علي حسين - دعونا نتفلسف.. حيث ينبغي أن ينتظر هيدجر، كبقية الناس خطب الفو هرر (18)

في الخامسة عشرة من عمره وقع بصره على مقالة في مجلة " البلاغ الأسبوعي " عن نيتشه بقلم عباس محمود العقاد، كانت هذه المرة الاولى التي يُسمع فيها باسم هذا الفيلسوف الالماني، لم تثـر المقالة في نفسه أية حماسة لطلب المزيد، لكنه بعد أسابيع توقف عند مقالات كان ينشرها طه حسين في مجلة الهلال جُمعت فيما بعد في كتاب بعنوان " قادة الفكر"، إلا ان البداية الحقيقية لعبدالرحمن بدوي مع الفلسفة، كانت عندما أهدى اليه أحد أقاربه كتاب " مبادىء الفلسفة " الذي ترجمه الى العربية أحمد أمين، كان آنذاك قد بلغ السادسة عشرة من عمره.



من الوزارة إلى الفلسفة
في القاهرة المدينة الضاجة بالحياة التي جاء اليها من إحدى قرى الصعيد، هارباً من والده الثري الذي أراد للأبن ان يدخل كلية الحقوق، لأنها تخرج وزراء، ولأن الكتب " لحست " عقله كما كان يردد الأب غاضباً، فقد قرر ان يعتمد على نفسه، فقدم اوراقه لكلية الآداب ومعها توصية من طه حسين لأعفائه من رسوم الجامعة، التي قرر الوالد ان يحرمه منها. في القاهرة اكتشف ان وظيفته الأهم ان يصبح فيلسوفاً، لم يكن سوى شخص بدين يصفه أنيس منصور وقد درس الفلسفة على يديه:" أسمر اللون، كبير الرأس، أصلع قليلا وكانت له عينان سوداوان لامعتان، وكانت له شفتان مزمومتان دائماً، وكان يرتدي بدلة زرقاء، وكانت ألوان دفاتره زرقاء ايضا، وعندما زرته في بيته، وجدته يضع تمثالاً نصفياً لصاحب كتاب تدهور الغرب شبلنجر، الذي كان يرى ان اللون الازرق هو أرقى الألوان جميعها، كان في الجامعة يمشي على عجل، لا ينظر الى أحد، ليس اجتماعيا، لا أحد يقترب منه، وكان يقول لنا ان فيلسوفه المفضّل هيدجر اعتزل الناس وسكن الجبال، وتغطى بالسحاب، وقد اسماه فيلسوف القمم الباردة والعظمة المنعزلة ".
ولِدَ عبدالرحمن بدوي عام 1917، وكان الخامس عشر بين إخوة وأخوات بلغوا الواحد والعشرين، كانت عائلته متجذرة في المجتمع الريفي، ولهذا اصبح لديه فيما بعد احساس قوي بانتمائه لإصوله الفلاحية، وقد ترسخ هذا الاحساس بعد ان تعمق في دراسة حياة الفيلسوف الالماني هيدجر الذي كان يظهر لنفسه دائما كشخص ريفي قروي، غير سعيد بثقافة المدن الكبيرة.
وفي سيرة حياته التي نشرها قبل وفاته بعامين عام 2000 يخبرنا بدوي عن جذوره الفلسفية فيقول: " العقاد حرث لي الارض، وطه حسين بذرها، والفلاسفة الالمان قد هذّبوها ".
أمضى أيامه الأخيرة في احد فنادق باريس، محاطاً بكتبه وأوراقه وغضبه من الجميع الذين لم يسلموا من مذكراته الثأرية " سيرة حياتي "، في كانون الثاني من عام 2002 سقط مغشياً عليه في أحد شوارع باريس وفي المستشفى طلب من الاطباء الاتصال بالسفارة المصرية لإبلاغها ان فيلسوف مصر في غرفة الطوارىء، عاد الى القاهرة محمولاً على نقالة، ليموت بعد اربعة اشهر عن 85 عاماً.
*****
أن نغرق أو نسبح
كان يسير دائما خلف استاذه ومعلمه الخاص " إدموند هوسرل "، كان الاستاذ مغرماً بارتداء البدلات الأنيقة مع قبعة لم تفارق رأسه حتى داخل قاعة الدرس، فيما التلميذ المخلص لم يستطع التأقلم مع جو المدينة، فنراه متمسكا بزيه الفلاحي، بدلة زرقاء داكنة، مع حذاء جلد سميك، كان الطلبة والاساتذة ينظرون الى الطالب القصير القائمة، الكبير الرأس، على انه مجرد فلاح مغرور لكنه كان يشعر بداخله انه يملك احساسا عظيما بحب الذات تعلمه من قراءة كتب معلمه الاول فريدريك نيتشه، الذي تعلم منه ان التاريخ الانساني لا معنى له في حدِّ ذاته ولا هدف نستطيع ان نقدمه له: " التاريخ الانساني ليس سوى بحر، إما نغرق او نسبح فيه "
قبل ان يبلغ الثلاثين من عمره، كان مارتن هيدجر قد قرأ الجزء الاول من كتاب " شبلنجر "، تدهور الحضارة الغربية " باعجاب كبير، وقد أثر الكتاب عليه فيما بعد واصبحت نظرة هيدجر للغرب تنبىء عن كوارث قادمة، فقد كان تاريخ العالم في هذا القرن، كما كان يشرح لطلبته، انما هو نتيجة " لإرادة الإرادة " لدى الغرب، سعى للقاء شبلنجر الذي كان يحضر للجزء الثاني من الكتاب، كان شبلنجر انذاك شديد التشاؤم مما يجري، يوجه سهام نقده للأفكار الليبرالية باعتبارها افكاراً تحتضر وبأن الديمقراطية مجرد لعبة تجارية، بعد المقابلة يصل هيدجر الى استنتاج ان: " التفسخ الروحي لاوروبا قد وصل مرحلة متقدمة، لدرجة ان: "الامم اصبحت تواجه خطر فقدان آخر جزء من الطاقة الروحية، ذلك الجزء الذي يمكنها من ادراك هذا الاضمحلال وتقدير حجمه "، في تلك السنوات كان هيدجر مستغرقاً في قراءة اشعار فردريش هولدرلين، واستأذن استاذه هوسرل ان يلقي محاضرة عن الشاعر الذي يقال انه مات مجنونا، كانت المحاضرة بعنوان " هولدرلين وجوهر الشعر "، طرح فيها رؤيته عن جوهر الشعر، وتساءل في المحاضرة التي اصدرها فيما بعد في بحث موسع بعنوان " ما الحاجة الى الشعراء " كان هيدجر اخذ العنوان من قصيدة شهيرة لهولدرلين بعنوان " وما الحاجة الى الشعراء في هذا العصر البائس "، تساءل فيه عن الشيء الذي يميز هولدرلين عن كل شعراء الارض ويجعل منه التجسيد الاعلى لجوهر الشعر؟ فيجيب هيدجر انه الصدق المطلق مع الذات، فهو الصدق الذي وصل به الى حافة الجنون.:" لم يشأ هولدرلين ان يتورط مع الواقع او ان يساوم على حقيقته الداخلية. وفضّل ان يفشل في الحياة على ان ينجح بشكل رخيص. بل ان جنون هولدرلين خلع على شعره هالة من السحر والجاذبية، والاسرار العميقة واللانهائية. فلأنه اصبح مجنونا، لأنه عاش على حافة الجنون حتى قبل ان يجن فعلا، فإنه استطاع ان يرى ما لا يرى بالعين المجردة، استطاع ان يلمح من ثقب الباب ذلك العالم الآخر الذي يستعصي علينا ونحن في حالة العقل والمنطق".
ولد هيدجر في 26 ايلول عام 1889، لأب يصنع البراميل في النهار، ويلقي المواعظ في الكنيسة عند المساء، كان اكبر الاولاد، شكلت بلدته الصغيرة الواقعة في منطقة بادن الالمانية أساس حياته، فقد كان يظهر نفسه دائما كشخص قروي، في الرابعة عشرة من عمره دخل المدرسة الثانوية في مركز المدينة، بمساعدة من الاموال التي جمعها كاهن القرية له، وبفضل هذه الاموال حصل على شهادة البكلوريا من المعهد اللاهوتي عام 1909، وبسبب سوء حالته الصحية عاد الى قريته، بعد عامين من العزلة تخلى عن دراسته اللاهوتية، ونراه يتحول الى دراسة الرياضيات والفلسفة، في ذلك الوقت من عام 1911 قرأ كتاب " مباحث منطقية " لادموند هوسرل الذي قلب حياته وأثر كثيرا على تطوره الفكري، كان هوسرل استاذا جامعيا في فريبيرغ، وكتابه مباحث منطقية الصادر عام 1901 شكل مرحلة فاصلة في الفلسفة الحديثة، كانت الفلسفة انذاك منقسمة الى تيارين، الاول يستند الى منهجية علمية، والثاني الى فلسفة أدبية، وشرع هوسرل بنقد الاتجاهين، ان " الفلسفة علم " هذا ما سيؤكد عليه هوسرل في مباحث منطقية، سيخبرنا هيدجر فيما بعد ان استاذه هوسرل:" سدد ضربة قاصمة الى فلسفة القرن التاسع عشر، وقد سعى الى تاسيس الفلسفة كعلم صارم بالاستناد الى تلك الظاهرات التي ترينا نفسها من تلقاء نفسها " يعرف منهج هوسرل بالظاهريات، انه يهتم بظاهرة التجربة الفعلية، وقد كان الفلاسفة التجريبيون من امثال هيوم قد اكدوا الى امكانية ان تخدعنا احاسيسنا بما يخص العالم الخارجي، فيما ديكارت كان قد استنتج ان الشيء الوحيد الذي يمكننا معرفته بشكل مؤكد هو ذواتنا ككائنات تفكر، لكن هوسرل اعتبر ان الشيء الوحيد الذي نستطيع مناقشته بصدق هو العالم كما نختبره وهو ما اطلق عليه " عالمنا الذي نعيش فيه "، لكن ماذا يشبه العالم الذي نعيش فيه ؟ ما الذي ندركه عندما ندرك تجربتنا الخاصة، قدم سؤال هوسرل هذا نقطة البداية لفيلسوف جديد اسمه مارتن هيدجر، سيحاول فيما بعد تطوير فلسفة استاذه من خلال كتاب شهير سيصبح الأهم في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث اسماه " الوجود والزمان "
في تموز عام 1913 اصبح هيدجر مساعداً لهوسرل في جامعة فريبيرغ، ويخبره الاستاذ ان: " المثالية الالمانية بجملتها على الدوام بالنسبة إلي مما ينيغي تقيؤه، لقد بحثت طوال حياتي عن الواقع ".
في عام 1914 ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى تطوع هيدجر في الجيش، لكنه سرح بعد ثمانية ايام لأسباب صحية، وقد تاثر بالقرار وقال لمعارفه:" لو منحوني فرصة مناسبة، فقد كنت ارغب بالقتال ".
في عام 1917 يتزوج، وتقدم له زوجته كوخ بنته من اجله في تودنابيرغ، وقد عاش في ذلك الكوخ كريفي، هارباً من التطور الثقافي واصبح الكوخ علامة من علامات حياته، حيث كان يدعو تلامذته لالقاء محاضراته هناك، متفرغا ليكتب معظم مؤلفاته الفلسفية.
في عام 1923 ينتفل للتدريس في جامعة برلين، في تلك الفترة وخلال وجوده بالجامعة التقى بطالبة جديدة اسمها حنا ارندت، اصبحت فيما بعد محبوبته، كانت انذاك في الثامنة عشرة من عمرها، وكان هو في الخامسة والثلاثين،لديه زوجة وولدان وتكشف الرسائل بينهما مدى عمق علاقتهما. في عام 1925 يكتب لها " عزيزتي حنا، لقد سيطر شيطاني عليَّ، هذا لم يحدث لي من قبل، في اثناء المطر، وفي الطريق الى البيت، لم تكوني اكثر جمالا وروعة مما كنت حينها، واود ان اسير معك لليالٍ لا تنتهي "

******
أتيت إلى هذا العالم بالصدفة
في مقدمة سيرته الذاتية يكتب عبد الرحمن بدوي:" كل شيء بالصدفة , وبالصدفة أتيت إلى هذا العالم "، هل تدل هذه العبارة على ان عبد الرحمن بدوي كان فيلسوفا وجوديا؟ "يقول عبد الرحمن بدوي".
لقد ظلت الوجودية بمنأى عن عبث الجهال من الكتّاب والصحفيين والوعاظ حتى سنة 1945 حين صارت الوجودية موضة من الموضات الأدبية والاجتماعية في فرنسا غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية وقد دارت هذه الموضة حول شخص جان بول سارتر فأُنشئت في باريس نوادٍ ليلية في حي سان جيرمان، ويضيف بدوي " لا ادري ما هو الدور الحقيقي الذي لعبه جان بول سارتر، لم أكن اعرف لسارتر قبل 1945 إية علاقة في الوجودية، لقد قرأت له قبل ذلك كتابه في علم النفس التخيل 1936 ولا صلة للكتاب بالوجودية، بل هو تأثر فيه بعلم النفس عند هوسرل وأول وأخر كتاب لسارتر في الوجودية هو كتاب (الوجود والعدم) سنة 1943 ولم أقرأه إلا في باريس سنة 1946، ولما قرأته وجدته كل البعد عن وجودية هيدجر وخليطاً من التحليلات النفسية فدهشت من زعم سارتر إن هذا الكتاب إسهام في المذهب الوجودي، ولهذا قررت ان أترجمه للعربية لأثبت للقارىء العربي ان سارتر مجرد أديب وباحث نفساني يستند إلى منهج الظاهريات ولم اعتبره أبدا فيلسوفا وجوديا قد أسهم بأي إسهام يذكر في تكوين المذهب الوجودي "
منذ ان اصدر كتابه الاول نيتشه عام 1939، ظل عبد الرحمن بدوي يصدر كتابين او ثلاثة كل عام، ونراه يكتب في الفلسفة اليونانية القديمة ويؤرخ لفلسفة العصور الوسطى ويترجم مختلف النصوص الخاصة بالفلسفة الالمانية المعاصرة والفلسفة الوجودية، ويؤلف في المنطق ومناهج العلوم الفلسفية فضلا عن مؤلفاته في الزمان والوجود، وفي ككل مرة يثار السؤال هل عبد الرحمن بدوي فيلسوفا، وهل تحققت نبوءة طه حسين وهو يستمع الى دفاع تلميذه عن رسالته للماجستير عام 1941 المعنونة " فلسفة الموت " حين قال:" الان نستطيع ان نقول ان لدينا فيلسوف مصري "، كان نيتشه الذي الّف عنه اول كتبه المصدر الملهم لمعظم افكاره، كما ان هيدجر قد شكّل احد اعمدته الفكرية، وحين اصبح للوجودية في الخمسينيات والستينيات رواجا كبيرا في العالم العربي كان عبد الرحمن بدوي فارس الوجودية ورائدها، وعندما يصدر كتابه الشهير الزمان الوجودي، يؤكد ان الوجود الحقيقي هو وجود الذات الفردية، اما الوجود الموضوعي خارج الذات فهو مجرد ادوات للذات، ان فعل الارادة لا الفكر هو جوهر الذات، وهذا الفعل مرادف للحرية، ولهذا فان الذات والارادة والحرية معانٍ متشابكة، الحرية تقتضي الاختيار، والاختيار يقع بين ممكنات، وبهذا الاختيار تتحول الذات من حال الحرية الى حال الضرورة. اي تصبح الإمكانية وجوداً في العالم، وهكذا يصبح للذات وجودان: وجود كذات حرة مفعمة بالامكانيات التي لم تتحقق، وذات حققت بعض امكانياتها، الوجود الاول يتميز بالحرية المطلقة، والوجود الثاني هو الوجود بين الاشياء في العالم، ويؤكد بدوي ان انتقال الذات من حالة الإمكانية الى حالة التحقق، انما يتم في الزمان، ولهذا فالزمان حالة جوهرية للوجود المتحقق، على ان الوجود بهذا المعنى ليس وجودا في الزمان، وإلا اتخذ الزمان شكل المكان، اي اصبح اطارا خارجيا للوجود، ويعتبر عبد الرحمن بدوي الرأي الذي توصل اليه ثورة في الفلسفة الوجودية، لانه كما يخبرنا في موسوعته الفلسفية، قد حدد نوعين للزمان، زمان فيزيائي وزمان ذاتي، وهو ما اطلق عليه اسم الزمان الوجودي، وان الزمان هو عامل جوهري في نسيج الوجود ذاته، ويعتبر الحرية صفة اولى لوجود الذات.

******
رسالة في النزعة الإنسانية
في 29 تشرين 1945، ألقى سارتر محاضرة بعنوان: هل الوجودية فلسفة انسانية ؟ سرعان ما اصبحت محاضرته هذه بياناً للوجودية الفرنسية، التي شكلت آنذاك حدثاً، كان سارتر يريد ان يضع الانسان في مركز اهتمامه الفلسفي، وأعلن في محاضرته الشهيرة تلك، ان هوسرل وهيدجر قد ألقيا بالانسان مرة اخرى في خضم العالم، إذ انهما أعطيا القياس الصحيح لآلام ومعاناة الانسان وايضا لعصيانه، كان سارتر يريد ان يحول وجودية هيدجر الى فلسفة حياة بالنسبة للانسان الحر. في مقال هيدجر الشهير " رسالة في النزعة الانسانية " الذي نشره عام 1947 كرد على محاضرة سارتر، انتقد هيدجر الفلسفة الانسانية التقليدية بسبب تعريفها للانسان باعتباره " حيواناً عاقلاً " او " حيواناً ناطقاً "، ينتقص هذا المفهوم في رأي هيدجر من قيمة الانسان ويؤدي بسهولة الى ظهور مجتمع صناعي يعرف الانسان من حيث انتاجيته، ويقيم كل القيم من حيث نفعها الاجتماعي او الشخصي. ويرى هيدجر ان سارتر عاجز عن الهروب من هذه الفلسفة التقليدية، فعظمة الانسان تكمن حسب رأي هيدجر في انفتاحه على الوجود وفي قدرته على الاحتفاظ بمكان في العالم يمارس فيه ما سماه بواقعية وجوده، وفي تعبير شهير نجد هيدجر يطلق على الانسان اسم "راعي الوجود"ـ وهو الذي تكمن عظمته في البقاء منفتحاً ويقظاً للنداء.
في نيسان عام 1926 أهدى هيدجر استاذه هوسرل كتابه " الوجود والزمان " في حفلة اقيمت في كوخه الجبلي بمناسبة عيد ميلاد هوسرل السابع والستين، وقد قدمه باهداء " إدموند هوسرل..إجلالا وصداقة " وقد نشر بعد ذلك بعام في الكتاب السنوي الذي يصدره هوسرل عن الفلسفة الظاهراتية.
كان الكتاب عملا رائدا في الفلسفة الحديثة، استند فيه هيدجر على اعمال نيتشه وشوبنهور وكيركجارد، وقد اهتم فيه بالدرجة الاولى بطبيعة الكائن البشري، وبما يعنيه ان تكون انسانا.وقد تأسس الكتاب على عمل معلمه هوسرل، لانه يتفحص حياة الانسان من وجهة نظر الفلسفة الظاهراتية، حيث يدرك هيدجر ان وجود الانسان راسخ في الزمن، وفي الواقع، نحن عبارة عن تجسيد للزمن، نعيش في الماضي والحاضر والمستقبل، وتتشكل حياتنا وبالقدر نفسه، نحن محدودون بالظروف التي ولدنا بها.
في الوجود والزمان يدرس هيدجر، وفق الموسوعة الفلسفية التي وضعها عبد الرحمن بدوي، الوجود الإنساني باعتباره شكل الوجود الذي يعرفه الإنسان معرفة أفضل من معرفته بالأشكال الأخرى، ولكنه يصرُّ دائماً على أن اهتمامه لم يكن اجتماعياً أو نفسياً، وإنما حاول أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطلّ منها على الوجود. ويؤكد روجيه غارودي على ان هيدجر كان التعبير الأكثر وضوحاً على ارتباك العالم خلال فترة ما بين الحربين، حيث كانت حياة الإنسان مليئة بالفوضى الضاربة أطنابها، حيث نرى هيدجر ينظر إلى ما كان موقفاً لأمة معينة ولطبقة معينة من هذه الأمة في لحظة متأزمة، على أنه هو الشرط الإنساني والعلامة الفارقة المأسوية لكل وجود.
****
العلاقة مع هتلر وسارتر
في عام 1928 تولى هيدجر منصب استاذ الفلسفة خلفاً لمعلمه هوسرل، وخلال الاعوام القادمة ستكبر مكانته كاكاديمي بارز، يجذب حوله مئات الطلبة الذين كانوا يروا في كتاباته مساهمة اساسية في الفلسفة الحديثة، في نيسان عام 1933 يتم انتخابه رئيسا لجامعة فريبيرغ، في ذلك العام انضم الى الحزب الاشتراكي الوطني الذي يقوده هتلر واطلق عبارات من نوع:" الشعب، مهمة، مصير، الحسم، الإرادة "، واصبحت كتاباته ترتبط بشكل واضح بما اسماه الصحوة الوطنية الالمانية، وكان يعتقد ان الجامعة يجب ان تشارك في المهمة الروحية للشعب الالماني، ولم تعد المعرفة الاكاديمية بالنسبة اليه سعياً منعزلاً عن العمل السياسي، وحين زاره شبنجلر في تلك الايام وجده منتشيا بالثورة التي احدثتها الاشتراكية الوطنية، وكان يرى نفسه انه باستطاعته ان يقدم الدعائم الفلسفية كلها للحزب الاشتراكي الوطني، كان وعده بولادة جديدة للامة الألمانية، مناسبا ايضا لانعدام ثقته بالثقافة الليبرالية العالمية، في نهاية عام 1933 كان هيدجر لا يزال متحمسا لقضية النازية، وقد كتب مناشدة للطلبة أنهاها بالكلمات التالية: " لا تدع الأفتراضات تشكل قانون وجودك، الفوهررنفسه ولوحده هو حاضر ومستقبل الواقع الالماني وقانونه "، وفي العام التالي صدر امر بمنع معلمه اليهودي هوسرل من دخول مكتبة الجامعة، وكان القرار مؤلماً بالنسبة لهيدجر الذي كتب رسالة الى معلمه يعتذر فيها:" لقد صدمني القرار في أعمق جذور تجربتي الحياتية " ومع مرور الأيام بدا واضحا ان الحزب النازي لم يكن مستعدا لتبني هيدجر كمستشار فكري بسبب علاقاته مع هوسرل واليهودية حنا ارندت، وفي عام 1934 قادته النزاعات مع مسؤولي الحزب النازي الى الاستقالة من رئاسة الجامعة، وفي نهاية الثلاثينيات زال الوهم عنه في ما يتعلق بالتوجه الذي اتخذته الحركة النازية على الرغم من انه لم يتنصل من وجهات نظره، حيث ظل يؤمن ان الاشتراكية الوطنية هي المسار الصحيح للامة الالمانية، ونراه عام 1966 يعترف بانه رأى الصحوة الوطنية تحت قيادة هتلر تعبيرا عن قدوم السوبرمان الذي تحدث عنه نيتشه
مع قدوم الحرب العالمية الثانية تابع عمله كأكاديمي، وقد حاولت المقاومة الفرنسية ترتيب لقاء بينه وبين سارتر، وتم اللقاء لكنه لم يؤتِ ثماره، لكن الفيلسوفين تمكنا من التواصل بعد ذلك، بعد نهاية الحرب قدم الى لجنة ازالة النازية حيث قدم تقرير عن تورطه في الحزب النازي، وقد اصدرت اللجنة قرارا بطرده من الجامعة، لكنها سمحت له بالكتابة والنشر، ومع منعه من دخول الجامعة واصل الكتابة حيث نشر كتابه رسالة في النزعة الانسانية،، في عام 1949 تم الاحتفال بعيد ميلاده الستين، وقد نشر تلامذته كتابا تذكاريا عنه. عام 1950 تقرر السلطات عودته الى منصبه الجامعي، فيلقي محاضرة واحدة بعدها يقدم استقالته، فيقرر مجلس الشيوخ منحه منصبا فخريا في الجامعة بصفة بروفيسور، غطت اعماله اللاحقة انواعا مختلفة من المواضيع المهمة فلسفياً واجتماعياً، وكان في اخر سنواته، يخشى من انتقال الانسانية الى حالة التشرد حيث اصبح العالم ببساطة مجرد ملاذ.
في عام 1976 توفى هيدجر ودُفن بالقرب من كوخه الريفي، في يوم 27 من ايار عام 1976 دخل عبد الرحمن بدوي الى قاعة المحاضرات في قسم الفلسفة بجامعة بنغازي في ليبيا، كان يرتدي كالمعتاد بدلته الزرقاء، لكن الطلبة لمحوا تغييراً، فالاستاذ وللمرة الاولى يلبس ربطة عنق سوداء، وعندما سألوه عن السبب ؟ قال: " لأنني حزين لقد توفى بالأمس معلمي هيدجر".


* عن جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى