عبد الرحيم التوراني - حكاية عن القتل من غير سبب

في تلك الليلة الباردة من ليالي الشتاء، كان الظلام حالكا، سمعت طرقا خفيفا على الباب. رفعت عن رأسي الغطاء، أنرت ضوء الأباجورة الأزرق، لأسمع ارتطام جسم ثقيل. قلت في سري أطمئن النفس:
– لعله آت من عند الجيران.. يا لهم من بدو مزعجين.
عدت إلى النوم. مواء قطط ونباح كلاب في الخارج. أزحت عني الغطاء كاملا. مر وقت وأنا جالس. متوجسا مما يحدث. أطفأت النور، ثم أشعلته من جديد. عيناي ملتصقتان بالسقف. أغالب اضطرابي وخوفي.
إنه وقع أحذية ثقيلة فوق السطح.
– ماذا يمكن أن يسرقه اللصوص مني… وأين ذهب الحارس، تبا له… الكلب النؤوم؟
هرعت إلى الباب، أحكمت إغلاقه، وإلى المطبخ أتسلح بأكبر سكين.
– ليس لديهم ما يسرقون مني غير روحي.
كيف نسيت أني معارض مشاكس، الظلاميون. ها هم يأتون في الظلام…

– الجبناء. القتلة…
وحدها العلبة الصوتية من استقبلت المكالمات التي استنجدتُ بأصحابها. الجميع نيام. فكرت في الصراخ. صرخت بأعلى صوت:
– أنقذوني. اللصوص بالباب…
ارتد إلي الصدى:
– نعم نحن بالباب.. افتح يا…. لن نؤذيك. سنقتلك فقط …
انصعت للأمر مثل غبي بليد…
– طيب، ما دام الأمر كذلك سأفتح.
فتحت الباب على مصراعيه، لطمت وجهي ريح الشتاء القوية. أفقت من كابوسي.
كان الصمت والظلام.
أقفلت الباب. أطفأت النور. كل ذلك تم بعنف زائد. عدت إلى فراشي منزعجا أنتظر قدوم الصباح.
في الغد قرأت في الجريدة خبر مقتل جاري البدين، موظف البلدية. كانت صورته مضرجا في دمائه تملأ الصفحة الأولى، لكنهم أخطأوا في ذكر اسمه ولقبه.
كتبوا تحت الصورة: “الضحية عبدي عبداوي”، بينما اسم المغتال هو عبود عابدين.
أنا عبدي عبداوي.
كنت بصدد ارتكاب حماقة كبيرة، حينما فكرت في الذهاب لمكاتب الجريدة من أجل تنبيههم للغلط الفادح. تراجعت عند أول الشارع وكتمت السر حتى عني.
مشيت في جنازة المغدور، كأني أمشي وراء جنازتي. كان أهله من حولي يبكون، ففعلت مثلهم. بكيت.
قررت أن انتحل اسم البدين المغتال لأحيا. ما دام هو انتحل اسمي ليموت.
غيرت سكني وعاداتي ونسيت موضوع القتلة. لكني كنت أحسني أحيانا مجرد ظل يتحرك، بلا روح. دربت نفسي بيسر على الانسجام مع هويتي الجديدة.
ستمر أشهر قليلة حين سيتكرر الطرق الخفيف وصوت الارتطام ومواء القطط ونباح الكلاب، ووقع الأحذية الثقيلة فوق السطح. أعدت إنتاج الأفعال والحركات ذاتها، من إزاحة الغطاء وإنارة الأباجورة الزرقاء. حتى وصلت إلى لطمة الريح الشتوية القوية وانتظاري لقدوم الصباح.
عندما فتحت الجريدة في الصباح الموالي لم أجد على صدرها صورة جاري الجديد، النقابي المرتشي، بل سأفاجأ بصورة قتيل يشبهني، سائح إيطالي، قد يكون ذهب ضحية صراعات المافيا. لم يذكروا اسمه ولا أية تفاصيل عنه. قالوا إن التحريات جارية على قدم وساق من طرف الجهات الأمنية.
غيرت العنوان من جديد، اكتريت بيتا في الجانب الآخر من المدينة. لكن صور الضحايا ستتناسل، كل أسبوع تقريبا يتكرر السيناريو السابق نفسه، وتخرج جرائد الصباح الموالي بصور لضحايا جدد. ومن عجائب الصدف أن أغلبهم يشبهونني، على الأقل في ملامحي الكبرى.
قررت إعفاء لحيتي، كنت أسعى جادا إلى اكتساب وجه مغاير لأضلل من يطاردونني، لكن صور القتلى الجدد كانت لضحايا ملتحين. ثم عمدت إلى حلق شعر الرأس بالكامل. كان ذلك من غير جدوى. القتيل الجديد كان أيضا من حليقي الرؤوس، رسمت شامة على وجهي فجاء قتيل وعلى وجهه شامتي المزيفة. كدت أجن، أو قل إني جننت حقا. صرت أكلم نفسي بصوت مسموع وأمشي حافيا في الشارع غير مهتم بهندامي ولا بما سيقوله الآخرون عني. ماذا يضير الأحمق المجنون إن ناديته بالأحمق وبالمجنون…؟
لكني واظبت على متابعة أخبار القتل والجرائم. اختلطت علي الأمور. مرة يضعون صورة رئيس الوزراء بشامة على الوجه، ومرات بدونها. أحيانا ينشرون صور أشخاص من ضحايا الحروب والزلازل والفيضانات وانفجار البراكين وحوادث السير والانتفاضات الاحتجاجية، فلا ينتبه أحد غيري للشبه الشديد بين جميع هؤلاء الضحايا وبيني. في كل يوم أكون قتيلا معلنا، لكني أصر على عدم الاعتراف بمقتلي، ما زلت آكل الطعام وأمشي في الأسواق وأقرأ الصحف، بل أكثر من كل ذلك ما زلت أحسن التخفي فلا يصل إلي المطاردون.
أربكتني الأسئلة وأقلقتني. إلى أن أتى يوم سأكتشف فيه أني شخص لا مرئي. نعم لا مرئي. لا أحد بإمكانه أن يلمسني أو يراني. من هنا عدم دفعي لثمن فنجان القهوة وحساب السجائر، وعدم أداء ما علي من مستحقات، ومن بينها واجب كراء الشقة التي أقيم فيها من غير حدوث أدنى مشكلة. لم أصدق اكتشافي الكبير هذا، فنزلت إلى الشارع عاريا كما وضعتني أمي. كنت أتجول من دون إثارة انتباه المارة. أذكر أني وصلت إلى مبنى البرلمان وتبولت على عتبته، ودخلت القاعة الكبرى وبصقت على النواب جميعهم وخرجت. ثم فوجئت بي أمام مقر الحكومة. كان الحرس والجند يحيطون بالبوابة والأسوار، والسادة الوزراء ينزلون من السيارات الفارهة للدخول. وقفت أمام الباب المقوس ومنحت صفعة لكل واحد منهم. كانوا يمسحون خدودهم في ذهول واستغراب. قال أشطرهم إن هذه الصفعة اللافحة المجهولة المصدر لنذير شؤم علينا، لن يكتمل نهار اليوم حتى نسمع خبر إقالتنا في التلفزيون. ثم تضاحكوا ناسين حرارة الصفعة.
عند المساء جريت إلى مبنى التلفزيون وأذعت الخبر الرئيسي العاجل:
– إقالة الحكومة استجابة لمطلب الجماهير.
خرجت الجماهير بالآلاف إلى الشوارع مهتاجة مبتهجة بالنصر. ولم يكن أمام رئيس الدولة إلا الامتثال للجماهير، عندما أذاع على الشعب خطابا وجدانيا مضمونه أن لا قرار إلا قرار الجماهير، ولا شيء يعلو على مطالبها الثورية.
أعجبتني الفكرة. يا لها من تسلية جميلة…
تماديت في اتخاذ قرارات ثورية في صالح الجماهير، لتخرج إلى الشوارع في كل المدن والقرى مبتهجة هائجة بانتصاراتها. ومن بين القرارات الثورية التي أقدمت عليها، تخفيض الأسعار ومجانية الصحة والتعليم، ومحاكمة عدد كبير من الفاسدين ولصوص المال العام.
مضت الأمور مثل لعبة مسلية وأكثر.
وجاء اليوم الذي كبر فيه طموحي، لم يتأخر كثيرا. فأعلنت عن انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، وكنت من بين أول المرشحين. لكن التوقعات كلها ذهبت للرئيس المنتهية ولايته، الثعلب الماكر حصد كل إنجازاتي ونسبها إلى نفسه.
لم أهتد إلى وسيلة تنفع ليعلم الناس أني بطلهم الذي حقق آمالهم، غير سبيل تزوير النتائج، كان أمرا سهلا بالنسبة إلي.
وطلعت النتائج وفق ما أردته. وساعة أداء القسم وتنصيبي رئيسا للبلاد، سيشاهدني العالم على الشاشات، عاريا كما سقطت من بطن أمي أول مرة. لقد نسيت ارتداء ملابسي الرسمية.
لما انتبهت، برقت في ذهني فكرة إلقاء خطاب أبرر فيه عريي.
قلت من بين ما قلته:
“أيتها الجماهير العزيزة.. أيها الشعب العظيم.. ها أنا أمامكم عاريا، كما وضعتني أمي. لا أملك غير حبكم ورضاكم وأصواتكم التي رفعتني إلى هذا المنصب السامي. إن الخالق عندما خلق أبانا آدم لم يستره ببذلة وربطة عنق. لذلك أطلب منكم انتظاري في الأيام المقبلة أن أعرض عليكم تفاصيل نظريتي في الحكم والسياسة والاقتصاد، وهي نظرية “الاستقواء بالشفافية” بها سننهض لنقود العالم أجمع. لقد انتهى عهد الأمريكان والصهاينة الأنذال. حان وقتنا لنحكم العالم ونعيد الأمجاد”…
قوبل الخطاب بالترحيب والاهتمام الكبيرين، خصوصا من قبل وسائل الإعلام، مئات المقالات نشرت حول ” نظرية الاستقواء بالشفافية”، بل وتوصل الديوان الرئاسي بكتب ومؤلفات وأبحاث ودراسات أكاديمية جديدة، لمنظرين يستعرضون عضلاتهم في النظرية الجديدة. وهو ما دفع المستشارين إلى اقتراح تنظيم مؤتمر دولي حول النظرية غير المسبوقة.
لكن معارضة قوية وعنيفة اندلعت فجأة في الشارع، ضد شخصي وضد أسلوبي في الحكم، وانتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي حملات مغرضة، سيل من الاستهزاء والسخرية من نظريتي. بل تحالفت عدة منظمات حقوقية ونقابية وسياسية وغيرها، في حلف عريض يطعن في نتيجة فوزي بالمقعد الرئاسي.
لم يترك لي العسكر مهلة التفكير في إيجاد حل لورطتي، إذ ألفيت نفسي بين ليلة وضحاها في قبضة جنود مخدرين، مساقا إلى زنزانة انفرادية خارج القصر الرئاسي. إنه انقلاب واضح ضد الشرعية. حاولت استخدام معجزتي السحرية لكن من دون نفع. حاولت الهرب فتم إحباط محاولتي بسهولة. ولم أفهم خروج الجماهير إلى الشوارع بهتافات وشعارات مناوئة لي.
يا للغبن.
وصدر الحكم بإعدامي من دون محاكمة.
في فجر يوم بارد تم اقتيادي لمكان قرب ساحل البحر، وشاهدت العساكر حليقي الرؤوس يستعدون لإفراغ رصاص بنادقهم في جسدي النحيل، ثم أحسست بالطلقة الأولى في صدري مثل طرق خفيف على الباب، وسمعت ارتطام جسمي على الأرض، تلا ذلك وقع أحذية عسكرية، ومواء ونباح. أشعلت ضوء الأباجورة الأزرق، فتحت الباب على مصراعيه، فوجئت بشخص يشبهني يمد ذراعيه لمعانقتي. كنت كنائم أقف أمامه.
بعد لحظات لم أحسبها سألت شبيهي:
– من أنت؟
استنكر الشخص سؤالي، رد علي ساخرا:
– أما زلت تدمن على تدخين الحشيش يا ابن أمي وأبي.. وتسكر…!!؟
تفرست في وجه الساخر جيدا، إنه شقيقي، أو هو يشبه شقيقي. لم نتقابل من سنوات. كان مهاجرا ببلد في الشرق البعيد. سألته عن أحوال البلد الذي جاء منه، حكى لي عن انقلاب عسكري وعن إعدام الرئيس المنتخب، وزاد أن القتل أصبح هو العملة الرائجة هنالك، متأسفا على الإطاحة بالرئيس رغم جشعه واحتياله.
وضعت لفافة بين شفتي من دون أن أشعلها. ونظرت من النافذة نافثا الهواء، كان المارة يمضون إلى حال سبيلهم، لكنهم لم يتوقفوا عن التشبه بملامحي. تماما كما الشخص الواقف أمامي. يقول إنه شقيقي التوأم، وأنا أقول إنه يشبه أول قتيل في هذه الحكاية التي رويتها لكم من غير مناسبة ومن دون سبب.




* عن ثقافات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى