محمد محضار - صحراء الحاضر

· جالسا في باحة المقهى ،ساهما ،أفكر في أشياء حدثت ذات زمن ،أحفر بهدوء في تعاريج الذاكرة،لاأعير اهتماما لما يجري ويدور حولي ،الذاكرة تشدني ،تدفع بي إلى مدارات تقود إلى زمن عميق وأماكن كانت تضج بالحب والحياة ،أرشتف فنجان قهوتي ،أمارس حقي في العيش خارج نطاق المألوف والروتيني الحامل للسعات الملل .

فجأة أقوم من مكاني ،ثم أنطلق مهرولا،أجد نفسي في طريق طويل محفوف بأشجار الصنوبر،تحت رذاذ المطر أسير دون معرفة مسبقة بوجهتي ،أُحسّني غريبا، لكنني حقيقيّ ،لا يهم المسار أو الوجهة ،مادمت راضيا وراغبا في الخروج من زيف الأشياء التي تحاصرني .

الطريق طويل ومتعرج،وأنا أسير ،إحساسي يتحكم في خريطة طريقي ،ومشاعري ترسم لخطوي المسار،عقلي يسألني :"إلى أين أنت ذاهب أيها الغريب ؟" ،لا يسعفني الجواب ، لأنني كنت فاقدا للقدرة على فهم ما يقع ،الماضي يناديني ،يقتلعني من صحراء الحاضر اللئيم،وينفخ الروح في شخصيات ووجوه طواها النسيان .

"أيها الغريب ،لا أحد يهتم لأمرك أو يحس بعمق مأساتك ،وجوه الحاضر تصنع لحظة ألمك وتدفع بك إلى زنزنة الضياع"

أرفع رأسي إلى الأعلى،الظلام بدأ ينشر قلاعه،لكن القمر يطل بدرا،مضيئا الطريق ،عقلي يستسلم لإحساسي ،فأعبر بوابة الذاكرة ،يحتضنني الحي الوديع ، والشارع الحالم ،يضمني الزقاق الأليف وبيتنا العامر،تقبل أمي بابتسامتها الحانية،ويطل أبي بوجهه المشرق،تبتسم الحياة ويصنع أحبة الأمس بارقة الفرح ،أندفع إلى أحضانهم ،أشارك في مهرجان الشوق ،تقول امي :"مائدة الأكل تنتظركم أحبتي سنأكل جميعا طجينا من لحم الضأن بالقوق والجلبان ، طبخته على نارهادئة".

تحت شجرة المشمش الباسقة التي تتوسط باحة بيتنا ، نتحلق حول المائدة، يُسمّي والدي الله .نردد بعده جميعا بصوت واحد: "بإسم الله" ثم نبدأفي الأكل ،تهتف صغرى أخواتي :"تسلم يداك ياأمي ،أكلك دائما لا مثيل "

تقول أمي وهي تحدق بي :"كل يا حبيبي ،كُل فأنا اعرف أنها أكلتك المفضلة".

اكتفي بتحريك رأسي،فقد كنت أعلم أن التعبيردائما يخونني في حضرتها، ودموعي تسبق كلامي .

"أه أمي ،ليلي صار بلاقمر،وزمني أصبح ممنوعا من الصرف،أيامي غدت بلا طعم ،وحياتي فقدت النكهة والمعنى"

ننتهي من الأكل ،تأتي أختي بالطَّست ،نغسل أيدينا،ثم تقبل أمي حاملة كؤوس القهوة المنسّمة بالقرفة،توزعها علينا ،

أرتشف قهوتي مستلذا، أغمض عينيَّ منتشيا،أحسّنِي سعيدا،تداعب وجهي فجأة نسمة هواء عابرة فأفتح عيني ، كنت أمسك كأس القهوة ، وأنا جالس بمكاني بباحة المقهى .
.


محمد محضار أبريل 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى