أحمد الملك - حكاية الخير والطاهر في الإنداية!

الخير والطاهر مزارعان نشيطان، اذا لم يكن المزارع نشيطا خاصة في فترة موسم الشتاء سيعاني في الصيف، قد يضطر لشرب الخمر لا ليبتهج، بل لينسى أن الناس تنظر اليه كفاشل، وقد يضطر للهجرة ليبحث عن عمل آخر ومجرد هجرته تفسر في القرية بأنه فشل في الزراعة وسيسافر ليس بحثا عن رزق اخر ولكن بحثا عن (السترة) لأنه ايضا سيفشل في كل شئ آخر، ولكن أحدا لن يعرف بفشله بعيدا عن القرية.

الخير والطاهر مزارعان طيبان، يتفقدان أقاربهما المرضى، يؤديان صلاة الجمعة في المسجد ويؤديان صلاة العشاء في المسيد وبعد الصلاة يحضران عشاءهما ليتناولا العشاء مع أهل القرية. إذا رغبا في تناول الخمور صيفا بدافع البهجة يفعلان ذلك دون إثارة مشاكل في الطريق ودون ان يتشاجرا مع أهل بيتيهما. كل من يزور القرية يعرف أن الخير والطاهر مزارعان طيّبان، رغم أن خبيثا محليا قال مرة ان المزارع الطيب يكون أحيانا مزارعا فاشلا لا ينجح في الزراعة وبالتالي يضطر دائما لأستدانة قمح لخبز أطفاله وإستدانة المال من جيرانه وحين يضطر الانسان للإستدانة يصبح طيبا وبشوشا. وضرب الخبيث مثلا بمزارع كان يستدين الأموال من البنوك وحين يحين وقت سدادها ولا يتوفر له المال يخرج ليؤدي الصلاة دائما بصوت جهوري في الشارع أمام بيته، حين يحضر رجال الشرطة للقبض عليه يجدونه غارقا في صلاته، ولأنهم يخافون على الاقل من الله فإنهم يؤجلون إلقاء القبض عليه حتى يجدونه في مكان ما بعيدا عن الله.



قال الطاهر: الحمد لله يا زول الموسم نجح، أنا كنت خايف، البرد ما كان شديد السنة دي و أسعار الجاز اتضاعفت، لكن ربك ستر، يمكن تأخير الزراعة نفعنا، لو كنا بكرنا بالزراعة كان الحر خلاها تعطش.

كانا على ظهر لوري متجه الى الخرطوم يجلسان بفخر فوق نجاحهما، فوق محصول الفول المصري.

مسح الخير شاربه الضخم بيده وقال: ربنا يستر والاسعار ما تنزل لغاية قبل يومين كان السعر ماشي لي فوق. لكن السوق ما عنده ضمان.لو السعر نزل يا دوب حنقدر نسدد البنك ، معناها نطلع من الموسم بدون حمص ولا حنقدر نشتري حاجة ولا ندفع مصاريف المدارس للعيال.

قال الطاهر وكأنه يحلم: أنا بدور لي بوكسي، فترت من ركوب الحمير. وعدت العيال قلت ليهم خلاص. شيلوا مراح الحمير من قدام البيت وأعملوا راكوبة للبوكس.

ضحك الخير وقال: أمبارح شفت حلم عجيب، قال نحن جينا بعنا الفول ورجعنا خامين قروش كتيرة أدينا أي زول قابلنا في السكة منها، وبعد دة القروش ما نقصت، وكت رجعنا البلد لقينا الناس إتغيرت، الطويل بقى قصير والقصير بقى طويل، حسن ود شيخ على، شفتو واقف يبيع ليه خضار في السوق، وكت سلمت عليه جيت قصاد رجليه، الزول بقى طويل متل النخلة، سألتو قلت ليه الحصل عليك شنو؟ قال لي والله ظروف!

ضحك الطاهر ولاحظ: الناس وكت تكبر تعقل الا هو كلما ليه ماشي يجن!



في اليوم التالي باعا المحصول بأفضل قليلا من السعر الذي حلما به، وضعا النقود في حقيبة صغيرة أمسك بها الطاهر بكلتا يديه وضمها الى صدره، قال الخير: أعمل حسابك قالو البلد دي مليانة حرامية!.

ضحك الطاهر وقال: وحراميتها الحكمة قالو ولا محتاجين!

قررا العودة الى بيت قريبهما الذي يقيمان معه مشيا على الاقدام، خوفا من النشالين، في الطريق قال الطاهر: قالو في بيوت شراب سمحة خلاص في الجيهات دي، نمشي الليلة نشرب شوية ونغير بعد تعب الموسم وبكرة نركب الباص ونرجع البلد.

تحمس الخير للفكرة، ثم تردد قليلا وقال: بس ندي القروش دي لزول أمين قبل ما نمشي، استعرضا سكان البيت الذي يقيمان فيه.


قال الخير: الولد الكبير دة باين عليه ابن كلب لو لقى قريشاتنا دي يقع بيها النسوان!

وست البيت جنها عدة، قالو لو الزول نسى عندها هدوم ولا اي شئ تبدل بيه العدة طوالي!

قال الطاهر : نديها الحاجة الكبيرة، لأنها اليوم كله قاعدة عشان عندها الرطوبة، ما بتطلع من البيت وقالو ولدها من السعودية برسل ليها كل فترة قريشات بس قاعدة حارساهم، وكت أحفادها يقولو ليها يا حبوبة أدينا قروش تقول ليهم: القروش نجيبها من وين.

تسلمت الحاجة النقود وحذرها الخير: حتى لو جيناك يا والدة وقلنا دايرين قروش ما تدينا، سلميها لينا بس وكت نكون ماشين على البص.

ذهبا الى بيت الشراب، إستقبلتهما فتاة جميلة رغم مظهرها الفقير، جلسا وبدءا يعبان الشراب، همس الخير في اذن الطاهر: نعمل حسابنا القريشات المعانا دي دايرين نشتري منها تذاكر البص وشوية حاجات للعيال.

بعد قليل غنت الفتاة الجميلة على إيقاع الدلوكة التي عزفت عليها إمرأة ضخمة الجثة ورجل نحيل الجسم، وجهه صغير وجاف بعكس وجه المرأة الضخم. غنت الفتاة بصوت ساحر:

طلعت القمرة، الخير يا عشايا

تودينا لأهلنا.. بيسألوك مننا ..

نهض الخير كمن لدغته عقرب وأفرغ جيبه الأيسر فوق الفتاة، غرق المكان في أوراق العملة الجديدة. وتعالى صخب الغناء والرقص.

في اليوم التالي حين استيقظا من النوم عرفا أنهما لا يزالان على قيد الحياة بمجرد أن إستأنفا الشراب. لم يبق سوى وعي قليل عرفا من خلاله ان نقودهما نفدت. يستطيع المزارع النشيط ان يتصرف حين تواجهه مشكلة: بدأا في استدانة الشراب. بعد يوم آخر كانت الاستدانة قد تجاوزت كل الخطوط الحمر وإمتلأ الجدار الذي شهد شروعهما في البهجة، وشهد أيضا إكتشافهما للمرة الاولي لموهبتهما في الغناء حين شاركا الفتاة الجميلة الغناء وسط استحسان الحضور الغائب عن الوعي.

إشترطت صاحبة البيت أن يسددا ما عليهما قبل أن يشربا نقطة خمر أخرى، لم يكن هناك مناص آخر، سيعودان للبيت لاحضار النقود. لكن صاحبة البيت لاحظت: وما الضمان ان تعودا مرة أخرى؟

وجد الخير أنها محقة فالغالب انهما لن يستطيعا العودة مرة اخرى لأن قريبتهما العجوز لن تعطيهما النقود الا وهما يغادران لركوب البص الى القرية كما اتفقا معها.

توصلا في النهاية لاتفاق مع صاحبة البيت، سيبقى الطاهر في الانتظار وسيذهب الخير لاحضار المال!

قالت العجوز حين جاء الخير مهرولا يسحب عمامته أرضا : (ولا مليم احمر ما حأديكك!)

صرخ الخير: ( كيفن ما تديني، الطاهر مرهون!)

إنتهرته قبل أن تعطيه ما يكفي لفك الرهن، راجل شايب وعايب، عيالك راجينك هناك وإنت صايع في الأنادي.

تحملها الخير بصبر حتى قبض المال ثم تبخر من أمامها.

بعد سداد الدين تبقى مبلغ قليل إقترح الطاهر أن يكملا به سهرة تلك الليلة وينطلقا عائدين صباحا، لكن في الصباح بدا لهما الخروج من تلك الجنة قرارا غير محتملا، قال الطاهر: نحن تعبنا سنة كاملة من حقنا نرتاح شوية، وبعدين الدنيا دي ذاتها فايدتها شنو، أخير نستمتع لينا كمان يوم وبعداك نتوكل، الاولاد قاعدين وحنمشى نلقى نفس المشاكل، دة طردوه من المدرسة عشان ما دفع رسوم الكتب ودة عشان ما دفع رسوم الدروس الاضافية . وافقه الخير بسرعة تعطي إنطباعا أنه لم يكن هناك من داع لمرافعة الطاهر الطويلة.

حين إنقضى اليوم الثالث كان مؤشر ديون البهجة قد عاد للارتفاع في الحائط حتى لامس السقف، أنقطع إمداد الطاقة: لا يوجد شراب قبل سداد الديون، اعلنت ست الانداية ، لملم الطاهر عمامته من الارض واصلح وضع ثيابه، كان قد استعاد وعيا إجباريا قبل أن يعلن: كفاية لغاية كدة، بعد دة السفر وجب، نمشي نجيب للناس ديل باقي قروشهم ونسافر، لكن ست البيت المجربة أوضحت أنه يجب أن يبقي أحدهما ويذهب الاخر لاحضار المال.

عرض الخير في البداية أن يذهب لكنه تذكر العجوز التي ستحقق معه وستتهمه بتبديد أموال اولاده في الشراب لذلك اقترح على الطاهر أن يذهب، إقترح الطاهر أن يكذب على العجوز ويقول لها أن الخير سافر فجأة بسبب مرض أحد أولاده وأنه يجب أن يلحق به فورا. لاحظ الخير، إن وافقت العجوز معنى ذلك انك ستحضر بقية المبلغ كله وفي هذه الحالة يجب أن نسافر فورا حتى لا يضيع المال كله.

إختفى الطاهر، وبقي الخير في الانتظار، مضت ثلاث ايام ولم يظهر الطاهر فبدأ القلق يساور الخير، لم يعدم محسنا عابرا يسقيه على حسابه فإستأنف بهجة نهارية خائفة ونسي الطاهر ليلا.

حين وصل الطاهر الى بيت اقربائه لم يجد أحدا بالبيت وبقي يخبط باب البيت عدة ساعات دون ان يجيب أحد ، اضطر للانتظار ساعات طويلة حتى يحل الظلام ليتمكن من دخول البيت عن طريق الجداربعد قليل من دخوله الى البيت وقبل ان يعرف ما ذا حدث لاهل البيت فوجئ بصوت اقدام وصراخ وخبط شديد على الباب، كان شابا مارا بالمكان قد راه وهو يتسلق الجدار، وذهب بسرعة لاستنفار عدد من الجيران وشباب الحي جاءوا يحملون العصي ،أذهلت المفاجاة الطاهر فلم يتمكن من قول شئ، لم يمهله مهاجموه فرصة وسط صرخات: حرامي.. حرامي، ضربوه ضربا مبرحا حتى فقد الوعي، بعد زمن لم يستطع تحديده استعاد وعيه ، كان ضوء النهار قويا حتى انه غطى عينيه بيديه ثم بدا يتأمل المكان حوله ليعرف اين هو وما الذي جاء به الى هنا، عرف من رائحة الدواء القوية انه في في مستشفى، انتبه عندها ليده الموضوعة في جبيرة من الجبص. قبل ان يبدأ في التذكر، لم يعرف كم يوما مضت وهو في المستشفى، لابد انه تعرض لحادث ما، قطع عليه تسلسل أفكاره صوت جاره يسأله عن حاله، شكره بإيماءة من وجهه، قبل أن يلاحظ أنه لم يكن راغبا في أن يتحدث الى أي شخص، ربما خوفا مما حدث له، دون أن يتذكر بالضبط ما الذي حدث، إنتبه فجأة الى شئ ما، أشار لجاره بأصبعيه ففهم الجار الاشارة بسرعة واحضر له سيجارة وضعها في فمه ثم مد فمه آليا ليشعل له جارة السيجارة، أراح رأسه على الوسادة وطفق يرقب حلقات دخان سيجارته وهي تتلوى مخترقة فضاء العنبر.


أحمد ألملك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى