخرين على المسموعات، والبعض الأخر على المشمومات، وبعض الطلبة يفهمون أكثر إذا قرؤوا الكلام مكتوبا والبعض الأخر إذا سمعه منطوقا)).
(( نعم هذا صحيح، ولكن ما معنى كل ذلك أيضا؟!))
مرة أخري وهو في وادي التفكير العميق ! (( معناه .... معناه.... ماذا يهمني معناه. هذه هي الحياة وكفى .... وليس من معنى لان نعتقد إن وراءها معنى.........! معناها إنها الحياة ويكفيني أن أصور الحياة كما أراها، وليس من مهمتي أن أفسر كل ظواهرها، فلعل هذا الاضطراب وعدم مقدرتنا على ردها إلى سبب واحد هو من خواصها الأساسية. وليس من ذنبي ولا ذنب الحياة إن الناس ينظرون إلى أشياء وراء الحياة.. لعل هذه هي لعبتها الكبرى علينا، وضحكتها المكبوحة التي لا يفتر ثغرها عنها. ويكفيني أن احكي الحياة بالعرض دون التفسير. فلعل العرض نفسه هو التفسير، ولعل الاعتقاد إن وراء كل ظاهرة ظاهرة أخرى خدعة من خدع المنطق. فلنحك الحياة في تقييد خواطرها وولائدها ولا نكن حمقى فنطلب التفسير والتعليل، إذ الحياة تعرف الخلق الذكي ولا تعرف التفكير والتعليل فلأعرض تجاريب إحساسي بالمكان كما أحسست به ورايته، وليعلل ذلك كل وفق مزاجه وتفكيره إذا كان لا بد له من التعليل والتفكير ... !
هذا هو منطق الحياة الصميم. وهكذا يجب أن يكون منطق الفنان الذي يحكيها ........... وارتاح إلى هذا التفكير كثيرا. وابتدأ يلم أطراف موضوعه تهيؤا للكتابة النهائية. فخط في وسط السطر (( إحساسي بالمكان )) وكتب:
1. كيف إنني اذكر الأشخاص الذين عرفتهم دائما في مكان بعينه ويتكرر ذلك المكان كلما ذكرتهم!
2. كيف إنني في ساعات الدرس والتحصيل تلح في ذاكرتي صور وخرائب وأمكنة رايتها منذ عشرات الأعوام فتزورني من غير أن أناديها. وقد يقفز بي مكان في بلد إلى مكان في بلد أخر لا اعرف ما العلاقة بينهما قط ولا استطيع أن اعرف.
3. كيف أتخيل بعض الأمكنة ومواقعها قبل أن أراها، فلما تسعدني الظروف برؤيتها تكون وفق ما تخيلت في اغلب الأحيان!
4. كيف أحس إن المكان الذي رايته لأول مرة في حياتي قد رايته من قبل في حياة سابقة أخرى!
5. كيف إن خاطري في بعض الأحيان يلح بي لكي اذرع حوائط الدكاكين الداخلية – التي لا اعرفها – وأتمعن في ترابها وزواياها كأني قد تركت روحا هناك!
وبعد أن كتب هذه الأشياء شعر بأنه قد تعب وفتح مذكرته التي يدون فيها خواطره وأسماء الموضوعات التي يود الكتابة عنها فقرأ فيها أسماء هذه الموضوعات:
1. حماسة شاعر عصري
2. هكذا نحن!
3. حرفة الكتابة
4. الأولاد الأشقياء بالليل
5. إحساسي بالمكان.!
فقام فجأة من الكرسي ثم رأي وجهه في المرآة ثم ابتدأ ينظر إلى الأفق من شباك غرفته وأراد أن يفكر غير انه أحس إن رأسه أصبح فراغا مطلقا............ !!!



((انتهت))

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى