عبدالرحيم التدلاوي - المركبة

انتظر إلى أن امتلأت الحافلة عن آخرها، وما عاد متسع للمزيد، حتى صارت كالحامل على وشك الوضع، وانطلق ذاكرا الله أن ترافقه السلامة، فأرواح الناس ميثاق غليظ. سارت على هدي من الله تتمايل ببطء تشكو إلى الباري أمرها وأمره، في نوع من التضامن بينهما قل نظيره؛ خيط نور يربط بين روحيهما. كان يعلم أنها لم تخلق، أقصد: لم تصنع لتحمل هذا الثقل الزائد، وأن تقطع المسافات الطوال، متحدية العقبات؛ فقد صنعت ليركبها قلة من الناس، وتسير في أرض منبسطة، لا تكبدها إرهاقا، ولا تحمل عليها إصرا، ولا تحملها ما لا طاقة لها به.
وكان السائق مضطرا لتكديس الناس، متحملا ضجيجهم، وروائحهم المختلفة والنفاذة، وصراخ أبنائهم، حفاظا على عمله، ولكي يعود بدخل محترم يرضي أصحاب الشركة. صحيح أنه كان يغلي كالمرجل، لكن حكمته جعلت الفتيل بعيدا عن أعواد الثقاب؛ فالتحمل والصبر من شيم الكرماء.
كان كلما انتهى من عمله عاد إلى منزله مسرورا، يأخذ حماما دافئا، يتناول قليلا من الطعام ويتحدث مع زوجته قليلا قبل أن يخلد إلى النوم؛ وإن كان العمل متعبا نام سريعا دون أن يأكل شيئا؛ فالإرهاق يأخذ منه مأخذا؛ وقد تعودت زوجته على هذا الأمر، وتحمد الله على عودته سالما، لا تطلب سوى أن يكون إلى جانبها ولو نائما. لا تستفرد به إلا أيام العطل، وهي قليلة، او يوم الأحد، إذ يتوجهان إلى مقهى، أو إلى مطعم، وإذا كان المزاج رائقا، توجها إلى السينما لمشاهدة فيلم فكاهي، يزيل غبار التعب، وينشط الدورة الدموية، ويساعد على المتع الرومنسية.
"متى ستنجبان؟
لا أعرف..
هل تفكران في الإنجاب؟
لا أعرف
لا داعي للاستعجال..."
تخرج زوجته كل يوم لشراء ما يلزم، لكنها اليوم، خرجت لشراء حلوى بمناسبة عيد ميلاد زوجها، تسعى من خلال فعلها إلى إدخال البهجة على قلبه، وتعبر عن تضامنها معه، فمثل هذا السلوك يقويه ويمنع عنه الإحساس بالغبن.
يقود الحافلة بحرص شديد، رغم مطبات الطريق، ورغم الإزدحام، وكثرة اللغط، والسب القادم من أفواه تعودت التحرش بالناس، يتحمل احتكاكاتهم الجسدية، حتى إنه يظن في قرارة نفسه، أنه لا يقود حافلة بل يقود ماخورا... لا يهم، كل ما يعنيه أن يصل بحمولته إلى مقاصدها المعلومة دون أن يتأذى أحد. الناس تجتاز الشارع في غير انتظام، فعليه أن يكون في كامل انتباهه حتى لا يصطدم مع أحد، كيفما كان نوع الاصطدام.
"متى عيد ميلادك سيدي؟
لا أعرف. لم يسبق لي الاحتفال به، ثم إنه أمر لا يعنيني.
طيب، لا تشتت انتباهك، تابع طريقك مرفوقا بالسلامة..."
وهو في الطريق شاهد امرأة مشتبكة مع رجل يريد أن يسلبها حقيبتها بالقوة، في هذا المكان الخالي. اضطرب قلبه، تكاد تشبه زوجته في لون جلبابها، ولون شعرها، وقامتها، بل هي زوجته...ركن الحافلة جانبا، ضغط على الفرامل بقوة الغضب الذي يسكنه، حتى ارتج الركاب، وكأنهم لبن في قربة، ونزل سريعا يريد إنقاذها، رآه اللص قادما، يتطاير الشرر من عينيه ؛ علم أن لا قدرة له على مواجهة هذا الرجل الربعة مفتول العضلات فتحفز للمواجهة، ولما اقترب منه كثيرا، استخرج من حزامه سكينا كبيرة وعالجه بها بضربة في البطن ثم في النحر سقط على إثرها أرضا يسبح في دمه، وحين شاهدت الزوجة زوجها مضرجا في دمه، سقطت إلى جانبه مغشيا عليها، أخذ اللص الحقيبة وذاب في الخلاء. كان ركاب الحافلة مسلوبي الإرادة، لم يصدقوا ما رأوا.
مر وقت قبل ان تحضر سيارة الإسعاف الشرطة. كان الضحية لحظتها قد فارق الحياة، والزوجة مازالت فاقدة لوعيها، أماالحافلة فكانت خاوية على عروشها، كانت فارغة تماما.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى