شاذلى جعفر شقاق - ملكوت الفجر الصادق

كان (البلوله) يفرك ظهره بابهامه, ويحركه حول الجراح التى تماثلت للشفاء, تلك آثار السياط التى كان يركز لها فى حفلات الاعراس.
بينما كانت (الخزنه) تلف الكسرة وتضعها على الطبق لتضع بعدئذ عليها الرغيف فى شكل دائرى ,وكانت نظرات البلوله تلتف حول خصر (الخزنه) فى شكل دائرى ايضا,والزغاريد تعبق أجواء الفريق والبخور, لتتعانق عبارات التهانى والترحيب وسط الجموع, وأشلاء القرى المتناثرة تتهافت نحو الفرح بعد أن تجردت من ثياب المشاغل والكفاح اليومى.
انتهى دور الموائد وجاء دور تتويج العريس والغناء والرقص, وقبيل ذلك كانت الخزنه وصديقتيها الحلوتين داخل الحجرة يتزين ويتجملن استعدادا للحفل الساهر وكانت (الخزنه) تروض خصلة شعرها الجامحة على جبينها الوضاء,لانها تعلم أن البلوله اذ يراها يذوب حبا وهياما.وهنالك عندما كان القمر يشرئب خلف سحابة تائهة كان (البلولة) وأصدقاءه الثلاث يحتسون الخمر خلف (طُندُبة ود البشير) فى ذلك الوادى النضير, فهم لا يحتسون الخمر الا عندما يكون هنالك حفل غنائى فى (الفريق),تسلل ضياء القمر من خلال السحابة التائهة ليراقد ذرات الرمال العارية,وفوح المزارع الهاجعة على صدر النيل يُسكر الطقس فيصير فنانا عبقريا.ولا يزالوا يلتفون حول الخمر كسباع يقضمن فريسة حتى يسمعوا صوت المغنى يصدح بالغناء فيتراقصون من مكانهم كما يتراقص الرمل تحت أقدامهم وكذلك أشجار السلم والسيال وكل الدنيا.. ولم يلبثوا أن دخلوا حلقة الرقص حتى خلعوا جلابيبهم وركزوا للعريس ليضربهم بالسوط على ظهورهم ضرب غرائب الابل ويعرف انهم لن يتحركوا ولن يهتزوا بل ربما استخدموا معه لغة التحدى مثل أن يغمز أحدهم بعينه أو يرفع حاجبه الذى تتكىءُ عليه طاقية الحرير على شفا حفرة من السقوط ولكنها لا تسقط . وكان المهرجان يموج فى حلقة راقصة من أول الليل حتى أول الصباح.
فغاب القمر وآب مرة أخرى وأبى الا ان ينشر نوره بين الناس وهو كامل الاستدارة , فى تلك الاثناء كان (البلولة) وابن اخته (عصام)_ الذى جاءهم زائرا لبضعة ايام قادما من أطراف العاصمة القومية _واصدقاء الشقاء الثلاث كانوا يتعاطون الحكايات القديمة ونوادر الطفولة, فما فتىء (عصام) أن حدثهم عن فرص العمل فى بلاد المهجر وعن كونها مبنية على الحظوظ. تذكر عندئذ (البلولة )انه تفدم لخطبة الشهادة السودانية أكثر من مرة ولكنها أعرضت عنه .رغم ذلك فقد ابتلع(البلولة) كأسه على مضض وقال لعصام انى لها, فأنا لم اذكر فى حياتى أن صنارتى عادت بلا سمكة ولا شركى قبض الهواء.
فلم تمض أيام الا وجد (البلولة) نفسه فى بلاد العجم حيث لا الحياة حياة ولا الناس ناس ولا الظروف ظروف, وما أكثر المتاعب التى تعرض لها فى بادىء أمره ولكنه أخيرا استطاع أن يمارس الحياة هناك فحسنت أحواله بعد أن وجد نفسه عامل نظافة فى احدى الشركات الكبرى,فكان كل ما يمسح أثاثات الشركة يمسح غبار الفقر والعدم عن وجه أسرته الكالح,وكلما يحنى ظهره ليغسل أرضية الحمامات كلما ترفع أسرته رأسها وتباهى من حولها,ولعله كان ينفق من عزته ليذل الفقر, فحاول أن يضرب الهم على قفاه بساعات اللهو والمرح فصار يرتاد أحواض السباحة والنوادى والحانات ويقضى ليلة السبت المحمومة مع عشيقته (مادونا) التى رأت فيه رجلا مختلفا عن رجال بلادها لذلك قررت أن تتزوجه ونسى (البلولة) بنت بلده الاصيلة (الخزنة) اثر صدمة الحضارة الغربية التى تعرض لها. ولكنه أفاق منها بعد ان زارت زوجته (مادونا) بلاده .حيث شاهدت لاول مرة فى حياتها المعاناه وتعرفت عليها ,وراودها الشقاء عن نفسها,وضاجعها الحزن فى حضن زوجها,وعضها الأسى فى قلبها,وعرفتمعنى جديدا من معانى الحياة وهو أن يذوب الانسان حتى يعيش انسان آخر, كالطين يُعجن ليصاغ منه طينا جديدا .
لملمت (مادونا) آمالها مع البلولة وألقت بها فى وجه دنياه وخطفت طفلها الوحيد وحلقت به بعيدا فى دنياها التى فيها معاشها.واخذ البلولة يطالع عصفورته وثمرة فؤاده الوحيد حتى تواريا عن ناظريه.فكل احلامه أصبحت سرابا وظل المال أسرع بالتلاشى,وعندها فقط تذكر (الخزنة)وأخذ فكره ينبشها من ركام الزمن الرمادى.تلك الخزنة القديمة التى أودعها أسرار صباه الأولى,تلك الابتسامة الندية التى تلاشت فى تكشيرة الزمن القبيح, تلك الفداية التىكانت تزين قرط الطبيعة الصاغية,تلك الأسورة التى تموسق أقدام سيرتهما النقية, وهل هى الا حبيبته (الخزنة التى تتوسد الثرى ويتوسدها, بعد ان نهشتها نار الغيرة,وشواها هجر الحبيب للحبيب,رحلت الخزنة ومن اكفانها عطر الصبابة ينضح .
اِنكفأ (البلولة)على وجهه وبكى بكى حتى خضب قبر الحبيبه بدمع الحرقة والاسى حين لا يجدى الندم , ويتقلب على جمر الذكرى ويذوب فى بوتقة الحسرة حتى يصير لا شىء.هناك خلف (طُندبة ود البشير) تتهامس الشجيرات وتتعاشر النسيمات ويهيم (البلولة) فى غياهب المجهول حتى كأنه يسمع صوتا يقولانتهى البلولة من حيث بدأ لا غرو فى ذلك انها دوامة الحياة فخذها يا البلولة وضعها (لببا) فىجيد حمار الزمن الاعرج ودعه يجرك فوق شوك الواقع مرتطما بصخور الظروف العتية.
ولكن لا تنسى ان تغسل قلبك فى نيل الطهر والنقاء ثم أغمسه فى بؤرة النور والايمان ثم أطلقه حرا يحلق فى ملكوت الفجر الصادق.

شاذلى جعفر شقاق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى