جورج سلوم - الجمعة الحزينة

الموعد من السادسة إلى التاسعة من ليل الجمعة ، اللقاء سيتمّ في مكانٍ يُدعى الجلجلة أو الجلجثة ، هناك تواعدنا (لكن بدون لصّين ).

ذهبنا لوحدنا وبدون موكبٍ يرافقنا... كان كلٌ منا قد صلّى طويلاً في بستان الزّيتون... كلّ منا قال: ( لتكن مشيئتك يارب لا مشيئتي أنا )

وانطلقنا نحو الجلجثة وأجفان الناس قد أثقلها النعاس وركبها الكرى... لم نحمل صليباً في طريقنا... أو هكذا أعتقد....

لقد اتجهتُ نحو مكان اللقاء بخطاً وئيدة .. الظلامُ الدامس مخيّم ولا أرى أبعد من أنفي ... كنا خائفين أن يرانا الناس عندما سنُصلَب... نعم سنُصلَب وقد حكمْنا على أنفسنا بذلك وليس بيلاطس البنطي !

لم نشفِ عمياناً أو نقمْ أمواتاً.... بل هربنا من الناس لنَصلبَ أنفسنا (لأن الناس أعموا عيونهم لكي لا يشاهدوا... وسدّوا آذانهم لكي لا يسمعوا)...

لم أشاهدْها وهي تصعد التلّة.. بل سمعتُ وقع خطواتها الوئيدة الخائفة المرتجفة...

قطراتُ الندى تصفعني في هذا الليل البهيم .. والخطوات تقترب .. والحجارة تئنّ من وقع خطواتنا المضطربة المترددة.

وتوقفت الخطوات المقتربة وقد أصبحتْ قريبةً مني بلا شك ، فوقفتُ وفتحت فمي وحاولت أن أصرخ فلم يطاوعني لساني... كنت أريد أن أصيح بصوتٍ ينشقُّ له ستار الهيكل:

-(إيلي... إيلي... لماذا شبقتني.. أي إلهي إلهي لماذا تركتني)

ومددتُ يدي نحو الأمام بأصابعَ مفتوحة تريد أن تمسك الجسد المطروح أمامي... وتداخلت أصابعي بأصابعها فشعرتُ بقشعريرةٍ كهربائية تسري في أوصالي .. وأحسستُ بالدم يندفع إلى وجهي.. لا بدّ أنه احمرّ خجلاً.

لكني تجلّدتُ وأمسكتُ الجسد الروحي بكلتا يديّ ... وضغطتُ عليه بأصابعي المتشنّجة.. فأحسست أنها تغوص فيه ورفعته على ظهري .. وانطلقتُ به في موكبٍ ملوكي هلّلتْ فيه سعُف الزيتون والورود الذابلة والجماجم المدفونة في القبور التي تسايرنا على طولِ الطريق نحو الجلجثة ....

كانت تصيح :

- (مباركٌ الآتي باسم الرّب )

قلت هامساً:

- (هاقد وصلنا)

لقد انتظرنا هذه اللحظة منذ ثلاثٍ وثلاثين سنة ... وكان مكتوباً منذ تكوين الخليقة أننا سنُصلَب هنا.. وسألتها:

-هل أنتِ مستعدةٌ للصلب؟

فأومأت برأسها علامة الإيجاب.... وخلعنا ملابسنا ورميناها على قارعة الطريق حتى يتقاسمها الناس ويقترعون عليها وارتدينا ثياباً قرمزية ....

قالت:

- (أنا عطشى)

فأدنيت شفتيّ من شفتيها وقبّلتها قبلة قاسية كان لها طعم الخلّ...

كانت الساعة قد قاربت السادسة ... فسمعتها تتمتم:

- (لقد حان الوقت)

ورأيتها تتوسّد الأرض وتفتح ذراعيها بشكل الصليب ، وغرستُ أصابعي في يديها وقدميها كالمسامير .. ثم طعنتها بحربتي في جنبها فتدفق دمٌ وماء من الجرح الرّهيب .. ورأيت أنا ذلك (وشهِدْت به وشهادتي صحيحة).

انتفضَ الجسد المرميّ على صليب العذاب.. وعاينته يتلوى من الألم ثم سمعتُ بضع كلمات تفوّهت بها:

- (لقد تمّ الآن كل شيء).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى