عبد الزهرة زكي - اعتراض على المتنبي

بادٍ هواك، صبرتَ أم لم تصبرا = وَبُكاكَ إِن لَم يَجرِ دَمعُكَ أَو جَرى.

هذا بيت شعري معروف لأبي الطيب المتنبي، وكان يمكن لهذا البيت أن يكون مشكلةً تعبيرية محرجة للشاعر، وهي مشكلة كان يمكن أيضاً أن تكون مضاعفة ما دام البيت هو مطلع قصيدة.
لم يُقرأ شعر شاعرٍ قديم بكيدٍ مسبق كما قُرئ شعر المتنبي من قبل نقاد ولغويّين وشعراء عاصروه، فكان الحسد والغيرة دافعاً للكيد، أو جاؤوا بعده، فتعددت أسبابُ كيدِهم بالشاعر. مرات يدعو الافتتان بشعر شاعر ما إلى مناصبته الكراهية من منافسين مفتونين. المنافس بموجب هذا يدرك قيمة الشاعر ويُفتَن بها، لكنها فتنة العاجز الذي لا حيلة له سوى نصب الشراك.
لقد جاء في شرح الواحدي لشعر المتنبي، ونقلا عن ابن فورجة، أنّ أبا الطيب قيل له: خالفتَ في هذا البيت بين سبك المصراعين؛ فوضعت في المصراع الأول إيجاباً بعده نفي ( صبرت، لم تصبرا ) وفي الثاني نفياً بعده إيجاب (لم يجر دمعك، جرى).
يجري المرور على هذا الاعتراض في جميع الشروح التي عنيت بشعر المتنبي، وهي شروح تكاد تكون متماثلة ولا تختلف عن بعض إلا في تفاصيل طفيفة.
يستند الاعتراضُ على سياقٍ بنائي شعري معتاد (يتوجب) على الشاعر مراعاته، وكان هذا بعضٌ من هندسةِ بناءِ البيت الشعري وتوازنه. لم يكن المعترضون بحاجةٍ إلى نباهة كبيرة للوقوف على ما بدا لهم خللا بنائياً من شاعر خبير، فهذا مما يمكن أن يثير انتباه أي عارف بالشاعر.
سرعة بديهة المتنبي، وهو يرد على المعترضين المتسائلين، تؤكد أن ما قام به كان عملا شعرياً مقصوداً، وتوضح أنه كان مدركاً ما فعل ولم يكن هذا (الخلل) ولا إيجادُ تفسيرٍ له من قبل الشاعر نتاجاً لمصادفة أو لحسنِ تدبر وفطنة منه تفادى بفضلها الحرج. معظم شعر المتنبي يؤكد ثقافة الشاعر ليس على مستوى الصنعة الشعرية ومستلزماتها اللغوية حسب وإنما أيضاً في مجالات أخرى منحت شعره هذا العمق الذي يضعه موضعه الاستثنائي في شعرنا القديم.
جميع شروح ديوان المتنبي تتفق على أن جواب أبي الطيب على التساؤلات المعترضة كان مباشراً، وجميعها تأتي بهذا النص الذي رد به الشاعر على المحتجّين: لئن كنت خالفت بينهما من حيث اللفظ فقد وافقت بينهما من حيث المعنى.
بموجب هذا النص لا يعبأ المتنبي بالسياق التعبيري المعتاد لكنه يعود فيتمثله بما هو أعمق من مجرد سياق لغوي مباشر؛ إنه يقرّ بمخالفة السياق لفظاً حيث جاء التراتب في المصراع الأول: إيجاباً معبَّر عنه بـ (صبرت)، ثم نفياً بـ (لم تصبرا)، بينما التراتب في المصراع الثاني يأتي مخالفاً: نفياً (لم يجرِ)، ثم إيجاباً (جرى).
هذان نفي وإيجاب ظاهران لغوياً، بهكذا يحتج المتنبي على المحتجين، فيما البيت الشعري قائمٌ على متوالية تعتمد المعنى الشعري لتأكيد التزام الشاعر بسياق تعبيري شعري أكثر من انشغاله بالظاهر اللفظي. فبعد نص المتنبي السابق الذي يؤكد فيه المخالفة في المصراعين لفظاً والموافقة بينهما معنى، يضيف الشرّاح تفسيراً من المتنبي نفسه لمراده بهذا التباين بين اللفظ والمعنى حيث يقول: وذلك أن من صبرَ لم يجرِ دمعه، ومن لم يصبر جرى دمعُه.
السطح اللغوي هو ما يشغل ناقداً مأزوماً بموقفٍ مسبق ومحكوماً بإرادة (تصيّد) الخطأ وحتى بتوهُّم أيّ خطأ، تعمي الكراهيةُ البصيرةَ فتعطّل عما يجب أن تقوم به؛ مسؤولية الناقد تنصرف بشكل أساس إلى تحري دوافع ما فعل الشاعر في قصيدة، خصوصاً حين يكون أمام شاعر مثل المتنبي كاد يكون حجة في اللغة لولا تأخره وحداثته. لكن عبث النقاد واللغويين والشعراء الحساد يظل يشدهم إلى نقطة ابتداء واحدة في كل أحكامهم المسبقة ضد المتنبي؛ تلك النقطة التي تفترض الخطأ قبل ما عداه.
المتنبي أحد أهم شعراء العربية اعتناءً بالمعنى الشعري، بل أن شعرية المتنبي تكتسب قيمتها من صناعة هذا المعنى وإيلائه جهداً جوهرياً من عمل الشاعر في الشعر. الحكمة في هذا الشعر هي تحصيل حاصل، هي ما تكتشفه الناس،بعد الشاعر، في شعره؛ ما هو مهم بالنسبة لشاعر مثل المتنبي هو خلق المعاني الشعرية، ولعل رسوخ هذه المعاني وعمقها وتلقائية ما تأتي به هو ما يحيلها إلى حكمة على الأفواه.كثيرون من فلاسفة ومفكري عصرنا الحديث أفاضوا كثيراً بقيمة الشعر الرؤيوية مؤكدين أهمية اعتناء الفلسفة بالمعنى الشعري، وهو المعنى الآخر للغة، بالإضافة إلى معناها النثري، وذلك حين تكون في مجال العمل الشعري، في نص شعري.
في (معجز أحمد)،وهو الشرح المنسوب للمعري لديوان المتنبي، وعند شرح هذا البيت الشعري، تختتم حكاية النقاد واختلاف المصراعين بجملة نظرية مهمة تأتي مباشرةً بعد جواب المتنبي على منتقديه، ومن غير الواضح في الكتاب ما إذا كانت الجملة للمتنبي امتداداً لرأيه بصدد اختلاف المعنى عن اللفظ، أو هي للمعري. تقول الجملة: (مراعاة المعنى أولى من مراعاة اللفظ). وواضح أن المقصود بالمعنى هو (المعنى الشعري).
أحسبُ أن هذه الجملة للمعري فعلا وليست تتمة لكلام المتنبي، فهي لم ترد في غير (معجز أحمد)، وهي قد تكون مما نقله عن المعري بعض تلامذته إثر سماعها منه حين كان أبو العلاء يشرح المتنبي وبيته الشعري المذكور. لكنها جملة مهمة في سياق تفسير المتنبي لبيته،وهي جملة مهمة في تأكيد شعرية المعنى، إنها الشعرية التي ركز عليها المتنبي وعرِف بها بعده المعري.


* نشر بالصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى