رسائل الأدباء : رسالة من الدكتور زكي مبارك إلى الدكتور طه حسين بك

بتاريخ: 12 - 02 - 1940



إلى الدكتور طه حسين بك
أيها الأستاذ الجليل:

تلطفت فأوصيتني بكتمان الحديث الذي دار بيني وبينك في حضرة (الصديق العظيم) الذي يحل وداده من قلبي وقلبك أعز مكان، وأنا أستطيع النص على اسم ذلك (الصديق العظيم) بلا تهيب لعواقب العتاب، لأن للحديث الذي جرى بين وبينك في حضرته صلة وثيقة بأصول المذاهب الأدبية التي يشتجر حولها الخلاف في كثير من الأحايين. فإن قلت أن هذا (الصديق العظيم) خلع على ذلك الحديث حلة من الدعابة التي نشهد بما يملك من عذوبة الروح، وأنه قد يكره أن يشار إلى اسمه في مجال الدعابة والظرف، فإني أجيب بأن ذلك (الصديق العظيم) أرحب صدراً مما تظن، وهو أكبر من أن يرى أن جلال المنصب يمنع من التندر الجميل.

لا خوف من النص على اسم ذلك الصديق، ولكني سأعمل بوصيتك ليصح لي القول بأني لا أتمرد عليك في كل وقت، وليصح لك الظن بأني اقدر على مراعاة الظروف حين أشاء.

ثم ماذا؟

ثم أستطيع لنفسي التحدث عن بعض ما شجر بيني وبينك. ويظهر أن المقادير لا تريد أن أسكت عنك أو تسكت عني، وفي ذلك الخير كل الخير لو تعرف وأعرف. وهل ارتفع العقل إلا بفضل الخلاف؟ وهل يتصور الناس وجوداً للحيوية التشريعية لو لم يثر الخلاف بين الشافعية والحنفية؟ وهل تأصلت مشكلات النحو والصرف إلا بفضل الجدال بين البصريين والكوفيين؟ وهل تفوق العقل المصري في العصر الحديث إلا بسبب النزاع حول القديم والجديد، والصراع حول المذاهب الاجتماعية والأحزاب السياسية؟

أن الخلاف نعمة عظيمة جدا، ويا ويلنا إذا لم نختلف فكيف تريد أن أكون صديقاً ظريفاً لا تسمع منه غير الكلام المعسول؟

وهل قل الظرفاء من أصدقائك حتى تطالبني بما تعجز عنه سجيتي؟

إن (بداوة الطبع) التي كثر الكلام في ذمها وتجريحها لم تكن من المثالب إلا في كلام الشعوبية، وهم قوم أرادوا الغض من الشمائل العربية، ولولا ذلك الهجوم الأثيم لبقيت م المحامد، فكيف تنكر على رجل مثلي أن يظل بدوي الطبع في زمن توارت فيه الصراحة وكثر فيه تنميق الأحاديث؟

لابد من خلاف بيني وبينك لتجد الأبحاث الأدبية والفلسفية وقوداً يحيا به اللهب المقدس في حياة العقل والوجدان.

فإن ضاق صدرك بهذه الحقيقة واكتفيت بمحاورة الرجل اللطيف الذي يقول أن الصحراء تشكو الظمأ وأن البحر يشكو الري وأن الخير في امتزاج البحر بالصحراء. إن كان ذلك ما يرضيك فشرق في محاورته وغرب كيف شئت وكيف شاء.

ولكن ما رأيك فيمن يصارحك بأن الحيوية لن تشيع في أبحاثك إلا إذا حاورت (الرجل الذي لا يخلو إلى قلمه إلا وفي رأسه عفريت)؟

تلك كلمتك، يا سيدي الدكتور، وأنا عنها راض وبها مختال؟

فما هو العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي؟

أيكون هو الجن الذي سماه الفرنسيون

إن كان ذلك فأنت تشهد لي بالعبقرية، والقول ما قال طه حسين وهل تكون العبقرية إلا من نصيب من يخاصم رجلاً مثلك في سبيل الحق؟

وما هي المنفعة التي أرجوها من مخاصمتك وأنت رجل يضر وينفع؟

ما هي المنفعة التي أجنيها من مخاصمتك وقد صاحبتك عشر سنين كانت أطيب الأوقات في حياتي؟

يظهر انك لا تعلم انك على جانب عظيم من الجاذبية وأن الرجل العاقل لا يترك مودتك وهو طائع

فما سبب الخصومة بيني وبينك؟

إليك أقباساً من البيان:

منذ أكثر من سبعة أعوام ألقيت محاضرة في الجامعة الأمريكية عن البحتري سجلتها جريدة كوكب الشرق، وشاء (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) أن أنشر في جريدة البلاغ مقالاً عنوانه.

(الدكتور طه حسين يغلط خمس مرات فقط في محاضرة واحدة) ثم لقيتني بعد ذلك في الجامعة الأمريكية وجادلتني في تلك الأغلاط فأعلنت أني أخطأت، وكان ذلك لأن الجمهور أحاط بنا من كل جانب ليرى كيف أدفع هجومك، وما كان يجوز لي أن أصنع غير الذي صنعت، لأن أدبي لا يسمح لي بمصاولتك أمام الناس، ولان وجهك يشفع لك، فهو وجه لا يلقاه الرجل الحر بغير الإعزاز والتبجيل.

فما الذي صنعت أنت في تصحيح الأغلاط التي أخذتها عليك؟

مضيت فنشرت محاضرتك عن البحتري في كتابك: (حديث النثر والشعر)، وأبقيت تلك الأغلاط، أستغفر الله، بل (تفضلت) فشكلت الكلمات المغلوطة لتقول: إنك لا تعبأ بأي نقد يوجه إليك!!

فما الذي كان يمنع من تدارك تلك الأغلاط؟ وما الذي كان يمنع من شرح رأيك في الهامش إن كنت تؤمن بأني لم أكن على حق؟؟

ثم ماذا؟

ثم حدث في صيف سنة 1929 أن أنكرت على أن أتخذ شواهد لتطور (النثر الفني) من رسائل عبد الحميد بن يحيى. وقلت: إن عبد الحميد بن يحيى شخصية خرافية كشخصية امرئ القيس! وكان ذلك بمسمع من شابين واعيين هما: محمد مندور وعلي حافظ. وكانت حجتك أن عبد الحميد بن يحيى لم يرد اسمه في مؤلفات الجاحظ، فرجعت إليك بعد أيام وأخبرتك أن الجاحظ تكلم عن عبد الحميد بن يحيى مرات كثيرة، وإن مؤلفات الجاحظ تعرف رجلين: أحدهما عبد الحميد الأكبر والثاني عبد الحميد الأصغر، فلم تجب بحرف واحد. ثم ألقيت وأنا في باريس محاضرة قلت فيها: إن عبد الحميد بن يحيى أخذ أشياء من أدب اليونان؛ وفاتك أن تنص على اسم الرجل الذي أقنعك بأنه لم يكن شخصية خرافية.

وقد حملني (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) على أن أسجل هذه القضية في أحد هوامش كتاب النثر الفني، فكانت فرصة اغتنمها صديقك الأستاذ أحمد أمين ليقول في مقال كتبه في مجلة الرسالة: إن زكي مبارك يعوزه الذوق في بعض الأحيان!!

ثم ماذا؟

ثم كانت لك يد مؤثرة في شؤون الدراسة الثانوية بحجة أنها تمهيد للدراسة الجامعية، وكان من أثر ذلك أن فرضت على طلبة السنة الخامسة بالمدارس الثانوية كتاباً في نقد النثر لقدامة بن جعفر لا يفهمه المدرسون إلا بعناء فضلاً عن التلاميذ.

وأقول بصراحة إني لم أفلح في حمل المفتشين على مقاومتك، فبرزت لك بنفسي في مقال نشرته بمجلة الرسالة، فهل استجبت لصوت الحق وأعفيت التلاميذ من كتاب تقوم تعاريفه على منطق أرسططالس وهم يجهلونه كل الجهل؟

أنت عزيز علينا يا سيدي الدكتور، لأنك رجل شهم، ولكن ما رأيك في أغلاطك؟ ومن يدلك عليها إذا سكت عنك؟

هل تذكر كلمة (الصديق العظيم) منذ أيام حين قال لك وهو يبتسم: كيف صيرتم زكي مبارك دكتوراً وهو رجلٌ مشاغب؟

أنت تذكر ذلك ولا ريب، ولكنك تعرف أني لم أنل ألقاب الجامعة المصرية بلا جهاد، وأنت نفسك أسقطتني في امتحان الليسانس مرتين، واشتركت في امتحان الدكتوراه الذي أديته أول مرة مع انك لم تكن عضواً في لجنة الامتحان، وكان لخصومتك الصورية تأثير في الدكتوراه التي ظفرت بها للمرة الثالثة فلم أصل إليها إلا بعد جهاد سبع سنين.

فما فضلك علي أن لم يكن فضل المؤدب الحصيف؟

هل تذكر يا دكتور ما وقع في نوفمبر سنة 1919؟

هل تذكر ما وقع يوم غاب سكرتيرك وكنت وحدي الطالب الذي يفهم العبارة الفرنسية لكتاب نظام الآتينيين لأرسططاليس؟

وهل تذكر انك أعلنت سرورك بأن يكون في طلبة الجامعة المصرية من يفهم أسرار اللغة الفرنسية؟

فمن يبلغك أن الشاب الذي أدخل السرور على قلبك في سنة 1919 هو الكهل الذي تنكره في سنة 1940؟

أنا أعرف ما تكره مني. أنت تكره مني الكبرياء، وكيف أتواضع وقد أعانني الله على بناء نفسي؟ كيف وقد أقمت الدليل على أن الشباب المصري خليق بعظمة الاعتماد على النفس؟ وهل رأيت رجلاً قبلي أتم دراسته في أوربا وهو مثقل بتكاليف الأهل والأبناء؟ هل رأيت رجلاً قبلي يهتف بأوطار الشباب وهو مثخن بجراح الزمان بعد الأربعين؟ هل رأيت رجلاً قبلي يؤلف الكتب الجيدة في البواخر والقطارات والسيارات؟ ومن يصدق أني أنفق في سبيل الورق والمداد أضعاف ما ينفق بعض الناس في سبيل الطعام والشراب؟

إن الدكتور هـ من ذخائرنا الأدبية، ويجب أن يعيش، ونحن سناده في الخطأ والصواب رعاية لمركزه في الجامعة وفي وزارة المعارف، وهو خليقٌ بمركزه في الجامعة وفي وزارة المعارف أيها الأستاذ الجليل:

في صدري أشياء وشؤون وشجون، فمتى أنفض همومي بين يديك وقد رأيت الشيب يشتعل في شعرك الجميل؟

متى نلتقي أيها الأستاذ الجليل لتصفية الحساب؟

إن (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) لا يحضر حين ألقاك، لأني لا أرى وجهك إلا تذكرت أني أحببتك إلى حد العشق.

فمتى نلتقي وحولك أرصاد يؤذيهم أن أصل إلى قلبك الرفيق؟

وهل أجهل أو تجهل أن في الدنيا ناساً عاشوا بإفساد ما بيني وبينك؟ الله وحده يشهد أني لم أخاصمك إلا في سبيل الحق.

والله وحده يشهد أني لم أقل فيك غير ما استبحت نشره في الجرائد والمجلات. ومن ذلك تعرف أن (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) لم يكن عفريتاً لئيماً، وإنما هو عفريت تلميذك وزميلك وصديقك:

زكي مبارك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى