أحمد الطيب زين العابدين - دبيب يايا

للوصول إلى (سرف حسين)عليك الخروج من الديم الكبير من أتجاه الشمال تماما، وما أن تسير مسافة ساعة حتى ترى أمامك الجبل الأسود الضخم ، يغيب مرات خلف الغمام ويظهر مرات . تتقدم قليلا فيظهر لك المنحدر الطيني ، تحت أقدام الجبل الرابض.

يظهر المنحدر مخضراً اخضراراً شديداً ، ينصفه جدول عميق ينتهي عند قاعدة الجبل ، حيث العين الجارية ، صيفاً وشتاءً ، ولا تجف ولا تنضب .. يميل المنحدر كأنه اخضر مفتوح منمنم نمنمة خضراء، داكنة جميلة ، وعندما تقترب من أول المنحدر صاعداً من نهايه السهل المنبسط، تلاقيك (البلدات) مزارع الذرة الكبيرة تليها ( الجباريك) وهي بساتين الخضر الصغيرة في الطرف الجنوبي للقرية تماما، بعدها تدخل قرية منظمة واسعة الطرقات تتسلق النباتات العالقة قطاطيها، عرائشها وأسوارها ، نباتات مثل الليف والقرع المر، والشعلوب، والفقوس، والتوت، والعليق. وتضفي على المكان جواً أسطورياً باهر الجمال ، تجوس خلال القرية فترى حظائر الحيوان خلف البيوت ولصقها تماما، وصغار البهم مطلقة بين الدور ، تستمر بالسير تجاه الجبل حيث بداية السرف فتلقاك بساتين الفاكهة، أشجار الجوافة ... أشجار المانجو والبرتقال ...جنة لا يزيد عدد القاطنين فيها صغاراً وكباراً عن المائة.

وشيخ القرية هو( يايا) ولعل المقصود يحي ؛ ولكن هكذا يناديه أهل القرية ، رجل في الأربعين ، بدين مهزار كثير الضحك ، تبدو على الدعة وراحة البال واليسار، وهو نادراً ما يعمل ، يوزع نفسة بين زوجاته الثلاث وهن وأطفالهن يرعون كل شيء .. يشغل نفسه بالصيد بعض الأحيان ، يجمع الجلود النادرة ويبيعها في الديم الكبير، حيث يقيم العمدة خصمه الأول وشريك طفولته وصباه، والذي كان خاطباً لزوجته الأولى أم أولادة الكبار (اليما) التي تزوجها هو فقط لأنها قريبته ، ولضغط الأهل عليها للقبول به زوجاً . فقد كان شأنها وأبكر (العمدة) معلوماً آنذاك .... وقد كان رجلا شجاعا ماهراً بالزرع، ذا همة واقتدار، صار بحزمه وعزمه عمدة ثرياً قويا، يحكم الديم الكبير.

لهذا السبب حرم ( يايا) على ( اليما) نزول الديم واضطرها للبقاء الدائم في برد الجبل . كما حرم عليها حتى نداء الأطفال في الطريق ممن يدعون أبكر.
حدث ذلك بالذات عندما دخل عليها ( جبراكه) وهي ما تزال زوجة جديدة في عامها الثاني فوجدها تعزق الأرض وتغني وتقول وهي لا ترى :

الله اوري لي سابي تولي
الله خلي لي أبكر دبي
جوه شاشا لعب محاشا
جوة شاشا لعب محاشا

ضربها كما تضرب الحمارة ، وأقسم لوأنه سمعها تقول ( أبكر) مرة ثانية لطلقها . ومن يومها وهي لا تشير إليه إلا بقولها ( العمدة ) ، وحتى هذا لا يرضيه.

وفي يوم شات كان يجلس في بيت ( اليما) عصراً يستدفئ بشمس (السحريا) الفاترة الدافئة يحجبه من وراء ظهره (صريف) دقيق يمنع عنه الرياح الشمالية الآتية من الجبل ، فإذا بابنه من زوجته الثانية وراعي غنمه يقتحم عليه خلوته صائحاً :

- شبالا شبالا ... شالا يا ( يايا)
فاعتدل ( يايا) في جلسته وقد قطب جبينه قائلا:
- شنو الشالا؟
- التيس ... دابي شالا
- دابي شالا؟ دابي شنو؟... قالها واقفاً
- دابي الكبير داك ... أصلة شالا

صمت وهو يحلق في الغلام ... يوشك أن يضربه فتدخلت (اليما) قائلة وهي ما تزال جالسة تنقض شعرها القصير.

- وانت وين وكت شالا؟
- أنا قاعد، خفتا منه .أصلة كبير .من الله ما خلقني ما شفتا أصلة قدر دا.

وبهدوء وبطء شديدين وهو ما يزال واقفا مقطب الجبين جلس (يايا) على السرير الخشبي العاري واضعا كلتا يديه على رأسه.. سأله ولده الذي يقف بعيدا عنه خشية لن يناله أذى.

- ياتو تيس الشالا؟
- التيس الأبيض . الانت بعت أخوه السوق الفات.
- قريب محلول ولا بعيد؟
- قريب في طوف الجبل لكن دخلا كركور
- أرح وريني

خرج ( يايا) مع ابنه وهما يتحدثان . هذا وقد بدأت كلمه (شالا) تتردد في جميع أنحاء القرية. الأطفال يصرخون في الطرقات شالا... شالا... مما خلق عند( يايا) شعورا بأن هدوءه الرائق تحول إلى شعور فضائحي ومناخ تحريضي مستمر، وإحساس بحنق عميق غير محدد.

عاين ( يايا) المكان وآثار المعركة بين التيس والثعبان والمغارة التي زحف إليها الثعبان الضخم .

وعاد لداره وقد أوقفه العشرات يسألون. فمن قائل إنها حيه (حقارة) لماذا تيس الشيخ دون الآخرين. ومن مذكر له بهول أعظم حجبه الله عنه – ( بركة الما بقت في الوليد) وقد تجرأ يوسف ليقول أن الأصلة صبورة ما بتعرف الهزار. وتعرف وين تأكل وتعرف وين تأكل بأمان . فهم ( يايا) معناه وشعر بمهانة شخصية عظيمة .
وفي الصباح خرج إلى الديم الكبير .. ومعه سيف أسود قصير قديم لم يستعمله طوال عمره. وقد مات عنه أبوه . وقف في أول السوق عند شجرة (سبيل) الحداد، وهو من أبناء سرف حسين رفيق صباه وصديقه.

- سبيل .. السيف دا دكم .... أدي المبرد
- سيف؟ يا ساتر يارب الله يستر ... وانت مالك ومال السيف؟
- أمسك منه السيف العاري – واستمر سبيل يقول : دا يا شيخنا ما سيف دا جوقودى، داير نار قبال المبرد... شنو ؟.... داير تطهر بيهو العمدة ولا شنو؟ . ضحك ( يايا ) ملء أشداقه . وقال وهو ما يزال راكبا على حماره.
- هو العمندة هناى ولا شنو ؟
- واتا ماك عارفو هناى؟

دلف إلى السوق ليشتري بعض حوائجة من التاجر إبراهيم، وكان أيضا صديقا قديما .وبعد أنس قليل قال له إبراهيم : الناس الجو من حلتكم قالوا الأصلة كانت دايرة تخطف ولدك؟ وفي غيظ عظيم أخبره شيخ ( يايا) بالقصة وأن الأصلة لم تخطف إلا أخو التيس الذي اشتراه هو، وأن الأصلة ستأتيك في سوق الجمعة القادم جلداً تشتريه.
فضحك إبراهيم ضحكة متهكمة لما يعلمه من عظم هذا الأمر على ( يايا) . وفي عفوية وصدق ذكر أن جلود الأصلة يحضرها له العمدة أبكر فهو الذي يخرج لاصطيادها، أما أنت فلو خرجت لها لاصطادتك.. صمت يايا ملياً وقام غاضبا ليركب حماره ...دون أن يحس إبراهيم كيف تبدل صديقه ... غشى (سبيلا) ليأخذ سيفة . فأخبره (سبيل) أن العمدة قد مر علية لنفس الغرض ، وقال أن الأصلة ستكون خلال اليومين الأولين من التهام فريستها في (أمر ضيق) وقال أنه خارج إليها في اليوم الثالث من اليوم.

- يكضب .... هو أرجل مني ؟.. خطفت تيسه ولا تيسي ؟ والله ما بيشوفها بعينه.
- تمنعه كيف ؟ دي صيدة في الخلاء
- دي صيدتي .... والله ما بيشوفها بعينه

صعد الشيخ (يايا) إلى سرف حسين وقد تملكته على طول الطريق فكرة واحدة هي أن تعرض العمدة أبكر للأصلة هو طعن في رجولته، ومهانة لا تغتفر وفضيحة لن يسمح بها.
وقر راية على مداهمة الثعبان الضخم قبل يوم من موعد العمدة غداً عصراً. وصل الشيخ يايا إلى منزل زوجته الكبرى (اليما)، دون أن يرى شيئاً على طول الطريق لم يشعر إلا وهو هناك .. ترجل يسلمها الحاجيات. وفي مهابة وحذر وضع السيف الأبيض اللامع على راحتيها الممدودتين. أخذت (اليما) السيف وهي تتأمله. وعند باب القطيه وقد عرفت نيته من الوهلة الأولى وقفت هنيهة ثم التفتت إليه لتقول :
- يا أبو محمد الديب خليه غادي ... الشغل دا عنده ناسوا البعرفوا ليهو.. التيس كرامته وفدايتك .. الله يهديك الديب خليه.
- (اليما) خلي عندك أدب .دا كلام عوين؟!
- أنا نخاف عليك أنتا.. الشغل دا لا صبرة ولا بعشوم . يقدروا ليه المولفنه مثل العمد أبـ...
- (اليما) ... على الطلاق خلي الأصلة ..أنا الزول نكتله.. ضحكت ضحكة خبيثة مكتومة.
لم ينم ليلته تلك عند(اليما) ... وفي عصر اليوم الثاني حضر ليأخذ سيفه. أعطته السيف وهي تحدق في عينيه .

كان صامتا وقورا وقاراً لم تعهده فيه - لا يبدو علية الجزع وإن كان مهموما. وبعد خروجه وجهت أبناءها الثلاثة الكبار بمتابعته من بعيد... وفي وقت أقصر مما وصل المغارة، خلع جلبابه وتركه بسرج الحمار الذي ربطه عند الحرازة الكبيرة، وأخذ السيف واتجه إلى فوهة المغارة.

إنها المرة الأولى التي يواجه فيها الثعبان . لقد سمع كثيراً عما ينبغي فعله؛ ولكنه ما فعل ذلك قط ، ولكنه كان ثابت الجنان وكانت فوهة المغارة ضيقة جداً، فانبطح على بطنه ينجر تماما كما تفعل الأصلة يدب دبيبا .. يقدم سيفه. كان المكان مظلما جداً ولم ير شيئا في البداية؛ ولكن رائحة المكان كانت كرائحة الكنيف .. فضلات الأصلة الوطواط وغيرها.

فرأى أمامه الجسم الأملس اللامع ممددا على المغارة بلا تعاريج ولا التواءات ، بقي حيث هو زمنا، رغم ارتفاع المغارة في الداخل فقد دب وزحف إلى أن صار بمحاذاة رأسها. فجلس القرفصاء .. وعند جلوسه أحس برجليه ترتعشان. بدا يغني بصوت خفيف كأنه يطمئن نفسة.

كايو مدتقايو كايو مدتقايو

ولكن.. هذه أغاني الأطفال يغنونها وهم يجرون وراء الجراد.. وهذه مصيبة .. هذه أصلة وبدأ من جديد:

كايو دبيبايو- أميكي اليمايو
ضغت ليكي شغلايو.
قال تمشي تشربايو
كايويتي دبيبابيتي – أمكي اليمايتي
ضعفت ليكي شفولاتي
قال تمشي تشربايتي

بدأها بصوت خفيف رخيم .. يعلو قليلا قليلا وهو يمسح على رأسها بأصابعه البدينه اللينة باتجاه ظهرها . . كانت هناك رعشة ناعمة لا يعرف إن كانت في يديه أم في عنق الثعبان الذي بدأ نائما. التفت إلى داخل المغارة ليرى بطنها المنتخفة حيث يرقد التيس الابيض .. وفي لحظة .. وكأنما قد سئم هذه المداعبة المرعبة ثبت قدميه على الأرض تماما وهوى بكلتا يديه والسيف الحاد على عنقها.. وبعدها كان الطوفان وهاجت المغارة وماجت ، كانت كسيل عرم يحمل الحجر والشجر والدم والبعر وتركزت رائحة الزرنيخ والبول . فزحف ودب يريد المخرج في جنون ... شعر كأن أكياسا من الرمل البارد المبلل تلقى عليه تباعاً على صدره وظهره.
جعل يصيح والمغارة تردد صياحه .. وإذا بأبنائه الثلاثة عند الفتحة يصيحون جميعاً : (يايا .... يايا....). صارت الفوهة أضيق من سم الخياط وكانت المغارة ماتزال تمور عندما سحبه أبناؤه إلى الخارج يغطيه الدم والتراب، كأنما قد رضت عظامه رضا .. سحبوه سحبا إلى حيث الحمار ... رفعوه فوقه دون أن يلبسوه جلبابه . ركب خلفه محمد يسنده ... انحدروا إلى القرية وقد بدأ آذان المغرب.. سألوه عضاك؟ لا.. لولوت فوقك؟ لا ... عصراك؟... لا .. ثم أمرهم بالصمت وأن يأخذوه إلى بيت (اليما).. ثلاثة أيام لم يخرج فيها من بيت (اليما)، ولم يذكر أنه غادر السرير .. ما انقطعت عنه رائحة المغارة الزرنيخ.

هاجمته في أحلامه الحية ثلاثة مرات ، اعتصرته مره حتى تكسرت ضلوعه وتقاطر دما حاراً... أيقظته ليلها حليمة لتقلب المرتبة وتعيد ترتيب الفراش ... ولكنه عاد لنفسه وقد امتلأت الدار بالمهنئات والمباركات وسأل عن الأصلة.. فأراه أبناؤه جلدا طريا امتد من سريره إلى خارج القطيه.. فأشرق وجهه إشراقة لم تنطفئ إلى يوم الجمعة القادمة.

غسلت له (اليما) جلبابه الخاص وعمامته البيضاء. طبق الجلد الضخم الطويل تطبيقا ناعما.. وضعه على السرج وجلس على قمة حماره الأبيض باتجاه الديم الكبير، ولأول مرة سارت خلفه ممسكة بالسرج (اليما) وعلى رأسها (ريكة) مملوءة ثماراً يانعة - انحدرا إلى المدينة يتآنسان ويضحكان ... اقتلعت له عنكوليبة من زرعه عندما مرا عليه ، كسرت القصبة نظفتها وأعطتها له.. قضمها وما ذاق في عمرة أحلى منها.



أحمد الطيب زين العابدين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى