محمد مندور - أوزان الشعر - 2 - الشعر الأوربي

الشعر الارتكازي

نأخذ لهذا النوع بيتاً من الشعر الإنجليز وليكن مطلع (مرثية في مقبرة بالريف) لتوماس جراي.

نجده مكوناً من ست تفاعيل إيمابية وكل تفعيل مكون من مقطع غير مرتكز عليه ومقطع آخر مرتكز عليه وإليك وزنه مع رمزنا للارتكاز بالعلامة (-) وترك غير المرتكز عليه بدون علامة:

- ? -

وما على القارئ الذي يريد أن يحس بوزن البيت إلا أن يقرأه مع المرور بخفة على المقطع الغير المرتكز عليه والضغط على المقطع الذي يحمل الارتكاز

ومن البين أن ما يميز هذه المقاطع بعضها عن بعض ليس كمها كما قال الأستاذ خشبة بل الضغط الواقع على بعضها. وإما أن هذا الضغط قد يزيد من كم المقاطع التي يقع عليها فهذه مسألة تابعة لا يمكن أن تغير من طبيعة هذا الشعر الذي يعتبر إيقاعياً قبل كل شيء. ومن الملاحظ بوجه عام أن اللغة الإنجليزية بوجه عام لغة إيقاع إذا قيست بلغة سيالة كاللغة الفرنسية.

الشعر المقطعي

هذا النوع من الشعر خاص باللغة الفرنسية، وسبب وجوده هو ما أشرنا إليه من قبل. فاللغة الفرنسية كما هو معلوم تطور للغة اللاتينية على نحو ما تطورت لغتنا العامية عن اللغة الفصحى مع المحافظة على النسب. ولقد كانت اللغة اللاتينية كما رأينا لغة كمية تتميز مقاطعها بعضها عن بعض بالطول والقصر، ولكن اللغة الفرنسية فقدت هذه الخاصية كما فقدت الارتكاز أيضاً. فكل لفظة لاتينية كانت في العادة تحمل ارتكازاً على المقطع السابق للأخير، وذلك ما لم يكن هذا المقطع قصيراً فإن الارتكاز يسمو في هذه الحالة إلى المقطع الثالث من الآخر. ولكن هذا الارتكاز سقط من الفرنسية بسقوط الكثير من أواخر الكلمات اللاتينية الأصل

فقدت اللغة الفرنسية إذن الحكم والارتكاز. فعلى أي أساس يقوم إذن الشعر فيها؟ والواقع أن موسيقى الشعر الفرنسي ليست في جوهرها موسيقى إيقاع ولكنها موسيقى سيالة دقيقة، ومع ذلك فالأمر فيها ليس أمر مقاطع متشابهة. كل عشرة. أو اثني عشر أو غيرها تكون بيتاً من الشعر. بل لا بد أن يكون هناك تقسيم لهذه المقاطع في وحدات موسيقية إيقاعية إلى حد ما. فالوزن الإسكندري مثلاً ينقسم عند معظم الشعراء الكلاسيكيين إلى أربع وحدات كبيت راسين:

, '

وفيه ترى كل تفعيلة مكونة من ثلاثة مقاطع (حرف في أخر كلمة يحذف في القراءة). ولكن هذه المقاطع لا يتميز بعضها عن بعض بكم ولا ارتكاز، وإنما يأتي الإيقاع من وجود ارتكاز شعري على آخر مقطع من كل تفعيلة وقد رمزنا له بالعلامة (-). وهذا الارتكاز كما قلنا ارتكاز ضغط وارتفاع معاً في التفاعيل الثلاثة الأولى ارتكاز ضغط فقط في التفعيل الأخير لسقوط الصوت عند الوقف

هذا هو التقسيم الثالث عند الكلاسيكيين. وأما الرومانتيكيون فقد اعتزوا بالتقسيم الثلاثي، ففكتور هيجو نفسه قد افتخر بتمزيق أوصال الوزن الكلاسيكي لهذا البحر في بيت ثلاثي شهير هو:

, '

وهو مقسم كما ترى إلى ثلاث تفاعيل، كل تفعيل أربعة مقاطع، وأما عن الإيقاع فيأتي من الارتكاز على أواخر الجمل كما ذكرنا بالنسبة للبيت السابق

هذا والتفاعيل الفرنسية ليست دائماً متساوية في عدد مقاطعها. وقد كتب الأستاذ الكبير جرامو كتاباً هاماً جداً بعنوان , وفيه يظهر أن التفاعيل الفرنسية وإن لم تكن متساوية في الكتابة إلا أنه من الواجب أن نقرأها كأنها متساوية. فعدم التساوي هذا قد ساقت إليه غريزة الشعر عند الموهوبين من الشعراء عندما أحسوا بأنه لا بد من أن تسرع القراءة أو تبطئ لتترجم ترجمة صحيحه عن مشاعرهم المتباينة. وإذن فمن واجب القارئ أن يسوي بين التفاعيل في كمها الزمني ثم يبحث بعد ذلك عن العلة فيما اضطر إليه من إسراع أو تباطؤ

هذه أنواع الشعر الأوربي الثلاثة: كمي وارتكازي ومقطعي. ومن الممكن أن نستخلص منها عنصرين عامين يقوم عليهما كل شعر وهما 1 - الكم 2 - الإيقاع

أما الكم فنقصد به هنا كم التفاعيل التي يستغرق نطقها زمناً ما. وكل أنواع الشعر لا بد أن يكون البيت فيها مقسماً إلى تلك الوحدات. وهي بعد قد تكون متساوية كالرجز عندنا مثلاً، وقد تكون متجاوبة كالطويل حيث يساوي التفعيل الأول التفعيل الثالث والتفعيل الثاني التفعيل الرابع وهكذا

ولكن هذا الكم الذي يسمى في الموسيقى لا يكفي لكي نحس بمفاصل الشعر. فلا بد من أن يضاف إليه الإيقاع المسمى

ولكي نضمن تحديد الفهم نعرف الإيقاع؛ فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة. فأنت إذا نقرت ثلاث نقرات ثم نقرت رابعة أقوى من الثلاثة السابقة وكررت عملك هكذا تولد الإيقاع من رجوع النقرة القوية بعد الثلاث نقرات الأولى، وقد يتولد الإيقاع من مجرد الصمت بعد الثلاث نقرات الأولى

لا بد إذن أن تكون هناك ظاهرة صوتية متميزة تحدث في أثناء نطق كل تفعيل وتعود إلى الحدوث في التفعيل الذي يليه. والأمر في الشعر الارتكازي واضح. فالارتكاز نفسه كما يميز بين المقاطع يولد كذلك الإيقاع. أما الشعر الكمي فقد أحس القدماء بأن مجرد عودة مقطع طويل بعد مقطعين قصيرين مثلاً لا يكفي لإيضاح الإيقاع فدلونا على أن هناك ارتكازاً شعرياً يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود في نفس الموضع تقريباً من التفاعيل الأخر. وكذلك الأمر في الشعر الفرنسي فهم لم يكتفوا بتقسيم البحر الإسكندري مثلاً إلى تفاعيل متساوية في الكتابة والقراءة معاً أو القراءة فحسب، بل أضافوا إليه وجود ارتكاز ضغط وشدة، أو ضغط فقط في آخر كل تفعيل وعودة هذا الارتكاز على مسافات زمنية محددة هو الذي يولد الإيقاع. ولكنه لما كان إيقاعاً قليل العدد خفيف الوقع، فإن الشعر الفرنسي لا يعتبر بالنسبة للشعر الإنجليزي مثلاً شعراً إيقاعياً بل شعراً سيالاً كما قلنا والآن أين يقع الشعر العربي من كل هذا؟ للجواب على هذا السؤال يجب أولاً أن ننقض مذهب الخليل من أساسه وهذا ما سنحاوله في المقال الآتي.

محمد مندور


مجلة الرسالة - العدد 541
بتاريخ: 15 - 11 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى