نجيب محفوظ - الحب والسحر

انتهى من فرش شقته - أو حجرته إن أردت الدقة - لأنها كانت مكونة من حجرة متوسطة الحجم وردهة صغيرة، وكان الأثاث في غاية البساطة كذلك لا يعدو الفراش الخشبي الصغير وخواناً يستعمل مائدة للطعام ومكتباً للمذاكرة وكرسياً وصندوقاً لحفظ الملابس والكتب ومسطرة مدرسة الصنائع المعروفة بطولها. وهذه الشقة هي الطابق الأول لمنزل صغير مكون من طابقين متماثلين بحارة دعبس بالوايلية. هداه إليه أهل الخير، فوجده صالحاً لتلميذ مثله بمدرسة الصنائع ومن أسرة ريفية متوسطة الحال بقليوب، واكترى الشقة بخمسين قرشاً بعد أن فرضت صاحبة البيت تخفيض مليم من أجرتها. . .

واستقبل الحياة في البيت الجديد بنفس راضية، وعلم أن صاحبته تدعى (أم فردوس)، وأنها أرملة أسطى عربجي كارو ولكنها تعيش الآن من أجرة شقته وما تربحه من بيع مواد السمنة: كالمفتقة والمغات وبعض التركيبات الأخرى؛ ثم هدايا الأسر التي تعمل بها: (كبلانة) أو (خاطبة). وكانت امرأة قصيرة بدينة قوية البنية، تصبغ شعرها بالحناء، وتملأ ساعديها بالأساور الذهبية؛ وكانت قسماتها مقبولة، ولكن صوتها خشن جهوري، السب أهون ما يقذف به مما جعلها مرهوبة الجانب في الحي كله. وتساءل منذ اليوم الأول لإقامته في البيت: ترى هل لأم فردوس بنت تدعى فردوس حقاً؟. . . وأين هي؟ هل تقيم معها في البيت أم أنها في بيت زوجها؟. . . وربما كان الباعث على السؤال حب الاستطلاع ليس إلا، وعلى أية حال جاءه الجواب سريعاً، ففي صباح أحد الأيام، وكان يهم بمغادرة شقته إلى المدرسة سمع وقع أقدام خفيفة فصوب بصره إلى أعلى السلم فرأى فتاة في السادسة عشرة مرتدية مريلة المدرسة الزرقاء تهبط في تؤدة حاملة حقيبتها، فانتظر حيث هو موسعاً لها الطريق، وقد التقى بصره ببصرها وهي تعاينه بعين يعلوها الارتباك، ولما حاذته خال أنه سمعها تحييه خافت قائلة (صباح الخير) فقال لها بلهجته الريفية القحة (صباح الخير). . . ثم تبعها على مهل حتى خلصا إلى الطريق، ولم تلتفت الفتاة إلى الوراء، ووضعت حقيبتها على خاصرتها وأحاطتها بذراعها ومضت. . . ترى هل تكون الفتاة فردوس بنت أم فردوس؟. . . رجح ذلك مستدلاً بتحيتها له، وعلى أية حال كانت الفتاة خمرية اللون، سوداء العينين والشعر، ناهدة الثديين. . . فبدت لعينيه الريفيتين آية من الحسن، وكان يتمثل فردوس من قبل كأمها: غليظة، تسعى في الأسواق ملتفة بالملاءة اللف، فإذا به يجدها تلميذة لطيفة تسر الناظرين. . . فجرت ابتسامة على شفتيه الغليظتين، وولول قائلاً بلهجته الريفية: (وي وي يا بوي). . . ولذ له أن يعيش في بيت واحد مع هذه الفتاة الجميلة، ولكنه كان قليلاً ما يسد برؤيتها بخلاف أمها التي كانت تقوم بتنظيف شقته، وتجالسه في أوقات الفراغ، وتحدثه - بمناسبة وغير مناسبة - عن شئون مختلفة وعن أناس كثيرين من الجيران، وقد ساق الحديث يوماً إلى ناحيته فسألته عن أسرته ومستقبله وصارحها الشاب بأنه من أسرة سيدهم!. . . وأنه يملك فدانين وعدداً من القراريط وجاموسة، وانه التحق بمدرسة الصنايع بعد أن قضى ثلاث سنوات بالمدرسة الثانوية وقال لها في شيء من المباهاة أنه سيكون يوماً ما مهندساً وأصغت المرأة إليه باهتمام وانتباه وكانت تتمثل الفدانين والجاموسة والمهندس الشاب وتختلس منه نظرات عميقة تدل على الحذر والدهاء. . . ثم دعت له دعاء طيباً بصوتها الأجش. . .

وسارت الحياة على وتيرة واحدة ولم يكن يغير من رتابتها إلا سفره كل أول خميس من الشهر إلى قليوب حيث يبيت ليلته ويعود مساء الجمعة حاملاً معه بيضاً وفطيراً وزبدة يهدى إلى أم فردوس منها نصيباً معلوماً. . .

وفي من الأيام وكانت المرأة تجالسه خاطبته قائلة:

- والنبي ياسي حماد تفهم فردوس الحساب لأنها ضعيفة فيه وابتهج الشاب بالدعوة أيما ابتهاج. ولم يكن الأمر سهلاً كما يبدو لأنه كان نفسه ضعيفاً في الحساب وكان بينه وبينه ثأر قديم منذ اليوم الذي اضطره فيه إلى اليأس من الاستمرار في المدرسة الثانوية وإجباره على اختيار مدرسة الصنائع بدل المدرسة الحربية التي كان على استعداد لأن يجود في سبيل الالتحاق بها ببيع الفدانين والجاموسة. ولكنه قبل الدعوة دون تردد وصعد إلى شقة أم فردوس، ووجد الفتاة وكأنها في انتظاره وكانت ترتدي فستاناً أنيقاً، وترسل شعرها الأسود في ضفيرة طويلة جاوزت ردفيها. فقامت لتحيته وجلسا تفصل بينهما مائدة وضعت عليها كراسة الحساب، وقالت لها أمها: إن (حماد أفندي قبل أن يدرس لها الحساب) وجلست معهما برهة ثم خرجت إلى الردهة لأعمالها التي لا تنتهي، وكان الدرس شاقاً على المعلم والتلميذة على السواء، ولكنه لم يرض بالهزيمة وإفلات الفرصة السعيدة من بين يديه فشرح لها الدرس على قدر فهمه. وكان إذا غلبه الارتباك نظر إليها وسألها قائلاً: (فاهمة؟) فتهو رأسها بالإيجاب سواء أكانت فاهمة أم غير فاهمة. ووجد حامد في هذه الدروس فرصة جميلة للاجتماع بفردوس، وكان يجذبه إليها ما يجذب فتى مثله في فورةالشباب إلى فتاة في نضوجها وحسنها انطوى عليهما بيت واحد، وربما كانا معاً يكابدان هذا الشعور الطبيعي ولكنهما لم يتقدما قي علاقتهما عن أول يوم التقيا فيه لأن الشاب كان ريفياً (خاماً) وكان يقنع بأن يقول لها صباح الخير أو مساء الخير وهو يحدجها بنظرة ذات معنى كأنها تتوسل إليها أن تفهم، أو أن يضغط على يدها إذا مدتها إليه بالسلام. وكان كثير الحذر في التعبير عن شعوره خشية تتنبه إليهما أم فردوس لأنه كان يتوهم أنها لم تتنبه إليهما بعد. . .

واطردت الأيام وهو جد سعيد بحياته، حتى كان صباح جمعة، وكان من عادته أن يمضي صباح الجمعة خارج البيت إلى ما بعد الصلاة؛ وكان يقطع حارة دسوقي في طريقه إلى شارع الملك فألتقى بأم بخاطرها الغسالة وهي ملتفة في ملاءتها القذرة كغرارة الفحم، وكانت تغسل له ثيابه ثم انقطعت على أثر شجار قام بينها وبين أم فردوس تبودل فيه القذف والسب وشد الشعر والبصق وحركات أخرى غاية في الغرابة، فأقبلت المرأة عليه وحيته وقالت:

- ياسي حماد أنا أرغب في مقابلتك منذ زمن طويل فالحمد لله الذي أراد بك كل خير. . . تعال أحدثك حديثاً يهمك. . .

وانتبذت به مكاناً خالياً من الحارة ثم استدركت تقول:

- أنت شاب طيب القلب لا تدري من أمور الدنيا شيئاً فاحذر هذه المرأة. . . أم فردوس داهية شريرة تجد منذ زمن طويل في الإيقاع بك. . .

فبوغت الشاب بهذا القول وأخذه العجب وسألها في ارتباك ظاهر: (أي إيقاع بي تعنين!)

فقالت المرأة وهي تخافت من صوتها:

- ابنتها؟. . . ألا تفهم؟. . . ابنة العربجي. . . فردوس التي تسير في الطريق عارضة ردفيها وساقيها لكل من رأى، فلا هي من مقامك ولا مقام أسرتك وأنت الحسيب النسيب مالك الفدادين. . . فاحذر ثم أحذر، إنها تحتال عليك مستعينة بالشياطين. .

وسكتت المرأة ريثما تستريح وجعلت تلحظ الشاب وتقرأ الدهشة المرتسمة على وجهها بارتياح ثم أدنت رأسها من رأسه غير مشفقة عليه من رائحة رأسها ونكهة فمها واستطردت تقول:

- لقد أخذت منديلك خفية وأعطته للشيخة زهية وأعطت قميصك للشيخ لبيب وأنت لا تدري شيئاً والسحر في فعله، والبخور في عمله، وأرواح الشياطين تطوف ليل نهار.

فتبدى الخوف على وجه الشاب وعبس وجهه. . . ولم يكن خالي الذهن من هذه الأمور، ولا كان ممن يستهينون بها فساوره القلق وتساءل متجاهلاً عواطفه مظهراً عدم اكتراث.

- وما عسى أن يعني هذا؟

فضربت المرأة صدرها بيدها وقالت:

- هذا يعني كل شيء يا مسكين؛ هذا الذي أوقع المرحوم الأسطى شلبي من قبل. واعلم أنها دخلت في العميق، وحصلت على حجاب رهيب تحت حشيّة سريرك، وحفظت ابنتها كلاماً سحرياً مخيفاً تتله صباح كل جمعة على فراشك وهي تثابر على ذلك أسبوعاً بعد أسبوع، فأفسد عليها عملها الشيطاني، وانج بنفسك. . . والآن وقد حذرتك، فإني تاركتك لحكمتك والله يلهمك الصواب. . .

وسارت المرأة في سبيلها، ولبث هو في مكانه لا يريم عنه متفكراً قلقاً يعجب لتلك الأمور الجليلة التي تدور من حوله وهو عنها غافل. . . رباه! أسحر وبخور وشياطين؟!. . . أكل هذا ليتزوج من فردوس؟ وكان بغير شك قلقاً خائفاً ولكنه أحس لذة خفية وفخاراً، ثم تساءل: هل يستمر في طريقه أم يعود إلى البيت ليرى بنفسه ما يحدث في غرفته؟ وولى وجهه شطر حارة دعبس دون تردد فبلغ البيت بعد زمن قصير وكانت النوافذ مغلقة والباب موارباً كعادته فدخل بهدوء لا يحدث صوتاً ورأى باب شقته مغلقاً، ترى هل هو مغلق بالمفتاح؟ وهل فردوس حقاً بالداخل؟ ثم صعد بصره إلى أعلى السلم وأدار الأكرة بخفة ودفع الباب في حذر فانفتح، فخفق قلبه وقال لنفسه إن أم فردوس لا تترك الباب هكذا إذا لم يكن أحد بالداخل، ثم دخل ورد الباب بهدوء، وهنا اقتحمت أنفه رائحة بخور جميلة مخدرة فانتفض رعباً وتمتم بصوت غير مسموع قائلاً: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم) ولكن شغفه تغلب على خوفه فتقدم بخفة كأنه يسير على حبل في ملعب ووضع أذنه على باب الحجرة فلم يسمع حركة ولا نامة فانحنى حتى استطاع أن ينظر إلى الداخل من خصاص الباب فرأى دخان البخور تتصاعد سحائبه في هدوء إلى سماء الغرفة، واستطاع أن يرى سريره بوضوح. . . رباه. . لم يكن خالياً. . . كانت فردوس تتربع عليه في ثوب أبيض ناصع البياض متلفعة بخمار أبيض كذلك كأنها على وشك صلاة، ورآها تضع على كفها رسالة مطوية تستغرق في النظر وتحرك شفتيها حركة منظمة كأنها تتلو آية؛ ولبث ينظر إليها في سكون ودهشة، وكان يجد قلقاً غريباً، ولكنه لم يشعر بغضب أو سخط بل جعل يراقبها أخيراً في شغف ثم رآها تثني حافة المرتبة وتضع ما بين يديها تحتها، ثم رآها تتمدد على ظهرها في هدوء وهي تظن أنها بمأمن من الرقباء وتسحب الوسادة وتضعها عليها بالطول، ثم احتضنتها بيديها وكأنما راحت في سبات عميق، وراقبها بعينين دهشتين وراح يتساءل أكل هذا من أجلي أنا؟!. . . أكل هذا لكي تتزوج مني أنا. . . واطمأن إلى المنظر الغريب ووجد في مراقبته لذة لا تعادلها لذة؛ وأحس تخديراً ود لو لم يصح منه أبداً. وتدفق الحنان من حناياه فتمنّى لو يحتويها في تلك اللحظة بين يديه. . .

ثم رآها تزيح الوسادة عنها وتعيدها إلى مكانها وتعتدل جالسة ثم تهبط إلى الأرض وتميل المبخرة لترفعها فتوقع أن تمضي بعد ذلك إلى الباب وانتبه إلى حاله، فسارع إلى الباب وفتحه وأغلقه بقوة متعمداً أن يحدث صوتاً مسموعاً واتجه نحو غرفته وهو يصفر صفيراً عالياً فانفتح باب غرفته وبرزت الفتاة وقد علا وجهها شحوب وارتباك وقالت باضطراب:

- عدت مبكراً. . . أنا كنت أنظم حجرتك وأبخر الشقة واتجهت نحو الباب مهرولة فاعترض سبيلها، وكانت عواطفه المضطربة تشجعه على الاستهانة فقال برقة:

- شكراً، لقد عدت لأني أحسست بتعب، وإني لآسف على إزعاجي لك. . . استريحي، ولكنها قالت بسرعة ولم تكن أفاقت بعد من ارتكابها.

- دعني أخرج وإلا استبطأنني أمي

فقال لها برجاء وهو يشير إلى الكرسي: - استريحي قليلاً. . . أرجو أن تمكثي معي هنيهة فإن لدي ما أقوله لك. . .

وكانت عواطفه ثائرة فدفعها برقة نحو الكرسي حتى جلست كارهة، ثم قال لها بصوت متهدج:

- فردوس! هذه فرصة سعيدة لأنفرد بك وأقول لك. . . وأعياه القول فسكت؛ ولكنه كان يشعر بأنه ينبغي أن يقول شيئاً وإلا لم يجد عذراً ينتحله لإبقائها. فقال بصوته المضطرب:

- أنت جميلة في الثوب الأبيض. . . أعني أنك فيه أجمل منك في أي ثوب آخر. . . الواقع أنك جميلة دائماً وفي أي ثوب كان. . .

فاشتد الارتباك بالفتاة وتضرج وجهها بالاحمرار فازدادت فتنة وازداد افتناناً. فلم يملك أن قال لها:

- فردوس. . . أنا. . . أنا أحبك. . . وقد أبقيتك هنا لأقول لك إني. . . أريد أن أتزوج منك

لم تستطع الفتاة البقاء فقامت واقفة واتجهت نحو الباب ولكنه اعترض سبيلها مرة أخرى وقال لها:

- هل أنت غاضبة؟. . . صدقيني يا فردوس سأتزوج منك ونظر إلى وجهها بعين فاحصة فلم ير غضباً ولكنه أحس ارتباكها وتعثرها بالخجل فأوسع لها، ولما حاذته هوى بفمه فقبل خدها، ولم تقل له شيئاً، وسارت حتى غيبها الباب، ودخل الشاب إلى حجرته، وجلس على حافة سريره كعادته؛ ثم دس يده تحت الحشية حتى عثرت بالحجاب، فوضعه على كفه يديم إليه النظر في سكون وتهيب، ولم يجسر على فك رباطه فأعاده إلى مكانه، وتفكر ملياً ثم قال وهو يبتسم: (من يستطيع أن يقول بعد اليوم أن السحر خرافة؟!)

أما فردوس فصعدت السلم مسرعة تقفز كل درجتين معاً، ولم تكن أمها في الشقة، فجرت إلى الغرفة يكاد يصرعها الفرح وجعلت تروح وتجيء وهي تقول باضطراب: (يا بركتك يا شيخة زهية. . . يا بركتك يا شيخة زهية. . .!)

نجيب محفوظ



مجلة الرسالة - العدد 393
بتاريخ: 13 - 01 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى