عبد الرحيم جيران - بين الرصيف والقطار

في الغد، ربما لم يكن بالضرورة ما يلي يومي هذا، رأيتني أقف هنا على الرصيف المبلّط، بكل تأكيد كنت أنا، وإلا فاللوم على بديهة من يرتاب في ذلك، كنت بالفعل هناك، كل المؤشرات الخفية والظاهرة تقول بأنني كنت قد استخلصت تذكرة السفر، ومررت بالباب المفضي إلى الرصيف لأقف فوق أرضيته المبلطة بزليج لا هو بالقمحي ولا البني. لا حاجة ملحة لتأكيد أنني كنت قد جئت قبل موعد انطلاق القطار بعشر دقائق، ساعة المحطة تعلن أنني فعلت غير ذلك، أنقصتْ من ساعتي خمس دقائق. لا يهم، الأهم أنني كنت هنا، كنت هناك، ألبس الأشياء مسحة الانطباع الأخير. واقفا مثل مسرنم كنت أتملى نفسي (كما لم يحدث من قبل، أو كما سيحدث مرارا) راكبا أطل من مقصورتي بالقطار عليَّ، وأنا أقف فوق الرصيف المبلط في هيئة من يأسف لسرعة انقضاء مقام مؤقت. لا يوجد ما ينفي أنني كنت على متن القطار وهو واقف ينتظر لحظة انطلاقه، كنت بالفعل جالسا في الركن ملتصقا تقريبا بزجاج النافذة، ومن خلال الزجاج المغبر قليلا كنت أطل على نفسي، وأنا واقف فوق الرصيف الذي كان زليجه القمحي أو الحليبي مشوَّشَ الذاكرة بفعل وريقات خريف ساقتها الريح من موقع شجيرات تنتصب على مبعدة من السكة، كنت أطل عليّ، بعينين متعبتين من جراء الأرق الذي ألم بي الليلة الفائتة. لم أكن أحلم، وأنا على يقين تام بأنني لم أكن أهلوس، كنت أراني من مقصورتي وأنا على الرصيف المبلط بزليج رُكِّب على عجل، وقد بدأت بعض قطرات المطر تتقافز فوقه. هذه المرة لم أرني هناك مثل مسرنم أقف وحيدا بحذائي الذي كان لونه يكاد يغيب بفعل شبهه بلون الزليج، بل رأيتني أحادث رجلا غريبا في أمر ما، لم تسنح لي قدرتي على التقاط التفاصيل بإعطاء الرجل الذي كان يحادثني هيئة محددة، كان يشبه أي رجل غريب، لكنني أستطيع الجزم بأنه كان يسألني عن وجهة القطار، كنت أتملى المشهد من وراء زجاج نافذة المقصورة الذي لم يعد مغبرا كله، وإنما صار- بفعل خيوط المطر- مثل وجه مرّ عليه شيء ما حاد فترك فيه آثارا، بدا لي وكأنني لم أفهم – وأنا على الرصيف المبلط حديثا- ما قاله الرجل الغريب، لا، لقد فهمت ما قاله، كان يسأل عن وجهة القطار، بيد أنني لم أفهم ما قاله تعليقا على حيرتي في إرشاده، استدارة شفتيه في هيئة صفر تقول إنه قال "أُف"، لكن هذا مجرد تخمين، لا أقل ولا أكثر. كان عليّ-إذن - ألا أكون مسرفا في أمل خائب، في ألّا يكون الناس (ومن ضمنهم الرجل الذي حادثني على الرصيف) مثلي قد بلبلتهم الجهة التي يقصدونها. كنت ما زلت أطل عليّ من المقصورة، بعينين لا تقولان شيئا، وأنا واقف فوق الرصيف المبلط الذي بدت زليجاته مرتعشة بفعل قطرات مطر شاردة، لن تنبت فوقه (بكل يقين المجانين) سوى لطخات أقدام متبعة، لا زهرا، أو ما شابه ذلك. كنت أراني أتملى الرجل الغريب الذي لم تستقر ملامحه في ذهني على نحو متكمل، وهو يتجه صوب كرسي طولي جنب حائط المحطة الداخلي، لم أكن معنيا وهو يفعل ذلك بفهم ما تفوه به بعد أن أخبرته بعدم معرفتي بالجهة التي يتوجه نحوها القطار، لقد كان كافيا بالنسبة إليّ أن أدرج ما تلفظ به في خانة الحسرة. ربما كان أيضا كل اهتمامي بالرجل الغريب- وأنا أستعجل انطلاق القطار حيث لا أعلم- مجرد انشغال أتلافى به وضعي المضطرب. بدوت- وأنا فوق الرصيف الذي لم تعد قطرات المطر تتقافز فوقه- ضجرا من وجودي وحيدا في مقصورة نافذتها الزجاجية لم تكن مغبرة فقط، وبها أثر خدوش طولية، بل كانت أيضا مواجهة للرصيف تكشف نظراتي القلقة للجميع، وتفضحني بطريقة فجة، بينما كنت أحاول أن أخفيني ما أمكن عن العيون، حتى عن نفسي. كنت أعلم أنني لم أقرر السفر بمحض إرادتي، بل كنت مرغما على فعل ذلك، لم يكن لي خيار آخر، لا يمكنك الإصرار على العيش في مكان يلفظك، مكان يُبدِّل المقيم فيه بغيره، ويقول لك: "لم يعد مرغوبا فيك، تبدو مثل آثم". وكان عليَّ أن احمل إثمي معي وأرحل. إلى أين؟ هذا ما كنت غير قادر على التكهن به، بل التفكير فيه. أمكنة كثيرة ترد في ذهني، بيد أن الحسم كان ينقصني، أو قل لم أكن متأكدا من ملاءمة أحدها لاستضافتي. كنت ما زلت هناك فوق الرصيف بينما أنا محشور في مقصورة قطار (يأبى أن يتحرك) زجاجُ نافذتها بدأ يعرف تشوُّشا من جراء الخيوط التي رسمتها قطرات مطر خريفي عليه. لم يكن لدي أي أمل في أن أعود من رحلتي هذه، ربما سيكون سفري هذا أبديا، لكن ما كان يؤلمني حقا هو أنني كنت أجهل الوجهة التي أقصدها. من دون شك سيتوقف القطار الذي أنا على متنه الآن عند محطة نهائية، بعد أن يكون قد مر بمحطات أخرى، لكن المحطة التي أقصدها أنا لم تكن واضحة لي، أو كانت واضحة فيما سبق، لكنها لم تعد الآن كذلك، حيرتي هذه تكشفت لي عارية من عدم قدرتي على إرشاد الرجل الغريب التائه الذي سألني بعد قليل عما هي وجهة القطار الذي يقف مثل حية أمامي، بينما كنت (أنا الذي ما زال يطل من وراء زجاج نافذة المقصورة) غير متأكد أيضا من وجهتي حتى أساعدني على إرشاد الرجل الغريب، ما كنت متيقنا منه فقط، هو أن القطار لم يتحرك بعد على الرغم من حلول موعد انطلاقه، وأنني ما زلت واقفا هناك على الرصيف أرقبني قلقا داخل المقصورة.

باريس 16- 10 - 2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى