عمر الدسوقي - في الفلسفة الإسلامية - 2 - إخوان الصفاء

هل هم شيعة باطنية؟

لقد أقر إخوان الصفاء على أنفسهم بالتشييع في غير ما موضع من الرسائل. فمن ذلك قولهم عن السبب الذي حداهم لكتابة هذه الرسائل: (لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا وفهموا بعض معانيها، وعرفوا حقيقة ما هم مقرون به من تفضيل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خزان علم الله ووارثوا علم النبوات، وتبين لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة والفهم والتمييز والبصيرة في الآفاق)

ومنها: (واعلم يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الروح كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضى الله عنه: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة. وهذه الأبوة روحانية لا جسمانية)

هذا وقد عقدوا فصلاً خاصاً بينوا فيه الطوائف التي تنتمي إلى الشيعة، وقد انتقدوا بعضها واسترضوا بعضها، وأخذوا يتبرءون ممن يدعى التشيع وهو يرتكب المنكرات ويقترف الموبقات، ويحملون على من يقول بأن المهدي المنتظر مستتر من خوف المخالفين، كما أنهم حملوا على من يبكي الأموات من أهل البيت حملة شعواء، وهاك ما يقولون: (إن قوماً من أشرار الناس جعلوا التشيع ستراً لهم عما يحذرون من الآمرين عليهم بالمعروف. . . وإذا نهوا عن منكر فعلوه بارزوا بإظهار التشيع واستعاذوا بالعلوية على من ينكر عليهم أو ينهاهم. لبئس ما كانوا يعملون. ومن الناس طائفة ينسبون إلينا بأجسادهم وهم براء بنفوسهم منا ويسمون أنفسهم بالعلوية وما هم من العلويين، ولكنهم من أسفل السافلين، لا يعرفون من أمرنا إلا نسبة الأجساد. . . فهم أبعد الناس عن أهل ملتنا، وأعدى الناس لشيعتنا، وأغفل الناس عن حقيقة أمرنا وأسرار حكمتنا. . . ومن الناس طائفة قد جعلت التشيع مكسباً لهم مثل النائحة والقصاص لا يعرفون من التشيع إلا التبري والشتم والطعن واللعن والبكاء وترك طلب العلم وتعلم القرآن. وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور كالنساء الثواكل، يبكون على فقد أجسامنا وهم بالبكاء على أنفسهم أولى. ومن الشيعة من يقول: إن الأئمة يسمعون النداء ويجيبون الدعاء، ولا يدرون حقيقة ما يقرون به وصحة ما يعتقدون. ومنهم من يقول: إن الإمام المنتظر مختف من خوف المخالفين. كلا! بل هو ظاهر بين ظهرانيهم يعرفهم وهم له منكرون كما قيل:

يعرفه الباحث من جنسه ... وسائر الناس له منكر

نرى مما تقدم أنهم لا ينكرون التشيع ولكنهم يريدونه على شكل خاص، وأنهم يبرءون من هؤلاء الذين لوثوا اسمهم وارتكبوا المنكرات والموبقات وادعوا أنهم علويون. فهم بذلك فرقة من الشيعة ترمي إلى تعاليم خاصة. وغايتها إصلاح الطائفة وتهذيبها بالتعليم. ونرى كذلك أنهم يقولون بالمهدي المنتظر وأنه كان موجودا إبان تأليف هذه الرسائل، ولعله أحد من ألفها كما يذهب إلى ذلك بعض المستشرقين. وأنهم كانوا يقولون بأن عليا وصي النبي عليه السلام. وليس في ذلك أصرح من قولهم في باب مخاطبة المتشيعين: (ومما يجمعنا وإياك أيها الأخ البار الرحيم محبة نبينا عليه السلام وأهل بيته الطاهرين، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير الوصيين صلوات الله عليهم أجمعين)

أما نسبتهم إلى الإسماعيلية الباطنية فلم تثبت بصفة جازمة، بيد أن من يدرس آراء هذه الطائفة وآراء إخوان الصفا يجد تشابها عجيبا، وإن كان الأولون أكثر صراحة من الآخرين. على أن الأستاذ كازانوفا يقول: (لقد وجدت مخطوطة في المكتبة الأهلية بباريس مفقودة الصفحات الأولى والعنوان، وتقرأ على الصفحة السادسة منها ما يلي: فصل من رسائل إخوان الصفا، وفي ابتدائها: القول على السر المخزون والعلم المصون من باطن الرسالة الجامعة من رسائل إخوان الصفا. ووردت فيها الجملة المشهورة: اعلم يا أخي أيدنا الله وإياك بروح منه التي يتكرر ذكرها في كل صفحة من الرسائل). وقد وجد كازانوفا أن هذه الرسالة الجامعة مصطبغة بالصبغة الإسماعيلية، متلبسة بشمول الألوهية، ونظرية الفيثاغوريين في الأعداد. ويقول في ذلك: (ما أراني إلا مصيبا في القول بأن فلسفة الإسماعيلية جميعها مبثوثة في رسائل إخوان الصفا؛ فالقول بالإمام المنتظر الذي سوف يظهر ليعيد السلام إلى العالم يمثل امتزاج نظريات الأفلاطونية الحديثة بالاعتقاد بعودة المسيح) وقد جاء في أحد أعداد جريدة آسيا فصل هذا عنوانه: (بحث جديد على الإسماعيلية أو الباطنية بالشام المعروفين بالحشاشين). وقد قال كاتبه ما يأتي: (إن سنان بن سليمان الملقب برشيد الدين هو من أجل وأفخم رؤساء الإسماعيلية، وقد خدم في ألموت المقدمين الذين كانوا قبله، وزاول علوم الفلسفة وأطال نظره في كتب الجدل والخلاف، وأكب على مطالعة رسائل إخوان الصفا)

ويقول المحبي في خلاصة الأثر: (وحاصل تلك الرسائل ليس إلا مذهب الباطنية الإسماعيلية، وهم أنحاء شتى، ومعظم القول في هذه الشيعة، من شيعتهم تناسخ الأرواح، وادعاء حلول الباري تعالى في الأنبياء المشهورين من آدم إلى محمد عليهم السلام وفي أئمة آل البيت - وأخرهم المهدي - ويعظمونه على الجميع. والإسماعيلية يوافقون الإمامية في ذلك)

وقد ثبت تاريخياً أن المغول عند فتحهم لقلعة (ألموت) مركز رؤساء الإسماعيلية عثروا على كثير من نسخ رسائل إخوان الصفا. وقد جاء في رسالة الإنسان والحيوان المطبوعة في مصر خطأ تحت عنوان الجامعة: (نحن لسنا السواد وطلبنا بثأر الحسين بن علي عليهما السلام وطردنا البغاة بن مروان. . . ونحن نرجو أن يظهر من بلادنا الإمام المنتظر)

وقد تضافر الكتاب قديماً وحديثاً على نسبة هذه الجماعة إلى الإسماعيلية الباطنية، ومنهم ابن تيمية وابن حجر والألوس وغيرهم، وقد دعاهم إلى ذلك أن نشاط الإخوان في بث تعاليمهم يشبه نشاط الإسماعيلية وجدهم في نشر مذهبهم وتشكلهم بما يلائم مصلحتهم، ولبسهم لكل حال لبوسها، ومخاطبتهم الناس على حب أهوائهم وأمزجتهم، واستعمالهم السحر والطلاسم والرقى والتعاويذ في إقناع الناس بمقدرتهم ومبلغ علمهم. ثم في تكتمهم وشدة حرصهم على ألا يطلع على مذهبهم إلا من دخل في شيعتهم وقولهم بالتقية والإمام المنتظر ووصاية علي رضى الله عنه. . . الخ

تسامحهم الديني

ومما يقوي صلتهم بالإسماعيلية رحابة صدرهم لجميع المذاهب والديانات والعلوم، فقد ثبت أن الإسماعيلية في أوائل دخولهم بلاد الهند كانوا يوافقون البوذيين على عقائدهم حتى يستميلوهم إليهم، ثم يكملون النقص في هذه العقائد بنظرية الإسماعيلية الأساسية، وهي قداسة علي رضى الله عنه وعودته، ثم يجعلون برهما محمداَ، ووصنو عليا، وآدم سيفا

أما إخوان الصفا، فكانوا أمام جميع المذاهب والديانات غير متعصبين: (وبالجملة ينبغي لإخواننا - أيدهم الله تعالى - ألا يعادوا علماً من العلوم، أو يهجروا كتاباً من الكتب، وألا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم كلها)

ويقولون: (واعلم بأن غرض الأنبياء - عليهم السلام - وواضعي النواميس الإلهية أجمع غرض واحد وقصد واحد وإن اختلفت شرائعهم وأزمان عباداتهم وأماكن بيوتهم وصلواتهم، كما أن غرض الأطباء كلهم غرض واحد في حفظ الصحة الموجودة واسترجاع الصحة المفقودة وإن اختلفت علاجاتهم باختلاف الأمراض العارضة للأبدان). فالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرها من الكتب الدينية، السماوية وغير السماوية، عندهم سواء. وكأني بهم يحاولون أن يستوعبوا الديانات كلها في دين واحد ومذهب واحد. وليس هناك أوضح من قولهم: (فالله أرسل روحه إلى كل الناس، لا فرق بين النصراني والمسلم وبين الأسود والأبيض)

وقد ثبت أن جمعية بغداد التي هي فرع من جمعية إخوان الصفا، والتي كان يختلف إليها أبو العلاء المعري كما مر بنا، كانت تجمع السني والشيعي واليهودي والنصراني والصابئي والدهري

وقد حدثنا أبو حيان التوحيدي في المقايسات قائلاً: (إن من أعضائها يحيى بن عدي وأبو إسحق الصابي وأبو إسحق النصيبي وماني المجوسي. . . الخ) وهذا دليل واضح على رحابة صدرهم وعظم دعايتهم وتعدد طرق تبشيرهم

(يتبع)

عمر السوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية ببيروت


مجلة الرسالة - العدد 452
بتاريخ: 02 - 03 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى