بشير مفتي - القصة القصيرة في الجزائر.. أسئلة الحضور والغياب

تبدو القصة القصيرة أشبه بالفن اليتيم الذي يشذ عن القاعدة ويخرج عن المألوف، حاضرة/غائبة، يكتبها البعض بحب مجنون، والبعض يمتطيها ظنا منه أنها الفن السهل، وآخرون يمارسونها لكي ينقبلوا عليها بسرعة، أو لتكون مرحلة من مراحل التكوين،
لكل خياراته طبعاً لكن يحق لنا التساؤل عن كتابة القصة القصيرة في بلادنا، لماذا يكتبها الكتاب؟ وما هو أفقها في ظل تراجع المقروئية لصالح الرواية دائما؟ اقتربنا من مجموعة يكتبون القصة القصيرة البعض شارك، والبعض في عطلة، والبعض الآخر حجته معه لا نعرفها، ولكن المهم بعض الشذرات، التأملات، الشهادات كافية لفتح النافذة وترك أشعة الضوء تنفذ·
القصّة القصيرة··· لِحياةٍ أطوَل
فريد هدى/قاص
ما هي القصّة القصيرة؟ لما نكتب؟ و ما هو مستقبل هذا النوع الأدبيّ في الجزائر؟ هذه مُجمل الأسئلة التي عرضها عليّ الأخ الكريم / بشير مفتي/ للمساهمة في ملف في الموضوع·
و أظنّ أنّ كل قاصٍ يجد من المشقّة و العُسر في تعريف ماهيةِ القصّة أو دواعي الكتابة عموما بقدر المشقة و العسر في خطّ بدايات نصٍ جديد· فالكاتب المبدع يكتب ولا يتساءل أو يُسأل·
فإنْ كان و لابد فأقول: القصّة القصيرة كما عرّفها /كالدويل/ هي ( حكاية خيالية لها معنى، ممتعة بحيث تجذب انتباه القارئ، و عميقة بحيث تعبّر عن الطبيعة البشريّة)· و القصّة - على خلاف الرواية - ترصد اللّحظة المكثّفة، تجمع الأطياف المحيطة في بؤرة ضوء واحدة، تُوجز فتَفِي· و هي قبل كلّ هذا و ذاك، بناءٌ مُحكم أساسه حبكةٌ متقنة تشدّ إليها انتباه القارئ الفطِن و تشوّقه لأنْ يتمّ الحكاية إلى نهايتها· لذلك كانت أولى الكلمات و أولى الجُمل مفتاح نجاح العمل القصصيّ·
و أفضل القصص من تنجح في كسب وُدّ القارئ العادي و القارئ المختص· قصّة ذات قراءتيْن أو وَجهيْن: وجهٌ بسيط، سلِس مُمتع، و وجهٌ معقّد عصيّ ممْتنع·
لكن بعيدا عن التعريف الأكاديمي الجاف، أقول أنّ كتابة القصّة حياة· نحن نكتب لنحيا مع الكتابة و من الكتابة· و لا يتأتى هذا إلاّ إذا كان ما نكتبه صادقا، خبيرا في تشريح نفسيّات الإنسان المركّبة، جريئا في التقاط تفاصيل الحياة اليوميّة مُرّها و حُلوها، مبْصرا للتغيّرات الاجتماعية الطارئة· فالقصّة إذن تُطيل عُمْر صاحبها لأنّها تمكّنه - بكثير من الجهد - من أنْ يحيى بقدر عدد شخصياته و أبطاله، فيحزن و يفرح، يبكي و يضحك، يحقد و يحب، يخون و يعشق، يقطع الأمل في الحاضر و يطمح إلى غدٍ أفضل· القصّة تمكّن صاحبها في الأخير من أنْ يموت و يحيى ألف ألف مرّة·
أما الرّواية - الرّواية الناجحة - فهي الخلود بعينِه··· و هذا حديثٌ آخر·
ذالكم قليلٌ ممّا كان من أمر القصّة القصيرة و ماهيتها· فأمّا عن مستقبلها في الجزائر، فأجزم أنّه مرهون بكسب ثقة القارئ لا الناقد· أُكتُبْ الجيّد من النصوص يتلقّفه نبْض الشارع، ثم يتبناه النقد مرغما· ذلك هو الرّهان، و ذاك ما أسعى إليه· و لا أزيد·
لن يزول نبض القصة القصيرة
عبد الحميد عمران/قاص
القصة القصيرة هي هذا الوهج الإبداعي الراقي الذي يسمو بالفكرة إلى عالم جميل ،، روحاني ،، مستفز للذات في اغلب الأحيان ،، القصة القصيرة هي هذا الرصد للوجع ،، للألم وللأفراح المؤجلة ،، هي أيضا هذا الألق نحو عالم مليء بالورد والمحبة والإنسانية
أكتب القصة القصيرة لأنها تعبر عن خلجات الذات، وعن وهج الحلم الذي يتأجل كثيرا وقد يأتي أو لا يأتي مطلقا،، أكتبها لأنها متنفس إبداعي جميل
لا يمكن -برأيي- مطلقا أن يزول نبض القصة القصيرة رغم هجرة الكثير من كتابها إلى عوالم الرواية ··ولكنهم بالنهاية يعودون إليها - صاغرين- لأنها باعتقادي الآهة المخلصة من تعب الحياة ··إذ قد نقول كلاما كثيرا و لكننا لا نستطيع أن نبلغ فكرة واحدا و قد نقول جملة واحدة تعبر عن الحياة جميعها· ثم أن لحظة الكتابة هي المحددة للجنس الإبداعي بشكل عام·
للقصة القصيرة قراءها ··و قراؤها متميزون جدا وبسطاء جدا أيضا ·· و بالنسبة لي أفضل قراءة قصة قصيرة على قراءة رواية قد تأخذ مني وقتا طويلا دون أن تترك في النفس جمالية محددة أو فكرة واضحة ··
أما عموما فان هناك عزوف عام عن قراءة كل ما هو مكتوب ·· أقصد إشكالية المقروئبة بشكل عام وليست مقروئية هذا العمل الإبداعي أو ذاك·
كتابة القصة القصيرة سلاحي ضد اليأس
قادري عبد الخالق / مغنية
أعتبرها ملاذي وسلاحي الأوحد في محاربة الوحدة واليأس والموت وتداعيات الإحباط · هل تفهمني؟ إنني أسرج القلم، عوفوا، لوحة المفاتيح، وأمتطي الكلمة لأقتل الوقت وأفر بجلدي إلى الأمام!
لم أبدأ الكتابة القصصية إلا حديثا، برغم أنني على مشارف الخمسين، تخصصي الخرسانة المسلحة، ومع ذلك فأنا أنتمي إلى كتاب جيل الألفية الثالثة· لم أكتب قصة واحدة بالقلم والورقة قط، بدأت بالكتابة على الحاسوب ونشرت أول ما نشرت إليكترونيا، وبالتحديد في موقع القصة العربية سنة ألفين واثنين، ثم قدمت قصصي للمنابر الورقية المحلية، وكان أول نشر على صفحات جريدة المجاهد الأسبوعي، وجريدة اليوم، وصوت الأحرار، مع محاولات قليلة للنشر في المنابر العربية، كالموقف الأدبي السورية وجريدة أخبار الأدب المصرية، ليستقر بي المقام أخيرا بجريدة الجزائر نيوز والتي نتمنى لها النجاح· تخصيص أسبوعيا، أثنتي عشرة صفحة، ليس بالأمر الهين، جهد جبار ومغامرة محفوفة بالحسد، ومجازفة لم تقدم عليها حتى أعتا الجرائد الوطنية، في غياب مجلة أدبية تعتني بالكتابة والفكر والإبداع وتقدم الأصوات الجديدة·
يقول خوان رولفو، واحد من أعلام الواقعية السحرية وشيطان من شياطين القصة القصيرة، ليس هناك سوى ثلاثة مواضيع أساسية: /الموت، الألم والحب /، وهذا رأي جامع مانع· وأرى أن القصة القصيرة مشرعة على كل المواضيع والأحداث، ما يهم هو طريقة المعالجة والتقنية، أنا تقصف بي الكلمة الجميلة والعبارة المحكمة تأخذ بلبي· أهذه هي المتعة؟
قارئ نهم وذواقة لكل الفنون والآداب، وكأي كاتب يحترم نفسه، بدأت بقرض الشعر، وذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة خلت، لكن الكلمات كانت تأبى إلا أن تجرفني إلى فضاءات أرحب، وتصر على طَرق وولوج عوالم أعمق، ووجدتني رويدا رويدا أشعل النار في محاولاتي الشعرية، وأنزلق منغمسا كليا في بحور القص القصير·
قراءاتي الحالية كلها اليكترونية، الكتاب الورقي لم يعد في متناولي، وليس لي إلا ما أغنمه من الكتب المتاحة والمقرصنة على الشبكة العنكبوتية· قبل أن أفقد ولعي بالكتاب الورقي، كنت أتسوق أسبوعيا إلى معرض الكتاب اليومي بطحطاحة المدينة الجديدة بوهران، باكرا قبل استيقاظ اللصوص وضاربي الجيب، أساعد الباعة على إفراغ أكياسهم، الكتب بالشكارة، وأختار كل ما لذ وطاب من روايات وقصص قصيرة وكتب نقدية باللغتين وبسعر، أنت وشطارتك، دنانير معدودة، كلها ترقد اليوم في صناديق من كرتون، تنخرها الأرضة بقبو الدار·· قاتل الله ضيق البيوت·
في حوزتي أكثر من أربعين نصا، نشرت كلها على صفحات اليوميات الوطنية والمنابر الالكترونية، أعتبر نفسي في طور التمتمة أو التأتأة القصصية ولا فخر· لم أنشر ولا أفكر في النشر الورقي بتاتا، وكلما حاولت التفكير في جمع نصوصي ونشرها ورقيا قلت في نفسي: وما الجدوى؟
مغنية2009
القصة معجزة الإنسان وخبزي اليومي
عبد القادر برغوث
بدايتي مع كتابة القصة بداية قديمة جداً هي بالضبط عندما كنت جنينا في بطن أمي، قالت لي أمي:
لما كنت أحس بسكونك وعدم حركتك في احشائي أمرر راحتي على بطني ثم أحكي لك حكاية فتستجيب وأشعر بك تتحرك وتدب الحياة فيك·
ولما ولدت - وكان هذا أكبر خطأ أرتكبته في حق نفسي- نشأت بين أمي وجدتي وخالاتي كلهن حكاءات وراويات للشعر ولهذا كانت الحكايات والقصص حليبي الباكر وخبزي اليومي المنكه دوماً بنكه مختلفة فجدتي تطعمه بالحكمة وأمي بالواقع وخالاتي بالحب والمرح·
وبعد ذلك كنت أحب كل يوم الجمعة الذهاب إلى سوق الأسبوعي يوم فأقضي سحابة النهار بين المداحين والقوالين منبهراً بعوالمهم
الخيالية الخرافية حتى صار أولاد الحي ينادونني بصميدة القوال وبما أنني أعاني من الخجل المرضي فكان ذلك يعني أنني سأنقطع عن الحياة لمدة أسابيع لا أخرج فيها للحي ·
وفي بداية سنين المراهقة اكتشفت أن ما كنت أخجل منه هو أدب رفيع وأن من يشتغلون به ليسوا سيئين بل هم من نخبة المجتمع وهكذا لم أخجل بعد ذلك أبداً من كوني أحب سماع القصص وروايتها حتى تورطت تماماً في كتابتها والبحث فيها وتتبع أخبارها وفتوحاتها أتذوقها بحلمات لساني وخياشيمي أحس بها عبر أناملي ووجهي أذوب فيها لحد التماهي والتطرف ·
أما عن علاقتي بكتابة القصة فهي والحمد لله سيئة تماماً فكلما توغلت فيها أكثر ازدادت معرفتي بجهلي وبتواضع امكنياتي، أشعر بالوجع من وهني ومن كسلي وعدم الاجتهاد بالشكل الذي يوازي طموحي، لأن كتابة القصة بالنسبة لي ليست ترفاً ولا لهواً وإنما هي قضيتي وقدري
وجدواي الوجودي هي الهواء الذي أتنفسه أشربها مع قهوة الصباح وألبسها بين جلدي وثيابي وأذهب بها إلى عملي فتنتشر كعطر جميل في كل مكان وفي المساء تتغلغل عبر مساماتي لتسري بجسمي عبر دمي الملوث بها تماماً، وفي الليل لما آوي إلى فراشي أتدثر بها لتحميني شر البرد والحر ·
مع القصة لا أشعر بالخوف أو بالوحدة أبداً بل أحس بأهميتي كإنسان، ومع ذلك فهي تستنزفني أموت وأحيى من جديد مع كل نص جديد أكتبه
فأنا لا أشعر أبداً بالرضى عن نفسي وتنتابني نوبة تمزيق كل ما أكتبه لأسأل نفسي بعده ترى ماذا أفعل لأكتب بشكل أفضل وأروع ؟
مؤخراً أنا أشتغل على نص روائي وأنا أفعل ذلك أشعر بأنني أخذلها وهي التي لم تخذلني يوماً -على حد تعبير يوسف السعدي - و لهذا أنا هذه الأيام أتحاشى النظر اليها حياء وخجلاً·
أما عن تراجع القصة أمام الرواية والشعر في مجال الطبع وتصدر المبيعات فهذا شيء طبيعي في نظري وذلك يعود لطبيعة تتعلق بالقصة ربما ، القصة تلقى رواجاً أكثر في مجالات أخرى كالصحف والمجلات وحتى في مواقع ونوادي الإنترنيت فهي ليست وجبة دسمة مشبعة بالدهون بل هي أشبه ما تكون بسيجارة أو فنجان شاي تشربه وأنت على مكتبك أو في أي مكان خفيفة ظريفة كالفراش تتوخى دائما الاختصار والاختزال وتنفر من الحشو الإطناب ما أمكن ولهذا فالمسألة نسبية وربما هي أقرب الفنون قاطبة للإنسان، ومشكل تراجع مقروئية القصة والإبداع بشكل عام يعود إلى البيئة غير الصحية السائدة فلابد من سياسة حكيمة رشيدة تتحكم بشكل سلس في احتضان الإبداع وتسويقه والترويج له ونشر ثقافة القراءة الأمر ليس مستحيلاً ولا طوبوياً إذا توفرت الإرادة والنية ، كما يجب التكفل بالمبدع ولو معنوياً فلإهمال واللامبالاة عدو المبدع الحقيقي ·
ربما عزاؤنا الوحيد أن النصوص الجيدة لا تموت وبإمكانها أن تقهر الزمان والمكان ولو بعد حين فيكفيني أن أتأمل نصوص كتاب القصة الذين أحبهم وهم كثيرون جداً منهم ارنست همينغواي و خوان رولفو والسعيد بوطجين وكاتب أخر لن أذكر اسمه حتى لا أُتهم بالغرور ولعل أكثر الموضوعات التي تستهويني هي تلك التي تهتم بالإنسان في بعده الحضاري والفلسفي ربما لم تكن الفلسفة خبزاً يومياً في أي كان ولكنها مع القصة يمكن لها أن تكون كذلك فالقصة معجزة الإنسان ·
القصة في الجزائر بحاجة للشرط الحضاري كي تقرأ
شرف الدين شكري/ باحث وقاص
القصّة القصيرة فنّ أدبي يعتمد خصوصا على ذكاء القاصّ في اختزال الفكرة وإيصالها بقدر كبير من الاحترافية في العمل على مستوى الشّكل واللُّغة··· دون هذا، يخفق العمل، ويغدو مجرّد سرد روتيني مملّ لأحداث معينة لا تختلف عن الأحداث اليومية الكثيرة التي تعجّ بها الحياة والتي تعدُّ أغنى بكثير من أي سرد قصصي يمكن أن يعيد تشكيلها في قالب لغوي لا غير، مثلما دأبت على ذلك المدارس الكلاسيكية الأدبية المحافظة التي ملأت أسماعنا لسنوات طويلة عبر البرامج التربوية المدرسية والأكاديمية، والتي لم تؤسّس -أي هذه الأخيرة- عبر تاريخ الآثار الأدبية، لأي عمل إبداعي·
يمكننا أن نفرّق بين الأعمال الأدبية إذن، من خلال فكرة الكاتب التي تصوّرُ الحدث التاريخي ذاته· فهناك أعمال أدبية تؤسس لتاريخها الجواني عبر صناعتها للحدث فنيا، فتعير بذلك التاريخ أبطالا وأحداثا جُددا كما يرى /جورج طرابيشي/؛ أي أنها تخلق عالما جديدا ومتنفّسا أوسعَ، وإبداعا أبقى، وهناك أعمال أخرى تستَلف وقائعيتها من التكرار المملّ لأحداث التاريخ دون أن تسمح للذهن بفسحة التجوال في العوالم الجديدة وتشغيل الخيال وخلق عالم مفاجأة وإبداع من اجل طرح إمكانية حياة أفضل بجدّتها، وأبقى بتمايزها·
من هنا أيضا، يمكننا أن نخلق معايير (وزن) نسبية أو مقارباتية للتفرقة بين قيمة الكُتّاب الذين يتبنون مختلف الأشكال الأدبية، والتفرقة بين المُبدع حقّا فيهم، الذي يعي جيدا ميكانيزم البنية الذهنية التي تتحكّم في المجتمع الذي تتفاعل فيه مختلف البنى الفوقية والتحتية، من جهة، ومتطلبات الفعل الإبداعي الذي يشترط سياسة حكيمة وذكية جدًّا، ومستقلّة ودرجة عالية من الحرية والإنسانية والتفهُّم والفهم، وبين الكاتب المعيد الذي يتلهّى باللّعب بالكلام كسلعة رائجة في الثقافة العربية لا تؤسس إلاّ للهباء(مثلما ينطقها ازراج اعمر)، والتي وصَمت أغلب نشاطات الفعل الثقافي بالتخلّف والإعادة والنقل وتمجيد الذات المركزية وتعويد الاختلاف على التلاقح المماثِل···الخ من قاموس التبعية والتكرار·
وعليه، فإن تبني نوع معين من النشاط الأدبي، لا يُعدُّ شرطا تفضيليا يُعلي من قيمة النوع المُتبنّى عن غيره غير المُتبنّى، بالرغم من اختلاف كل نوع عن الآخر، بقدر ما يجب الاعتماد أولا وقبل كل شيء على حبّ الفعل المٌتبنّى،ثم على درجة الوعي التي نستمدّها أو نستخلصُها من ذلك الفعل، وأخيرا على نسبة ثقتنا في ذواتنا على قدرتها على إيصال شيء جديد يشارك في إنماء ذلك الفعل المُتبنّى، وبالتالي في تواصله مع العالم الجامد الذي تعوّد على الاستهلاك أكثر من تعوُّده على الإبداع·
لماذا تكتب القصة إذن ؟
أعتقد بأنني ربيت نفسي على التفاعل مع أشكال كتابية عديدة حتى يتسنى لي تفهُّم بنى ذهنية مختلفة تتجدّدُ دوما حسب ظروف المكان والزمان: فكتبت بالمقابل من القصة، الرواية، الكتاب الفلسفي، الشعر،النقد، الترجمة ·إلخ، وبانت بفضل هذا تباريح غنى الفعل الفني في اقترابه ومحاولة تفهمه من للأوجاع والعلل والأمراض التي تنخر المجتمع ،كي يغدو الأديب فيَّ طبيبا مهنته الإنسان، وتخصُّصه النفس البشرية بقدر الإمكان· فالأديب، هو طبيب المجتمع، ولا يمكنني تصوّر فعل إنساني وحضاري أرقى من هذا بإمكانه أن يطرح بدائل للإنسان المريض الذي يحاصره السياسة والدين والمصالح الأنانية التي تطرحها حضارة اليوم بشكل مشره وعنيف ربما لم تشهده أية حضارة من قبل· أنا لا أطرح الأدب كبديل موضوعي مستقلّ عن البدائل الحضارية الأخرى التي ترسم الحياة البشرية إيجابا في سعيها لتبسيطها وتغيرها وإنمائها،لأن كل نوع ثقافي (علمي أو أدبي)، هو في الأخير نشاط بشري خالص مهمّته خدمة مصالح معينة، ولكنّ الأدب هو المخرج الوحيد ربما الذي عليه أن يتخلى بقدر الإمكان عن فكرة المصلحة المتوحّشة التي تعكسها الإيديولوجيا وسياسة العلوم والاقتصاد والأديان· ولذلك فإن كتابة القصة، تعدُّ مشروعا آنيا، ربما يدوم وربما ينتفي ويتحوّل إلى نوع فني آخر كامتداد طبيعي- لمَ لا؟-، والإصرار على مواصلة الكتابة - وليس فقط في الفنّ القصصي!- ،في ظل التنامي المهول لتدني درجة المقروئية- وأنا لي نظرة مغايرة تماما لذلك الفهم الكلاسيكي لفكرة القراءة الآلية- يعدُّ مواصلة عنيدة تؤكّد على ضرورة المضي قدما في ذلك المشروع التوعوي الخالص الذي عليه أن يمتدّ حتما نحو الأثر الفني·والأثر الفني ،بقدر ما يحتكم إلى العامل الظرفي، بقدر ما يحتكم إلى عامل الطّرح البديل، وهذه هي الغاية التي على أي كاتب أن يسعى نحوها ،مثلما فعل ويفعل كل ممتهن لفن الكتابة عبر التاريخ ،مهما ادعى لااكتراثه ولاانتماءه·
وأمّا عن الأفق الثقافي الذي بإمكان القّصَّة أن تطرحه في جزائر المستقبل، فإنه لن يخرج عن مصير باقي الفنون الأخرى التي تتأرجح بين الملء الروتيني لروزنامة النشاط الثقافي الخاضع للريع المركزي والذي يفتقد لفكر التمايُز والنقد والاستشراف، وبين المحاولات الفردية الناضجة التي أسست للاسم ولم تؤسس للمدرسة ولم يتبناها أي نشاط نخبوي ذو وزن مؤثّر، والتي تجد ذاتها ومكانتها خارج نطاق أوطانها أكثر مما تجده بداخلها· وعليه، فإن الفن القصصي كغيره من الفنون الأخرى، بحاجة، ليس فقط إلى جمهور قرّاء أو تجمعات سوسيولوجية مضحكة مثلما يحدث مع الجمعيات الفنية العالم- ثالثية واتحاداتها، وإنما إلى تمهيد تنموي على مستوى الوعي ينطلق من المركز ويمتدّ إلى القاعدة· وهذا الشرط حتى الساعة غائب؛ أي أن الحضارة في الجزائر تقف عند الباب وتنتظر الدخول، ولا أحد يجرؤ على مدّ يده نحو القفل وفتح الباب، خوفا من عصف وهج الحضارة الجديدة بما يتطلبه من استعدادات نفسية أكثر منها مادية، وتضحيات حضارية ضارية· الحضارة عندنا تقف خارج الباب حتى السّاعة، لأننا لم نحسن التضحية إلاّ مجازا عبر اللغة الشفهية·
القصة القصيرة تتراجع، ولكنها تنبض بالحياة
محمد دلومي / قاص وصحفي
لم يعد للقصة القصيرة في المشهد الأدبي الجزائري حضورا احتفائيا، كما كانت عليه منذ سنوات قليلة،عكس جيراننا في المغرب أين تشغل القصة حيزا هاما من الاهتمام الفكري والأدبي لدى النخبة وتتوغل لدى المتلقي العادي، ورغم أننا لا ننكر أن مشهدنا الإبداعي باهت من كل نواحيه وليس في المجال الأدبي وحسب، إلا أن الرواية ثم بدرجة أقل للشعر نصيب من الاهتمام لدى الكثيرين عكس القصة القصيرة التي لم تعد تدرج حتى في المسابقات الهامة - علي معاشي مثلا -، ودون أن نخوض بعمق في الأسباب التي أدت إلى تراجع القصة علينا أن نشير أولا إلى التهميش الذي يحيط بكتاب القصة القصيرة خاصة الشباب منهم، فالأسماء التي تكتب القصة مقارنة بالأسماء التي تكتب الشعر والرواية لا يكاد أحد يذكرها وحسب علمي فإن التكريم نال الكثير من الروائيين والشعراء بينما يحترق كتاب القصة في صمت، رغم أن لهم سمعة طيبة في دول عربية كثيرة نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر آسيا علي موسى ، خالد ساحلي ، صليحة لعراجي، عبد القادر برغوث الذي اهتم به النقد العربي وأغفله الجزائري وغيرهم من القصاصين الذين لهم حضور لافت في المشهد الإبداعي العربي في مجال القصة لكن حضورهم بالنسبة لنا يكاد ينعدم، إضافة إلى هذا ثمة عامل آخر يتعلق بتاريخ القصة القصيرة في الدول العربية التي يعود ظهورها إلى الربع الأول من القرن العشرين بمعنى أنها حديثة المولد عندنا فهي في الأصل فن أدبي غربي، رغم أن هذا العامل يعد ضعيفا جدا في تراجعها، أمر آخر وهو صعوبة كتابة القصة فالكثير يستسهل أمر القصة القصيرة والقصيرة جدا، وهذا خطأ فقد نجد روائيين كبار عاجزون عن الخوض فيها، بحكم أن الرواية مجالها مفتوح ورحب عكس القصة التي لها آليات تحددها ازماكانياب، دون الحديث عن الهجرة من القصة إلى الرواية، وهذا ما نلحظه في بعض الكتاب الذين تحولوا إلى كتابة الراوية بعدما بقوا ردحا طويلا من الزمن يكتبون القصة، وهذه ظاهرة نشهدها بكثرة ولا يمكننا إطلاقا أن نصنفها ضمن الصحية أو المرضية وان كنت شخصيا أعتقد أن القصة عتبة مهمة في الأدب مكنت للكثيرين في ذات الوقت لا أظن أن الكثيرين من كتابها أنصفوها لاحقا بعد أن تحولوا عنها، ناهيك عن عدد كتابها القلائل جدا مقارنة بالشعراء والروائيين· وشخصيا وفائي للقصة القصيرة لا علاقة له بالعجز عن عدم وجود فضاءات أخرى للكتابة الأدبية كالرواية مثلا ولكن للقصة عوالم جميلة ومميزة، تجعل كاتبها يعيش في تفاصيل متجددة مع كل قصة، فكل الروائيين الكبار كانت مروا على كتابة القصة، ورغم كل هذا تظل القصة القصيرة تنبض بالحياة سواء احتلت الواجهة أو ركنت لزوايا ضيقة كونها لون أدبي له أتباعه وله مريديه·

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى