رسائل الأدباء : رسالة من أحمد امين إلى طه حسين

15 - 06 - 1936

إلى أخي طه حسين

عرضت في مقالي السابق لضعف النقد الأدبي في مصر، وخاصة في السنوات الأخيرة، وذكرت أن رقي النقد لم يساير رقي الأدب، فقد كان الإنتاج الأدبي قليلاً، وكان النقد يؤدي مهمته في هذا القليل ويعرف جمهور القراء به، ويبين مزاياه وعيوبه، وتختلف أنظار النقاد فيه، ويعرضون له من وجوهه المختلفة، وفي كل ذلك فائدة للأدب وتبصرة للقراء؛ ثم كثر الإنتاج وارتقى، وقل النقد وضعف، واكتفى جمهور النقاد بنقد الكتاب من فهرسه ومقدمته. واليوم أزيد هذا الرأي شرحاً وبيانا، وحجة وبرهاناً.

في كل عام يخرج هيكل وطه والعقاد والزيات والمازني وزكي مبارك وغيرهم كتباً عدة، ويخرج الشعراء قصائد كثيرة، ويخرج مؤلفو الروايات روايات تعد بالعشرات، ولكن قلب الصحف والمجلات لترى نقدها نقداً صحيحاً فقل أن تعثر عليه. هذا أقرب كتاب إلينا وهو كتاب (محمد) لتوفيق الحكيم. هو من غير شك عمل جديد في بابه من حيث وضعه للسيرة النبوية في قصة؛ ولكن أين النقد الذي قوبل به الكتاب؟ وأين ما كان من البحث حول قيمة ما فيه من فن، وهل هذا العمل في فائدة التأريخ والأدب أم لا؟ وهل من الخير أن نشجعه أم لا؟ ثم هل هو صور محمدا (ص) صورة صحيحة أم لا؟ نعم أنه اعتمد في كل ما نقله على عبارات السيرة، ولكنه أختار أجزاء وحذف أجزاء، وألف بين هذه الأجزاء، وهذا التأليف بين أجزاء معينة وترك غيرها يجعل الصورة ذات ألوان خاصة يسأل عنها المؤلف كما يسأل عن كتاب كتبه بنفسه وعبر عنه بعبارته.

لم نجد شيئاً كثيراً من ذلك؛ ومر الكتاب بسلام. وأظن أنه لو ظهر من نحو عشر سنين لكان له شأن أخر، ولنال من النقد ما يستحقه. وليس يعنينا أن المؤلف يغضب من النقد أو لا يغضب، فالنقد ليس من حق المؤلف وحده، وإنما هو حق الناس جميعاً وحق الأدب والتاريخ.

وهل أتاك نبأ ما كان منذ شهرين، إذ نشر شاب في الإسكندرية رسالة في (الحديث)، تعرض فيها للرواية والرواة، ونقد بعض المحدثين، وطعن بعض الأسانيد، فأجتمع مجلس الوزراء وقرر مصادرة الرسالة؟ مع أن المعتزلة منذ ألف سنة قد أنكروا أكثر الأحاديث إلا ما أجمع الرواة على صحته، ولم يكفرهم من أجل هذا أحد، ولم يصادر كتبهم من أجل هذا أحد. ومنذ أكثر من ألف سنة حكى الشافعي في كتابه (الأم) حكاية قوم من المسلمين أنكروا حجية الأحاديث بتاتاً، ولم يشنع عليهم أحد، ولم يقل بكفرهم أحد، وجادلهم المجادلون في هدوء وثبات كما يجادل المؤمن المؤمن. ومنذ عشرين سنة على ما أذكر، كان ينشر المرحوم الدكتور صدقي في (مجلة المنار) مقالات ضافية متتابعة يدعو فيها إلى الرجوع إلى القران وحده، وينقد الرجوع إلى الحديث، ورد عليه جماعة من العلماء، وطال الأخذ والرد والدفاع والهجوم، ولم يجتمع إذ ذاك مجلس الوزراء ويقرر مصادرة المنار كما أجتمع وقرر هذه الأيام. ألا يدل هذا وأمثلته على أننا أصبحنا أضيق صدراً وأقل حرية؟ ومن الغريب أن أحداً لم يحرك لهذا ساكناً ولم يفه ببنت شفة! ولو وقع هذا الحادث من عشر سنين لقام له الكتاب الأحرار وقعدوا، ودافعوا ونقدوا وهذه لجنة التأليف تصدر كل حين كتاباً بل كتيباً، وتهديها إلى الأدباء والصحف والمجلات، ثم تنتظر من يقومها وينتقدها ويبين مزاياها وعيوبها، ويشرح للجنة رأيه في مسلكها وفيما تخرجه من الكتب، ويرشدها إلى وجهة قد تكون خيراً من وجهتها، فلا تجد إلا القليل النادر والنتف القصيرة التي لا تجزئ وسبب هذا أننا لا ننظر إلى النقد النظر الذي يستحقه من الإجلال والإكبار؛ فمنا من ينظر إلى النقد على أنه إعلان عن الكتاب؛ ومنا من ينظر إليه على أنه مجاملة لصديق أو تحية لصاحب أو استغلال لموقف؛ وقليل جداً من ينظر إليه على انه ميزان دقيق كميزان الذهب يوزن به النتاج الأدبي وزناً محكماً فلا يفوته شيء. وقد أجاد العرب كل الإجادة في تسمية هذا المنحى الأدبي (نقدا) أخذا من نقد الصيرفي الدراهم والدنانير ليعرف جيدها من زائفها.

وقد أدى هذا النظر إلى الصحف والمجلات وكثيراً من الكتاب عدوا هذا العمل عملا ثانوياً يضاف إلى أعمالهم الأساسية، فهم معذورون إن ثقلوا بالأعمال وكان نقد الكتب أحدها فلم يولوها العناية اللائقة بها، ولم يمنحوها ما يجب لها من وقت ودرس وتمحيص. وقد أدركت هذا الواجب الجرائد والمجلات الأجنبية التي تحترم نفسها فاختارت كتاباً من خيرة الكتاب لا عمل لديهم إلا النقد، ويقرؤون الكتب والقصائد والقصص ونحوها ويدرسونها درساً عميقاً، ثم يظهرون القراء على نتيجة جهدهم ومدى درسهم وقصارى بحثهم.

وشيء آخر كان له دخل كبير في رقي النقد الأوربي وضعف النقد العربي، وأعني به (التخصص)؛ وهذا ظاهر في المجلات الأوربية وكتابها. فأما المجلات فتخصصت، فمجلة للجغرافية خاصة، ومجلة للاجتماع، ومجلة للأخلاق، ومجلة للقصص، ومجلة للسياسة، ومجلة للثقافة العامة. فإذا ألف كتاباً في الجغرافيا أو الاجتماع أو الأخلاق فالمجلة الخاصة بذلك تنقده؛ وإذا هي نقدته عن خبرة تامة بالموضوع وتخصص فيه. وبهذا يفخر المؤلف بأن مجلة كذا مدحت كتابه وأثنت عليه، لأن المدح صدر من واسع الاطلاع عميق البحث يحترم نفسه وقراءه. وأما الكتاب فيشعرون هذا الشعور نفسه، فلا يتعرض ناقد لكتاب ليس من موضوعه الخاص وإن كان مثقفاً فيه ثقافة عامة. فإذا عرض على أديب كتاب في علم النفس أحترم نفسه وقراءه فلم يكتب فيه، وعد ذلك كأديب ينقد رياضيا، أو شاعر ينقد فلكيا، وأنه مهزلة لا يصح أن يقع فيها، وأن الشأن في المعارف كالشأن في الطب، فكما لا يصح أن يداوي طبيب عيون مرضاً باطنياً ولا طبيب الأذن مرض اللثة، فكذلك لا ينقد أديب تاريخياً ولا قصصي جغرافياً؛ إلا إذا تعرض للكتاب من ناحية الأسلوب. بل هم سائرون إلى أكثر من ذلك فيريدون أن يتخصص الأدباء في فروع الأدب نفسه فلا ينقد قصصي كاتب رسائل، ولا ناقد الرسائل والمقالات قصصاً.

إن شئت فانتقل بعد معي إلى الحال عندنا. هل يتعفف أكثر النقاد عن أن ينقدوا ما ليس من اختصاصهم؟ فالكاتب الأدبي عندنا يرى أنه يستطيع أن ينقد في يوم واحد كتاباً عن تاريخ نابليون، وكتاباً عن جزيرة العرب، وديوان شعر. وهو يرى أنه يستطيع أن ينقد كل شيء فلا يأتي بشيء. ومن أجل هذا قدر الناس أكثر النقد العربي بما يستحقه فقط. فمدح المجلة والصحيفة للكتاب لا يدل على شيء وراء هذه العبارة، ولا يدل على أن للكتاب قيمة ذاتية. ولا يستطيع مؤلف عربي أن يتقدم إلى هيئة محترمة ببحوثه ليقول إن مجلة كذا العربية قرظتها وقالت فيها كذا. كما يفعل من يتقدم بمؤلف كتب بلغة أوربية فيستدل على قيمة عمله بأن مجلة كذا نشرته، ومجلة كذا قرظته.

ثم الناقد الحق قاض عادل. والقاضي العادل لا يقضي حتى يدرس قضيته من جميع نواحيها فلا تفوته جزئية منها؛ وهو عالم بالقانون وبالمواد التي تتصل بقضيته محيط بها؛ وهو ماهر في تطبيق المواد على قضيته محكم تطبيقها، وكذلك الناقد والقاضي الذي لا يرجع إلى قانون إلا قانون العدالة المطلقة مخطئ؛ والقاضي الذي يحكم ذوقه وحده مخطئ، والقاضي الذي يدخل الشخصيات في قضيته مخطئ؛ وكذلك الناقد. وكل ما هناك من فرق أن القاضي يحكم وفق قانون موضوع، والناقد الأدبي يحكم وفق قانون لم توضع كل أحكامه ولم تعرف كل مصادره؛ وذلك راجع إلى الفرق بين طبيعة القوانين العلمية والوضعية وقوانين الذوق؛ ولكن على كل حال لا يصح للأديب أن يصدر حكمه بناء على أنه يستحسن أو يستهجن فقط، وإلا كان في استطاعة كل من أمسك القلم أن ينقد. إن كل فرع من فروع الأدب من قصة وشعر ونثر فني له قوانين تبين رقيه وانحطاطه؛ وكل عنصر من عناصر الأدب من خيال وعاطفة ونحوهما له مقاييس تقاس بها درجة قوته وضعفه؛ وكل ما في الأمر أن بعض هذه القوانين عرفت واستكشفت، وبعضها غامض في دور الاستكشاف. ويجب على الناقد أن يرجع إلى هذه الأسس في صدور أحكامه كما يرجع القاضي إلى قانونه؛ وهذا يسلمنا إلى القول بأن الناقد الحق يجب أن يكون مثقفاً ثقافة واسعة عميقة، وأن يبني حكمه على علل معقولة كما يبني القاضي حكمه على (حيثيات) واضحة، ولسنا ننكر أن الأديب يعتمد في حكمه على ذوقه وشعوره بالجمال والقبح، ولكن لا يعد هذا الذوق راقياً إلا إذا أسس على علم واسع ومعرفة بقوانين الأدب.

وهكذا ضرب لا يزال ينقصنا منه الشيء الكثير؛ فأكثر أحكامنا على النتاج الأدبي أحكام مجردة لا تعلل بعلل مقنعة، ولا يرجع فيها إلى قوانين ثابتة، وبذلك تفقد قيمتها ويقل احترامها.

لقد قال قائلون إنك تعيب النقد العربي ولا تنقد، وتعيب قلة الجرأة ولا تجرؤ، وتدعي قلة النقد ولا تبني في بنائه الذي تنشده حجراً.

قد يكون هذا صحيحا ولكن هل من العيب أن يشرح المريض مرضاً عاماً أصيب به هو وغيره؟ وهل من الشر أن يرفع صوته بالشكوى من كان هو وغيره سبب الشكوى؟ وهل يحجر على الإنسان أن يقول إن هذا ليس بجميل إلا إذا كان جميلاً، وليس بعادل إلا إذا كان عدلاً، وليس أبيض ولا أسود إلا إذا كان هو أبيض أو أسود؟ إن مطالبة الإنسان ألا ينقد إلا إذا كمل، وألا يعيب إلا إذا خلا من العيب يحقن في نفوس الناس آراءهم وقد تكون صالحة، ويسلبهم الحرية وقد يكون في حريتهم العلاج. على أن المريض قد يكون اصدق في وصف المرض من الصحيح، والجاني قد يصور الجناية بأحسن مما يصورها البريء.

أما بعد، فقد شرحت وجهة نظري في بعض وجوه العيب في النقد العربي من ناحيتها العامة. فأن أراد أخي طه أن يحورها من عمومها إلى شخصيتها، وينقل المسألة من النقد الأدبي إلى النقد السياسي، ويجعل الأمر يدور حول أنا وأنت ونقدت ولم تنقد، وكتبت ولم تكتب، وبئست ونعمت، وشقيت وسعدت، لم أجاره في ذلك، ووقفت حيث أنا إلا أن يعود إلى أساس النظرية، ويقرع حجة بحجة، وبرهاناً ببرهان؛ فأني إذن أساجله القول في ذلك حتى ينجلي الحق ويظهر الصواب.

والسلام عليك من أخ يضمر لك من الحب والوفاء ما تضمر له.

أحمد أمين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى