محمد الشركي - مقاطع من ” الدفتر الليلي..

-1-
كل دقيقة تمرّ استدعاء، قد يكون الأخير، للالتحاق بالحفل الكبير المشعّ ما وراء فداحات النهار والليل، قبل أن يغلق الدمار الزاحف والماحق المنافذ الباقية المؤدية إليه. كل دقيقة تمرّ فرصة ذهبية لبدء سفر عظيم يمضي بالجسد والذاكرة والروح معا إلى ما خلف اللعبة العنيفة والمكهربة والدموية التي يسمّونها واقعا، أي إلى الجهة الأخرى للدقيقة نفسها حيث يضرب المعنى المتعدد والمتشابك والغزير، مثل الغابات الاستوائية، بجذوره في أرض الحب التي يسهر عليها شعب الموتى. كل دقيقة تمرّ كون شاسع محتدم بالولادات والانهيارات والأزهار والنيران والأعياد والمفاوز والغيلان المتكاثرة بكل الأحجام والتراتبيات. كلّ دقيقة تمرّ تقول لك…”اهبط بأكملك إلى ألمي الأقصى وفرحي الأهوج، واعبرني من حافاتي الشرسة الراهنة إلى ينابيعي القديمة“. كلّ دقيقة تمرّ تؤكّد لك بأنّك دائما في عمق الأعماق، في نفس اللحظة الحاسمة..
-2-
ما المكان العظيم ؟
– الذي، مثل رجّة غرامية يُلحقك به ليُلْحقك بكَ وبالعالم. فبعض الأمكنة، كالنساء العميقات، لا تُسلم نفسها إلاّ إذا أحببتها من الدواخل، دواخلك المتورطة في دواخلها، بعد استيعاب مساراتها اللامرئية وتوتراتها غير المسموعة، واحترام آداب ضيافتها، ومفاوضة الموتى الساهرين عليها. بعض الأمكنة، كبعض الوجوه الأنثوية الشعائرية، تأتيها أو تأتيك كمواقع اختبارية تمتحن التجاويف البعيدة لروحك وتعود بك، إذا وثقتَ بها ووثقتْ بكَ، كما عوليس بعد تطوافه الشاق والشافي، إلى إيطاكة العظيمة. أكتب هذا وخيالي ينهب مسافات هذه الليلة ليلتحق بمغارة فريواطو، في عزلتها المحروسة برأفة الجبال، جنوبي تازة. وها أنذا أراني هابطاً، للمرّة السابعة بعد الألف، أدراجها الحجرية المسربلة، كما لو في الحلم، بتلك الإضاءة النهارية الخفيفة المتسربة من فوهتها العليا. ومن الصّخور الغرانيتية المعتمة المحاذية للأدراج الحلزونية، كأفاريز مطهر دانتي تماماً، تنبعث تلك الرائحة البدائية التي تتشابك فيها التضوعات المتحالفة لقوى الأرض السفلية والرُّوح العطرية للزمن نفسه والغموض البهيم للبدايات. وكلّما انعرج بي السلم الصّخري هبوطاً، وكلّما ضاقت السراديب وأظلمت، ارتفعت الستارة، أكثر فأكثر، في ليل الذاكرة والجسد والنفس، وتصاعد تدريجياً من التجاويف الممتدة أبْعَدَ وأعمق من سلطات الخرائط وخرائط السلطات، ذلك النشيد القديم الملتاع والطالع من عرس كونيّ ليقول لك : لا أزال أنا القلب، مهما شطّ المزار، وأنا من هنا أسهر على عزلتك المأهولة بي وبسلالة الجريحات والجرحى حرّاس الأعماق، الأحياء منهم أو مَنْ عادوا إلى مهدهم الثاني.
-3-
ثمة مكان عظيم آخر لا ينفكّ يعود إليّ وأعود إليه، وجدانيّاً وخياليًّا ورمزيّاً، هو مكتبة ألف ليلة وليلة النورانية التي كان يديرها ويضيئها المرهف عربي لخصاصي، الفاعل الثقافي حاليا بالمنتدى المدني الديمقراطي المغربي بتازة، وهي المكتبة التي كانت مجاورة لمشرب سيرنوس الباخوسي، والتي تستحق أن تُعتبر من المواقع الرمزية التي منحتْ زمن المدينة المغائرية امتداداً وحضوراً وارفَيْن في الأزمنة والجغرافيات الثقافية المتخطية للحدود الوطنية، وذلك بفضل التورط المبكّر والعصاميّ لـ “عربي” في قراءات خلاسية المرجعيات وتفاعله المشبوب مع النقاشات الخصيبة التي كان ينخرط فيها رواد مكتبته بمختلف مشاربهم الثقافية والسياسية والأكاديمية، وكذا بفضل هندسته بمعية أسماء ثقافية من المدينة للقاءات وندوات جوهرية لا تزال مستمرة… في هذه المكتبة ارتفع الحجاب أمامي تدريجيّاً على الوجه الآخر، المنير والملحمي، لتازة بذاكراتها الأركاييكية وسراديبها الرمزية، وتردّدت في فضائها المضمّخ بعبق الكتب ورائحة التبغ وأريج الشاي الطقوسي المستجلب من مقهى بلقاسم مقاربات فكرية وانطباعات فورية حول كتب أو أفلام أو أحداث طازجة، وتجاوبت أسماء كوكبية من عيار جبران والنفري وابن عربي ونيرودا وبيكاسو ودالي وبريتون ونرفال ونوفاليس ونجيب محفوظ والشابي وأدونيس ودرويش ويوسف الخال ورامبو وتوماس مان والمتنبي، وشعراء الجاهلية والسريالية، والفقهاء والقديسين، ورموز السينما والسياسة، وما لا يمكن حصره من عوالم وجيولوجيات وتواريخ ومدارات… وفيها طالما استأنفنا، عربي وأنا وأحد أوبعض الأعزاء : الشاعر والناقد التشكيلي بوجمعة العوفي، والمثقف الوديع الأستاذ عزوز البوسعيدي، والمثقف النبيل الراحل عبد الحق بسكمار (شقيق الأستاذ والإعلامي العزيز عبد الإله بسكمار)، والمسرحي محمد بلهيسي، والأكاديمي والإعلامي عزيز باكوش، والقاص والسينوغراف عبد المجيد الهواس، والزجال محمد الزروالي، والأستاذان بلخدير والدّاحين، والأستاذ عبد السلام المودني، والودود سعيد الطاهري – طالما استأنفنا حديثاً متشعّباً ومتشابكاً ومتعدّد المنعرجات في تضاريس الفكر والإبداع والسياسة والاقتصاد والمجتمع والسينما والمسرح، ونسق المعتقدات، ونوازل الأوفاق العامّة، ومنظومات الأساطير القديمة والحديثة، وترابطات كلّ هذه المستويات داخل اللعبة الغامضة المسمّاة حياةً. وبفضل بعض هؤلاء الأصفياء، ممّن تفضلوا بتوفير الشروط اللوجستية وشرفوني بصحبتهم، أمكنني أن أزور مغارة فريواطو مراراً وأن أرتبط بها بذلك الميثاق الرمزي المطلق المتخطّي للمسافات الزمنية والصرامات الخرائطية… تلك كانت بالنسبة إليّ، و لا تزال، أرحام رؤى وهواجس وتمثّلات ساهمت عميقاً في تغذية كياني الرمزي ومدّ حبال سرّية، لا تنفصم ولا تنثلم،بيني وبين مدينة الأعماق اللامطروقة … فيا عربي لخصاصي، أيها النبيل، إذا كنت ستقرأ هذه الكلمات أودّ أن تتأكَّد بأن الضوء العالي الذي اقتسمناه محفوظ في حرز حريز من كلّ الظرفيات الملتبسة، سواء منها التي عبرتْ أو التي في طور العُبور. لأنّ الجواهر الحقّة، التي تشكّلت وتتشكّل في قلب أشرس النيران وأعمق التجاويف، لا تبيد. ألف شكر وامتنان لك ولباقي الأصفياء هناك، فبفضلك وفضلهم أمكن لطيْفي المشاكس الذي عَبرَ مدينتك الكونية أن يعثر على الممرات الحاسمة باتجاه الأقاليم السفلية لوجهي الشخصي.
-4-
في أورانوس، المطوَّق بحلقاته القديمة المحتدمة، تساوي سنة واحدة أربعا وثمانين سنة أرضية، ومعظم أقماره السبعة والعشرين سمّيت بأسماء شخصيات شكسبير.
-5-
أكلتُ قبل قليل رمّانة ناضجةً فالتمع أمامي وجهُ عشتروت، ربّة الليل والقمر والموت، التي كان الرُّمان الأحمر الناضج فاكهتها المقدّسة، والتي لا يزال كهف إسكويرام في غابة إيبيزا مكاناً مكرّساً لها..
-6-
كلّما فتحتُ كتاب “l’insécurité du teritoire” (“لا مأمونية المجال“) للمفكر بول فيريليو (Paul Virilio) تدفقتْ إضاءاتٌ عميقة تكشف هول المخاطر المحدقة بنا في كلّ شبر من المكان وكلّ ثانية من الزمن ومدى انتشارها واختطافها للمجالات، ونحن ضمنها، في المجتمع والإعلام والمدن والقرى والثقافة والاقتصاد والسياسة والرياضة والفنون والبيئة… وفيريليو (الذي يُعتبر، بالمناسبة، أحد أهم المرتكزات المرجعية لكلّ من جيل دولوز وفيليكس غطاري في كتابهما الوصية “ألف نَجْد”) لا يُوفّر أحداً : ثمّة، في رأيه، من يَسْكُنون العالم كشعراء، وهناك من يسكنونه كقتلة. والشعراء هاهُنا ليسوا بالضرورة من يكتبون الشعر، بل من يعيشون شعْريّاً حتّى لو لم يخطّوا حرفاً واحداً، أي جميع أميرات وأمراء المنفى، سواء الذين سبق لسان جون بيرس أن احتفى بهم على نحو ملحمي أو باقي نظرائهم، إناثاً وذكوراً،في مختلف التراتبيات والأعمار والجنسيات والمهن، ممّن يتورّطون في الحياة حتّى الجذور، ويسهمون، كلّ من موقعه وحسب استطاعته، في إنتاج قيمة نورانية مضافة تُبَدّد وحشة الشعاب والمفاوز اليومية. أما الذين يسكنون العالم كقتلة فلا يقتصرون، طبعاً، على سفاحي الحروب والطرقات وعصابات الجريمة المنظمة وغير المنظّمة، والذئاب المنفردة السارحة في غابات المُدُن، بل هم كلّ مافيات الدمار البيئي والتشوه العمراني والارتزاق الثقافي والسياسي والرياضي، وجماعات الضغط في قلاع الريع الاقتصادي وأجهزة المراقبة اللصيقة المتلصصة على حميميات الأفراد، والأنساق الغاشمة التي تقصف الشعوب دون توقف بالراجمات العملاقة المتمثلة في آلية الانتخابات المتحكّم فيها، وديمقراطيات الواجهة، وصحافة التابلويد والمحطات الإذاعية والتلفزية الأرضية والفضائية المسوّقة للترفيه البئيس والأخبار الموجّهة ومسابقات الرّبح الوقحة… لذلك كلّه، يقف فيريليو، مثل كافكا ورامبو وأورويل، خارج صف القتلة ليسمّيهم واحداً واحداً، ويقفز كتابه هذا – وكل أعماله العميقة على أية حال – خارج حيّزه الطباعي لينير لنا المجالات اللامأمونة التي صارت منذ الأمس يومنا وغدنا، حتّى نعرف كيف نتدبّر أمرنا معها.
-7-
برقية من حارسة الأغوار
افتحْ عينيك داخل حلمي
لترى شعائري وأعيادي
والوادي المقدّس طُوى
بمشاعله القديمة
وخيرات الموتى في وهادي
والغابات الأخيرة
التي آوت تشي غيفارا
ونبتة خلود جلجلمش
والحبّ المتضوّع كمسك الليل
في بلادي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى