محمد حسين بن موسى اللواتي - معراج المحسوس

ليس بقول جزاف حينما ميز علم المنطق الإنسان عن الحيوان – عند بحثه في باب الكليات الخمس – بالنطق أو ” الناطقية ” و سماها بكلية ( الفصل )، ليصبح بذلك تعريف الإنسان فيه ( حيوان ناطق ) (1).

فكما أن الحيوان أو ” الحيوانية ” و التي هي كلية ( الجنس ) تجمع الإنسان مع عامة الحيوانات، و تجعله مشتركا معها في ماهية عامة، من حيث إجتماعهما في وجود الحياة لدى كل واحد منهما، و قيام كل واحد منهما بالكثير من نفس الفاعليات الحياتية عامة، فإن كلية ( الفصل ) أو الناطقية تفصله عنها، و تجعله منفصلا عنها بماهية خاصة، من حيث إختلافهما في قيام كل واحد منهما بهذه الفاعليات من وحي و مصدر و مبدأ مغاير للآخر تماما.

فالحيوان يقوم بهذه الفعاليات الحياتية بأسلوب جامد رتيب لا دخالة له فيها أبدا، يتوارثها جيلا بعد جيل من دون وضع أي جيل منه لمساته الخاصة لأي نوع من التغيير والتبديل عليها، وتكون “الغريزة ” التي أودعتها يد الخلقة فيه هي المسؤولة في توجيهه دائما وأبدا.

بينما نرى أن الإنسان يقوم بهذه الفعاليات الحياتية بأسلوب حيوي فني إبداعي مبتكر، يمكن أن تكون لكل جيل من أجياله وضع لمساته الفنية والإبداعية الجديدة عليها، ويكون “العقل ” بقوته التعقلية التي أوجدتها يد الخلقة فيه، هو الذي يجب أن يكون مسؤولا في توجيهه له دائما وأبدا -إلا من إتبع مسلك الشهوة والهوى واقتصر عليه فحسب ليشابه بذلك الحيوان -.

وعليه، ” فالناطقية ” التي تميز الإنسان عن الحيوان، متمثلة في وجود ميزة العقل والتعقل لديه، بحيث تقوم عامة فعاليات حياته عليه، عكس الحيوان الذي يقوده داعي الغريزة فحسب.

كانت تلك مقدمة لفكرة مقالتنا المعنونة ” بمعراج المحسوس “. فلنرى أين نصل، وأين تعرج بنا؟

اللمحة القرآنية

تبدأ المعرفة و العلم و الإدراك و الإطلاع لدى الإنسان عن العالم المحيط به و بموجوداته الكثيرة المختلفة المتنوعة، عبر طريق حواسه الخمس التي أوجدتها يد الخلقة – الله تعالى – فيه، لتنتهي به إلى مرحلة تعد خارجة عن دائرة و نطاق الحس و الحواس و المحسوس المادي تماما.

فإننا نرى أن دعامة القرآن الكريم في تعليماته و توجيهاته للوصول إلى أهداف آياته الشريفة – الهداية و الترشيد – تنحو في توجيه الإنسان نحو الصعود من نطاق الموجودات المحسوسة بالحواس، إلى حيث أفق المعقولات المتعقلة بحاسة العقل و قوة التعقل.

فالآية الكريمة تقول ( وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) النحل – 78 -.

حيث نرى الآية الكريمة تبين أن الإنسان يأتي إلى الدنيا صفر اليدين من العلم أو المعرفة أو أي إدراك قبلي (2)، و يبدأ في حصوله على العلم و المعرفة بأدوات حواسه الخمس- التي تعتبر كنوافذ له في إطلاعه و إدراكه للعالم الخارج عن ذاته – لتنتهي به مسيرة علمه و معرفته إلى مرحلة و أفق أعلى و أرقى من ذلك العلم و تلك المعرفة التي حصل عليها عبر طريق حواسه الخمس.

فالآية الكريمة و بعد إختزالها الحواس الخمس ( بالسمع و البصر ) (3) و حصول العلم عبرهما، تأتي على ذكر نوع آخر من الحواس، تلك الحاسة التي عبرها يصل الإنسان لدرجة و مستوى أعلى و أرقى من العلم، و تسميها ” بالفؤاد ” و هو القلب بلحاظ معين ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) النجم – 11 -. و العقل بلحاظ آخر ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحج – 46 – حيث هي رؤية بقوة العقل و التعقل.

فالعلم الذي يحصل عليه الإنسان عبر طريق حواسه الخمس بالتعامل – والتجربة – و التماس المباشر مع الواقع الخارجي، بما يعج به من موجودات مختلفة و متنوعة، هو علم يكشف له عن ماهية و حقيقة و خواص الأشياء، و يكون محدودا و مقتصرا على ذلك الشيء بعينه الذي باشرته إحدى حواسه – أو بعضا منها – فحسب، و لا يتعدى إلى شيء آخر مشابه له – و إن كان من نفس نوعه و جنسه – كما يكون محدودا و مقتصرا على ذلك الزمان و المكان اللذان باشرة تلك االحاسة لذلك الشيء المعين بعينه فحسب، و لا يتعدى إلى زمان و مكان آخر أبدا.

بينما نرى أن ذلك العلم الذي يحصل عليه عبر طريق حاسة العقل وقوة التعقل، وذلك بعد عملية التجربة والملامسة الحسية مع شيء وأمر معين، هو علم يؤهله أن يعمم هذا العلم وتلك المعلومات المحدودة و الجزئية إلى علم و معلومات مطلقة و كلية، و يحررها من ثم من محدوديتها الزمكانية. وسوف تتوضح لنا حقيقة هذه المسألة فيما يأتي من كلام في السطور الآتية.

تعريف العلم

عرف علم المنطق ” العلـم ” ( بحضور صورة المعلوم لدى العالم ). فعندما يشاهد الإنسان لفرد و شخص واحد معين في الواقع الخارجي مثلا، فإن مفهوم و صورة هذا الشخص تحضر و تنوجد في ذهنه، أو عندما يلمس الإنسان لقطعة من قماش الحرير مثلا، فإن تصور و صورة من ملمس هذا الحرير تنوجد في ذهنه، أو عندما يتذوق لليمون واحد معين مثلا، فإن معنى و صورة من طعم هذا الليمون تنوجد في ذهنه، و هكذا.(4)

ففي المثال الأول يعتبر الشخص أو الفرد ( المعلوم ) – و قد يسمى بالموضوع أيضا – و صورته في الذهن ( العلم ) و الإنسان ( العالم )، و في المثال الثاني، تعتبر قطعة قماش الحرير ( المعلوم ) وصورة ملمسها في الذهن ( العلم ) و الإنسان ( العالم )، و في الثالث يعتبر الليمون ( المعلوم ) و صورة طعمه ( العلم ) و الإنسان ( العالم ).

و بنفس هذه الطريقة التي رأينا بها كيف يحصل الإنسان على العلم بما يشاهده ( بمشاهداته ) و بما يلامسه ( بملامساته )، يحصل على العلم ( بمسموعاته و مشموماته ).

و عليـه، فالعلم الذي يحصل عليه الإنسان عبر طريق حواسه الخمس، هو عبارة عن ( صور مباشرة للأشياء في ذهنه ) و بعبارة أخرى هي ( ماهية ) الأشياء و حقيقتها، و هذا العلم يأتي عبر طريق الإرتباط المباشر بين ذهن الإنسان و الواقع، أي بالأشياء الموجودة في الواقع الخارجي، و بهذه الطريقة يتحقق لهذه الأشياء وجودا آخرا في ذهن الإنسان، و يسمى حينها ( بالوجود الذهني ) الذي هو كما قلنا عبارة عن صور الأشياء المحسوسة بالحواس الخمس في الذهن.

و لكن ما تم بيانه آنفا لا يعدو أن يكون إلا خطوة أولى من خطوات العلم، ودرجة أولى من درجاته، و أفق واحد من آفاقه، أما الدرجة الثانية من درجاته، و أفق آخر من آفاقه، أو لنقل: عمقه و ظرافته و جماله و رقيه يكمن فيما يفعله عقل الإنسان في مراتبه اللاحقة لهذا العلم، الذي قد حصل عليه عبر طريق أدوات حواسه الخمس بعد تعاملها المباشر مع الواقع الخارجي للأشياء، و بعد حضور و وجود صورتلك الأشياء فيه.

المعقولات الأولية

ذلك الأفق و الرقي الثاني الذي يحصل عليه علمنا، بعد مرحلة حصولنا عليه بالتعامل من الواقع الخارحي، يسمى في الفلسفة الإسلامية ” المعقولات الأولية ” (5)

ففي المثال الأول – المار آنفا – فإن حاسة البصرقد حصلت على صورة حسية ( صورة بصرية )، وحاسة اللمس قد حصلت على ( صورة لمسية ) في المثال الثاني ، و حاسة الذائقة قد حصلت على ( صورة ذوقية ) لليمون في المثال الثالث.

فهذه الدرجة من وجود العلم لدى الإنسان، تعد درجة دنيا و أولى و بدائية، حيث يكون العلم فيه في مستوى و دائرة الحس و ( المحسوس ) فحسب، و محدود – كما تم توضيحه – بحدود الزمان و المكان و الشيء المحسوس بعينه، فلا يتعدى وجوده – وجود العلم لدى العالم – في زمكان آخر، و لا يتعدى من الشيء المحسوس بعينه إلى شيء غيره مشابه له تماما. فطالما هنالك تماس و تعامل و علاقة حسية مباشرة مع المعلوم – الشيء – يكون هذا العلم موجودا لدى العالم – الإنسان – و ما أن تنقطع هذه العلاقة المباشرة بالمعلوم، لا يكون لذاك العلم من وجود لدى العالم إطلاقا.

و أما الدرجة الثانية التي نتحدث عنها، فهي بحيث يكون فيه العلم في مستوى و دائرة و أفق العقل و ( المعقول ) و غير محدود لا بزمان ولا بمكان ولا بمعلوم – بشيء – معين، فهو يضل موجودا لدى العالم، حتى و إن إنقطعت العلاقة و التعامل المباشر مع المعلوم – عكس ما هو حاصل في الدرجة الأولى -.

فكيف يحصل ذلك العلم ( المعقول الأولي ) لدى ذهن الإنسان؟

يتم ذلك بحصول الذهن أولا على علم و إدراك حسي بإحدى حواسه الخمس و بتلك الآلية التي مر بيانها، و التي تسمى في الفلسفة الإسلامية بعملية ( الإنتزاع )، و بعد إنتهاء هذه العملية و حصول الذهن على صورة حسية عبرها، يقوم الذهن بعملية أخرى أرقى منها تسمى في الفلسفة الإسلامية ( الإبداع )، حيث يبدع فيها الذهن تصور و مفهوم جديد من تلك الصورة المنتزعة، و يحصل عبرها على ( إدراك و صورة عقلية ) جديدة تماما.

فبينما نرى أن الصورة الحسية تعتبر تصورا ( جزئيا ) بمعنى أنه لا ينطبق إلا على موضوع مشخص واحد معين في الواقع الخارجي، و هو الذي تعاملت معه إحدى حواسنا الخمس، و لا يتعدى إطلاقا إلى موضوع آخر مشابه له و يحمل صفة مماثلة له، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى، يكون مقيدا بالزمكان أيضا، فإننا نرى أن هذه الصورة العقلية أو هذا التصور العقلي ( المعقول الأولي ) يعتبر تصورا ( كليا )، فكما ينطبق على ذلك الموضوع المشخص الواحد المعين الذي تعاملت معه إحدى حواسنا، ينطبق بالإضافة إلى ذلك على كل الموضوعات المشابهة له، و التي تشترك معه بنفس الماهية و الحقيقة المشابهة.

فعندما يشاهد الإنسان شخصا معينا، فلنقل محمد مثلا، ثم أحمد، ثم محمود ….. الخ، يقوم الذهن بإبداع ( أخذ نتيجة جديدة لم تكن موجودة لديه من قبل ) مفهوم و تصور عام و كلي عن هؤلاء الأشخاص الذين شاهدهم بحاسة بصره – بعد إبعاده لكل تلك الإختلافات الجزئية الموجودة بينهم من الطول و اللون و الوزن و العمر و الجنس – و يسميه ( بالإنسان ) حيث أن كل أولئك الأشخاص يشتركون في ماهية و حقيقة واحدة تسمى ( الإنسانية ).

و هكذا يكون الحال بالنسبة لقطعة قماش الحرير الذي لامسته حاسة اللمس ووجدته ناعما، ثم إذا ما لامست قطعة ثانية منه و كان ناعما، و كان حال الثالث كذلك أيضا، فهنا يقوم الذهن بإبداع مفهوم و تصور كلي عن الحرير- بعد إبعاده لكل تلك الإختلافات الحزئية الموجودة بينها من الطول و اللون و الوزن و العمر – و يسميه ( بالنعومة )، حيث أن كل تلك القطع من الأقمشة تشترك في ماهيتها بصفة ( النعومة ).

و كذا يكون الحال بالنسبة لمثال الليمون أيضا، فإنه يبدع تصورا كليا عن الليمون، بعدما يرى أن الكثير منه حامض – و بعد إهماله و إبعاده للإختلافات الجزئية الموجودة بينها – و يسميه ( بالحموضة ) حيث أن حقيقة و ماهية جميعها عبارة عن ( الحموضة ).

و يمكننا إعطاء بعض الأمثلة لهذه ( المعقولات الأولية ) حتى تساعد القارئ الكريم على تصورها و تخيلها بشكل جيد، فمنها على سبيل المثال ( الشجر، الجماد، الحيوان، البياض و السواد، الحرارة و البرودة، و الكم و الكيف، الطول و العرض ) و غيرها الكثير. و ليتصور القارئ الكريم بعد هذا فيما إذا خلا الإنسان و المجتمعات الإنسانية من مثل هذه المعاني و المعقولات، كيف كان حال التفاهم و إيصال المعلومة – بأشكالها المختلفة – بينهم؟

و تجدر الإشارة هنا وهي أنه و إن كانت هذه المعقولات الأولية و بالإجمال هي عبارة عن صور وتصورات عقلية كلية للأشياء، و هي بحيث يمكن أن يسأل عنها بكلمة ( ما هي )؟ أي ما هي حقيقة وجودها، ولكنها بالتأكيد لا تشمل وجود الله جل جلاله (6).

التجربة

وبعد علمنا بعمل الحواس والذي هو إدراكها وإحساسها للجزئي والجزئيات، بحيث تعد اللبنات الأساسية للبناء الفكري والذهني للإنسان، والتي من دونها لا قوام للعلم والتعلم أصلا، وأن عمل العقل هو استنتاجه وتعقله للكلي و الكليات، فأن ما يجب أن نعلمه هنا هو أنه لا يمكن لأي واحد منهما أن يستغني عن الآخر أبدا و إطلاقا. و من هنا قد قيل في الفلسفة الإسلامية ( من فقد حسا فقد فقد علما ).

و من هنا يمكننا الإثبات و بشكل قاطع و مطلق أيضا، الحاجة الجوهرية للعلوم التجريبية و الحسية إلى قواعد و مبادئ و أصول عقلية، و ذلك ( لتعميم ) علمها و معلوماتها و نتائجها و أحكامها الجزئية المحدودة بالزمكان، لتجعل منها نتائج و أحكام متحررة منهما، قابلة للإنطباق على موضوعاتها في كل زمان و مكان. وبعبارة أخرى ترقى بمعلوماتها الحسية الجزئية إلى معلومات عقلية كلية، حتى يتسنى لها التداول بنتائجها فيما بينها وبين غيرها.

و عليه، فإنه يمكننا تقسيم العلم و المعرفة – من جهة معينة – إلى قسمين أو مرحلتين، مرحلة محدودة و مرحلة مطلقة، مرحلة جزئية و أخرى كلية، مرحلة مقيدة بزمان و مكان معين، و أخرى متحررة من هذين القيدين تماما.

ختاماً

فبفضل هذه النظرة المعرفية، قد تمكنا من رؤية كيفية تدرج وترقى علمنا بالمحسوس إلى علم معقول، هذا العلم ” المبتدع ” الجديد، يؤهلنا أن نعيش من خلاله في مجتمعاتنا الإجتماعية بطريقة عقلائية، ونتبادل عبره معلوماتنا ومعارفنا فيما بيننا، ونورثها للأجيال اللاحقة، لما يتمتع هذا العلم به من الصحة والواقعية، لقيامه على مبادئ وأصول وقواعد عقلية ثابتة.

و لعله يمكننا إستخلاص لمحة مما أثبتناه في السطور الآنفة، من خلال هذه الآية الكريمة بكل إيجاز و يسر ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) الطلاق – 12.

فالآية تدعو إلى أن ينظر الإنسان بحواسه للسماء و الأرض و ما بينهما – و التي تعتبر من مخلوقاته تعالى – ليعلم من ثم بالعقل و التعقل أنه تعالى و قدير و عليم، و لكن ليس ذلك فحسب، بل هو قدير مطلق و عليم مطلق.

نحن وبعد علمنا أن المشاهدة الحسية والتجريبية ليست كافية إطلاقا في إصدرا أحكام عامة وكلية مثل أنه تعالى قدير وعليم “ مطلقا ” من دون تدخل للقوة العقلية، و تعميمها العلم المحدود إلى علم مطلق، و بواسطة تلك العملية الإبداعية العقلية، نكون قد تأهلنا الآن للغور في الخطاب القرآني، لإدراك و إستيعاب مدى إعتماده في هدايته و إرشاده على دعامة العقل و التعقل.

و هنالك العشرات من مثل هذه الآيات الشريفة، التي تسير بالإنسان من مرحلة علمه بالمحسوس الجزئي، لتصل به إلى مرحلة يأخذ فيها العلم طابع و صبغة المعقول الكلي، ليحصل بعدها على نتيجة – علم – جديدة تماما.

” فمعراج المحسوس ” هو عبارة عن عروج علمنا بالمحسوسات، إلى أفق المعقولات، هو تبدل علمنا المحدود إلى اللامحدود، هو خروجنا من دائرة و نطاق ( الحيوانية ) إلى مدى و أفق الإنسانية ( الناطق )، هو عبارة عن أخذ النتيجة الكلية المعقولة من المقدمات المحسوسة الجزئية.

” معراج المحسوس ” هو أن نعيش حياة إنسانية عقلية، و أن نتجاوز الحياة الحيوانية الحسية، لنصل بذلك إلى حقيقة التمييز و التفصيل – بل التفضيل – الموجودة بيننا و بين الحيوانات الأخرى المعتمدة على المحسوس فحسب (7).

ولعله تقع على عاتقنا نحن كمسلمين مسؤولية أكبر مقارنة بالأمم الأخرى، من حيث العيش بحياة تعقلية والتعامل فيما بيننا على أساسها، وذلك من أجل ما يزخر به قرآننا الكريم من خطاباتة الموجهة للإنسان بكونه له عقل و يمكنه التعقل.

وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين

التعليقات

(1) حيث يبحث في هذا الباب في نوعية العلاقة و الرابطة الموجودة بين كل واحدة من هذه الكليات الخمس ( النوع و الجنس و الفصل و العرض العام و العرض الخاص ) مع جزئياتها أو أفرادها، و ذلك من أجل وضع تعاريف و حدود لماهيات – حقائق – الموجودات. يمكن مراجعة كتاب ( المنطق ) للشيخ المظفر، و كتيب ( علم المنطق ) للشيخ مرتضى المطهري.

كما تجدر الإشارة هنا إلى أنه لا يفترض أن يشمئز أحد من هذا التعريف الذي يجعل الإنسان ” خليفة الله ” في مصاف الحيوان، و يضلل على مخيلته بسحاب نظرية فرويد، التي لربما أرجعت أصل الإنسان إلى مصاف الحيوان – القرد -. فالتصنيف الموجود في علم المنطق ليس هو إلا لتحديد ماهيات الأعيان و الموجودات الموجودة، و ليس له أي علاقة لا من بعيد أو القريب بتصنيف الموجودات الحية في علم الإحياء، و الذي قد يرجع أصل الإنسان إلى الحيوان.

(2) و إن كان هنالك إستعداد فطري لدى جميع البشر، يشتركون فيه في قابلية إدراكهم للبعض من أصول و مبادئ عقلية أولية للتفكير، بحيث لا يحتاج الإنسان للحصول عليها إلى تعلمها و إستدلال عليها، بل هي تحتاج للقليل من سقل القوة العقلية للحصول عليها. بمعنى أنه عندما يواجه الإنسان لبعض من المسائل و الأمور فأن بنائه الفكري و الذهني قد جعل بحيث أن مجرد التنبه لها و ” تصورها ” بشكل جيد، يصبح إدراكها و ” التصديق ” بها أمرا بديهيا، و يمكن أخذ و إستخلاص نتائج منها، من دون حاجة إلى تعلمها و الإستدلال عليها، و يمكنه من ثم أن يستدل بها على غيرها من الأمور المجهولة لديه – و ليس العكس – و تصبح من ثم معيارا لمعارفة الصحيحة الحقيقي و االواقعية.

فهي تعد من هذه الجهة فطرية، أي بمعنى يوجد لدى الإنسان قابلية و إستعدادا لإدراكها عند الإطلاع عليها، لا بمعنى أنها كانت موجودة لديه عند ولادته و ظهرت لديه بعد عملية التنبه لها و التركيز عليها و التصور لها. و مثالها ( مسألة العلية القائلة بأن كل معلول يحتاج للعلة، و مسألة الكل أكبر من الجزء، و مسألة أصل التناقض القائل بعدم إمكانية إجتماع النقيضين أو إرتفاعهما معا ) و غيرها من المسائل.

يمكن مراجعة كتاب ( الفطرة ) للشيخ مرتضى المطهري، فصل الإنسان و الفطرة، قسم الإنسان و المعرفة، و غيره من مؤلفاته، و كتاب ( علم المنطق ) للشيخ المظفر.

(3) و لعل كان سبب ذلك هو لما لهاتين الحاستين من فائدة و رقي أكثر من غيرهما، من حيث حصول العلم بهما للإشياء و الموجودات من مسافة بعيدة، لا يشاركهما في ذلك بقية الحواس ( الشم و الذوق و اللمس )!

(4) و هذا النوع من العلم الذي يحصل عليه الإنسان عبر طريق تعامل و تماس ( حواسه الخمس مع الواقع الخارجي مباشرة و من دون أي وسيط في البين ) يسمى في الفلسفة الإسلامية ( بالعلم الحضوري ) و يقابله ( العلم الحصولي ) و الذي يحصل عليه عبر طريق غير مباشر و وجود وسيط في البين. يمكن مراجعة هذا الموضوع في كتب الفلسفة الإسلامية، و كتاب ( أسس الفلسفة و المذهب الواقعي ) للشيخ مرتضى المطهري.

(5) تعد أولى تجليات لتعريف الإنسان في علم المنطق ( بالحيوان الناطق )! فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي يتحلا بعملية ” النطق ” حيث يكمن هنا ذلك التمايز الحقيقي له بين جميع موجودات العالم، فالناطقية ( تفصله ) و تميزه عن بقية الموجودات و بشكل صارخ، بما تحمله من معنى العقل و التعقل الموجود لديه. فالنطق االمعتمد و المتجلي بالعقل و التعقل، هو الممزات الخاصة لماهية – حقيقة – الإنسان عندما يراد فصله عن كلية ( الجنس ) في علم المنطق.

و هنالك تجلٍ ثانٍ يسمى ( المعقولات الثانية )، و التي أتمنى أن أوفق في الكتابة عنها في المقالة القادمة إن شاء الله تعالى.

(6) و هي عبارة عن كل تلك المعقولات التي تتشكل منها ( المقولات الأرسطية ) العشرة، والتي هي ( الجوهر، الكم، الكيف، الأين، الوضع، المتى، الإضافة، الجده، أن ينفعل، أن لا ينفعل ). أما لماذا لا تشمل هذه المعقولات لوجود و ذات الله تعالى؟ فذلك لكون ذاته و وجوده تعالى مطلق، و كل ماعداه فوجوده مقيد و محدود – و يمكن الرجوع للكتب الفلسفسة الإسلامية للوقوف على هذه المسألة العميقة الشيقة.

(7) و تجدر الإشارة إلى أنه يوجد في الفلسفة الإسلامية بحث شيق عن مسألة المعرفة، بحيث يعد من المساهمات الراقية للفلسفة الإسلامية في هذه المسألة، لم يسبق إلى نتيجته فلسفة أخرى قبلها أبدا، حيث يبحث فيه عن ماهية المعرفة و أنواعها و كيفية الحصول عليها و مراحلها و معيارها … ألخ. و ما ذكرناه هنا، لا يعدو أن يكون سرابا لذلك الأصل – الحقيقة – الموجود هنالك ليس إلا. يمكن مراجعة كتاب ( أسس الفلسفة و المذهب الواقعي ) للعلامة محمد حسين الطباطبائي، مع تعليقات للشيخ مرتضى المطهري.


* منقول عن موقع شرق/غرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى