طالب الرفاعي - سالم الصغـير.. قصة قصيرة

«آه».
أشعر ان ظهري يؤلمني، الساعة لم تلحق السادسة بعد، ضوء الشمس في الخارج خلف الستارة.
«اليوم عيد ميلاد سالم».

ما زال غاطا في نومه وشخيره، في السنوات الاخيرة قلت ساعات نومه، ما عدت قادرة على مجاراته في سهره.. يتناول عشاءه في الثامنة. هو هو منذ ما يزيد عن الخمسين عاما: قطعة خبز، وقطعة جبن بيضاء صغيرة، وحبة طماطم، وخيارة صغيرة، وحبات زيتون، ولا مانع من التنويع بين قليل من الزعتر والزيت واللبنة وورقة خس، يأكل بهدوء دون كلام، وما ان ينهي العشاء حتى يتفرغ لمشاهدة التلفزيون. يمسك بجهاز التحكم، يتنقل بين القنوات الفضائىة. قلما يقف عند البرامج الحوارية، تستهويهه الحياة البرية وسباقات الرياضة يتفرج على قنوات الموسيقى، ومع التاسعة يسمع نشرة الاخبار، يكتفي بالموجز وينهض الى مكتبه في غرفة نومنا لبدء القراءة.

اكره ساعات قراءته الخرساء. ساعة ساعتان ثلاث اربع، هي ازعج واثقل ساعات يومي، احتار ماذا افعل، اجلس بقربه اشاهد التلفزيون صمتا، اتنقل بين القنوات الفضائية دون صوت. بعد فترة يلتفت هو الي يقول: «ارفعي صوت التلفزيون قليلا لا معنى لصور ملونة تتراكض؟».

لا احب ان ازعجه، واخشى مضايقته. فيؤكد هو:

«لن أتضايق سأبقى مركزا مع الكتاب والقراءة».

في معظم الليالي، لا ادري متى تغافلني رقبتي ساقطة على صدري، فينهض هو يهزني:

«أم بدر، أم بدر».

اقوم لفراشي، متمنية لو يصاحبني، لكنه يعود لكتبه وقراءته وصمته.

«اليوم عيلاد ميلاد سالم».

عليّ ان انسى الفكرة، وانهض لاجهز الافطار له.

سأتركه نائما، بالكاد ينام اربع ساعات.

حين الومه على طول سهره يسكت لثوان، قبل ان يقول:

«سأنام كثيرا لاحقا».

تخيفني كلماته، ترش الحزن على قلبي، انظر اليه يملأ الدمع عيني ابعد البكاء خوف ان يكون فأل سوء واسكت لا أعرف كيف ارد عليه.

في كل سنة نختلف يوم عيد ميلاده، يكره هو ان يذكره احد به، ويكره اكثر اي نوع من الاحتفال.

سيغضب لو تركته نائما لما بعد السابعة، يتعكر مزاجه طوال يومه.

في كل عام تملأ الحسرة قلبي، تأخذني افكاري، اتمنى لو نستيقظ باكرا انا وهو، نرتدي ثيابا تليق بحفلة، ونخرج معا لافطار خاص اشتاق الامساك بذراعه التي احب، نقصد مطعما صاخبا يغص بالناس والحركة.وهناك نتناول فطورنا، ونستعيد بعض ذكرياتنا وربما شطحت بأفكاري بأن نقضي ساعة اخرى نتمشى في احد الاسواق.

سالم بدأ يتحرك في الفراش، لأنهض واجهز الفطور له.

ü ü ü

«ماما، لا شأن لكِ أنتِ، أنا في السيارة، وبعد دقائق سأكون عندكم».

«مع السلامة»

لا ادري لماذا اصرّت منى على اصطحاب اولادها والمجيء لتناول الغداء عندنا؟

مجيئها سيخلق مشكلة. قالت:

«سنحتفل ببابا على طريقتنا دون ان نضايقه»

صرخت بها:

ارجوك هو لا يطيق كلمة احتفال.

«ماما، هو ابي وانا اعرفه مثلك، اطمئني لن نقول اي شيء».

سيفطن سالم للامر منى وبدر وعيالهما يأتون لزيارتنا في نهاية الاسبوع. من المؤكد ان سالم سينظر الي وسيسألني:

ما المناسبة؟ لماذا جاءت منى واولادها للغداء عندنا اليوم؟

سأهرب من الاجابة. لكنه سيهز رأسه، يتهمني كعادته:

«لا تكفين عن مضايقتي».

هو يعتقد في كل عام انني وراء تجميع منى وبدر وعيالهما عندنا للاحتفال بيوم عيد ميلاده. هز اصبعه في وجهي، حذرني في السنة الماضية.

«أرجوك ام بدر..».

سيتضايق الان، وسيبقى متكدرا لأيام. سأتصل بمنى اطلب منها عدم المجيء:

«ألو».

«ماما حبيبتي، ارسلي الخادمة لتفتح الباب لي».

«حسنا».

كان على منى ان تأخذ رأيي قبل ان تجلب غداءها وتأتي مع اولادها.

سالم في مكتبه، لا ادري ماذا سأقول له؟ منى قالت:

«لا شأن لك انت، اشتقت اليكم وجئت لرؤيتكم، اين المشكلة؟».

حبيبتي منى، حسنا فعلت.. لو انها لم تجئ لمر اليوم بائسا صامتا كباقي الايام.

سأتظاهر انني لا اعلم شيئا. ليتها لم تتصل بي.

في السنة الماضية قال لي سالم:

«لا افهم لماذا يحتفل الناس بانقضاء سنة من اعمارهم».

وسكت وكأنه يبحث عن فكرة اخرى قبل ان يقول:

«مسرات الحياة الحقيقية لا تحتاج لمواعيد بائسة».

كنت اصغي اليه.. هو هو الرجل القوي الذي هز قلبي ايام شبابنا. مازالت نظرته الجادة تغطي وجهه، ومازال صوته وكلماته.. تخطى السبعين. اصر منذ شبابه على ان لا يصبغ شعره، وهكذا انتشر الشيب، خالط الشعر الاسود، وتوقف في المنتصف.. كم احب سالم؟ لا اتصور حياتي بدونه.

أسمع صوت جرس الباب. سيخرج سالم الان من مكتبه ليستطلع من القادم.

اتمنى ان لا يتضايق.. اسمع اصوات منى واولادها:

«مرحبا بابا».

«مرحبا جدو».

«أهلا اهلا بالحلوين».

الحمدلله، كأنه رحب بهم بصوت فرح.

سأسرع انزل لاستقبال منى وعيالها.

ü ü ü

كان يوما طويلا، والان بدأت ساعات القراءة الكريهة. كنت اتمنى لو انه نسي القراءة الليلة.. فرحت كثيرا حين مر حضور منى وعيالها على خير. ما انتبه سالم ولا تضايق. استقبلهم مرحبا، قبلهم جميعا، راح يلعب مع رنا الصغيرة. وحين قالت منى انها احبت ان تفاجئنا وتأتي لتناول الغداء معنا. رد عليها:

«أهلا بكم في اي وقت».

كدت اطير من فرحي لحظة جاءت عيناي بعيني منى.. حتى على الغداء وافقني على اكل قطعة اللحم كاملة وقليل من الرز.. الحمد لله اكل جيدا اليوم.

سأحاول ان ابقى ساهرة الليلة، لا اريد ان انام وحدي كما في كل ليلة.

كانت الساعة حوالي السابعة والنصف، حين رن جرس الباب وسمعت اصوات بدر وعياله. للوهلة الاولى خفت، توقعت ان يتعارك سالم معي بعد خروجهم، يتهمني كما في كل عام. صعدوا جميعهم لصالة الجلوس، بدر وزوجته وعياله. قفز سالم الصغير واخته سهى يسلمان على جدهم. نظرت لوجه بدر بجزعي لكنه تجاهل خوفي، قال مبررا مجيئهم:

«سالم الصغير طلب ان يرى جده».

وقالت زوجته:

«كنا خارجين للعشاء لكن سالم جاء بنا».

تراءى لي ان سالم ظل بهدوئه، قال:

«ليس اعز من سالم الصغير، هو غير عن الجميع».

اعترضت سهى بقولها:

«لماذا يا جدي، الست انا الاكبر؟».

قبلها قائلا:

«أنت وسالم أحبابي، لكنه مختلف، فهو يحمل اسمي معه دائما».

صرت أكره قراءة الليل. سالم يتناول الكتاب ليدخل ساعات الصمت. سأفتح التلفزيون، ولن ادع الصوت خفيضا الليلة. اريد ان ازعجه، كي ينهض للنوم باكرا.

بدر وزوجته احضرا عشاء، لكن سالم فضل عشاءه المعتاد. وبانتهاء موجز الاخبار نهض منسحبا. قبل سهى وسالم قائلا لكل واحد فيهم:

«تصبح على خير».

وحين مشى قاصدا غرفة نومنا، لحقه سالم الصغير راكضا، وقف امامه قائلا:

«عيد ميلاد سعيد يا جدي».

خفق قلبي. لكن سالم انحنى على الصغير، قال له:

«شكرا يا حبيبي».

وقاده من يده، قبل ان يلتفت إلينا قائلا:

«سأعطيه هدية، وحده تذكر عيد ميلادي».

لا ادري ماذا جرى لي، فاضت دموعي..

«لماذا صوت التلفزيون عاليا».

سالم يلتفت يكلمني. تلتقي نظراتنا، اقول:

«لأن اليوم عيد ميلادك».

«وماذا يعني؟».

«لا اريدك ان تقرأ الليلة».

المح ابتسامة على وجهه فيخفق قلبي. ينهض هو، يدنو مني، يتناول يدي، يقول بحس ضاحك:

«لا قراءة الليلة».



* عن القبس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى