فراس مصطفى - الليلة الـ35 من شباط .. قصة قصيرة

صوت رصاص يُسمَعُ من بعيد, بدأ الصوت يقترب شيئا فشيئا.. جموع تنتظر بحذر وتنظر بريبة وكأنها أرانب برية تتحسس المحيط بأنوفها, لا ترى بعيونها, تنتظر غياب الصقر كي تخرج من جحورها لتأكل ما تستطيع, ربما تعود أو قد لا تعود!

الصقر لم يعد له وجود, السماء خالية سوى من الغربان المتفرقة التي تمر بين فترة وأخرى مسببة الإزعاج بنعيقها الممل, لقد طال تجمعها في السماء في الايام الماضية لكنها اليوم ولت من حيث أتت, إنه موسم الموت, حديث الموت أصبح هو السائد والجثامين لم تعد تصل كما كانت ملفوفة بالعلم, رمز الشهادة, لقد تكدست بعيدا هناك في مكان ما في تلك الصحراء العذراء التي لم تطأها قدم من قبل، لكنها اليوم أصبحت ممرات عشوائية للهروب, أصبحت الارانب بلا غطاء، والأبابيل تعصف بأجسادها لتترك ما تبقى منها متناثرا لوحوش الصحراء الضارية.

بدأ الرصاص يشتد، السماء تحمر شيئا فشيئا، وكأنها خجلة مما يحدث أو أنها كانت تنذر بنزيف الدم القادم أو قد تبكي دما لما سيؤول له الأمر, من يعلم, فالسماء تبقى دائما عصية على العقل البسيط الذي يؤمن بالغيبيات، لكن غضبها في كل الأحوال شديد.

خرج البعض يركض في اتجاه المركز والآخر لا تحمله قدماه، فكان يتكئ على عصا ويلملم خطواته اللا متناسقة كي يرى ماذا يجري, الأخبار تصل من هناك رغم التشويش الذي ظل مستمرا, أغاني وطنية على مدار الساعة, ضاع التفكير بين ما تسمع من خبر الانكسار وما يقوله القائد الهمام! لا تنسحبوا حتى لو سمعتم صوتي في الإذاعة يقول لكم انسحبوا, انقضت الأبابيل على ما تبقى من الأرانب التي لا حول لها ولا قوة, من نجا من الموت وجد نفسه في قفص صغير تدور حوله كائنات غريبة مدججة بكل وسائل القتل, كما الجزار حين يلتف حول الأضحية ليتفنن في تمزيقها تحت سكاكين الحلال.

ازداد المشهد حدة, الكل يجري, حتى ذلك الذي يتكئ على عصاه, لِمَ يركض الجميع؟ فما زال المشهد عينه, لم يتغير شيء, مازلنا أسرى الخوف والإحباط, أخرج أحدهم علبة كبريت في ظل ذهول الباقين, أشعل عودا وأحرق ورقة ثم وضعها في مقعد سيارة جاثمة لم تتحرك مذ قال الطاغية قولته: "سنعيد الفرع الى الأصل", سكب الآخر قطرات من البنزين, لم تعطه الجرأة لسكب اللتر المتبقي معه, فالوقود أصبح أغلى من الدم, ربما ما زال يفكر في أن اللتر سينفعه لو عادت تلك الذئاب الجريحة, حتى لو جرح الذئب فستبقى الحملان هدفه، بل يشتد الإصرار في الانتقام.

في تلك الصحراء العذراء مازالت طيور الأبابيل ترمي حجارتها فوق رؤوس الأرانب التي خرجت من جحورها المدمرة باحثة عما يحمي رؤوسها, لكن لا جدوى, طيور الأبابيل ليست تلك التي جاءت في عام الفيل لتحمي بيت الله بل هي جاءت كي تحمي بيت المال, قطعت ألاف الأميال وجاءت بكل صليبي الأرض كي تحمي شريان الدم الأسوَد؟

صرخ أحدهم أحرقوا كل شيء, هبت الجموع بمختلف الاتجاهات تبحث عن عيدان ثقاب, فالحرب لم تبق على عود واحد, لم يسلم منها حتى عود الأشجار الأخضر, فالشتاء قارص والأبابيل دمرت كل حضارتنا حتى بات الناس يتفننون في توفير الدفء, لم تعص النار على أحد فقد هجمت الجموع على صورة القائد بنظرته الثاقبة وابتسامته الماكرة التي تخفي موتا قادم, كسر أحدهم تلك الصورة الخشبية لكنه لم ينظر في عيني القائد وطأطأ الآخرون رؤوسهم نحو الأرض حتى باتت أجزاء الصورة قطعا بالكاد تميز منها الرتب والنياشين, لم ينظر أحدا في عيني القائد, مازال الخوف يلف القلوب .

صاح أحدهم أقتلوا الثعالب وأحرقوا جحورها واسلخوا فرائها! صاح الآخر لا, ما ذنب امرأة الثعلب وجراءه, نحن لا نفعل مثلما فعلوا, تصاعدت الصرخات, هذا يقول اقتلوهم وذاك يقول لا, نعم, لا..لا, حتى أوقفت تلك الجلبة زخة رصاص أطلقها أحدهم, سكت الجميع يتلفتون بوجل ويتساءلون بصمت, هل عادت الذئاب؟ صرح فيهم من كان منكم بلا خطيئة فليفعل, اتركوهم واذهبوا إلى مخازن الغلال فلم يعد فرعون هناك وانتم أخوة العزيز! هب الجميع يركض نحوها, جراد يهبط في حقل أخضر, حتى صواع الملك لم يسلم, خرج العزيز صارخا ماذا تفعلون؟ لم ينتبه له احد ولم يعره اهتماما حتى حرسه تركوه فالفرصة لن تتكرر, مرت أيام والحال هو الحال فقد نزل جميع المؤمنين وغير المؤمنين من جبل أحد؟ خرجت الثعالب واندست بين قطيع الحملان , كل يعرف بعضه فالثعلب ينام ويغمض عين واحد بينما تشخر الحملان غارقة في النوم, وهناك بعيدا في الصحراء وفي تلك الخيمة جلست الذئاب الجريحة وقطعت عهدا مع الأسود أن لا تخرق فروض الطاعة الأبدية, هجمت الذئاب الجريحة هجمتها, مزقت أجزاء الحملان وحولتها إلى أشلاء مبعثرة, لم يسلم حمل من الأنياب إلا من اختبأ في جحور الأفاعي! ما عاد الوضع كما كان, فقد أذن المؤذن "أيتها العير إنكم لسارقون", وحان وقت القصاص.


د. فراس مصطفى


* منقول عن العالم الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى