الحبيب الدايم ربي - الملاك الأزرق

رجل وكلب يلتقيان ذات غروب . رجل أنيق وكلب أنيق أيضا. سيماء الرجل تشي بورع لا يعوزه البرهان ، والكلب يخفي وراء بياضه اللازوردي المنقّط بالسواد أكثر من سر . من البيت إلى المسجد ومن المسجد إلى البيت هكذا انغلقت دائرة الرجل. والحياة ، بعنفها وصخبها ، كانت بالنسبة إليه في مكان آخر . فخارج محيط الزهد ما كانت للرجل علاقات ـ بالأحياء ـ تذْكَر، حتى اقتحم خصوصياته ذلك الكلب الأبلق حد الزرقة في ذلك الغروب. سيكون من المبالغة الزعم بأن الكلب "هجم" مباشرة على الرجل في مكان يغص بالخارجين من المسجد بعـيْد صلاة المغرب ، طالما أن فعل "هَجَم" حافّ بالعنف والقسوة ولا يعبّر، تماما ، عن الواقعة كما يرويها شهود عيان لا يرقى إلى رواياتهم شك. بدا الكلب في غبش ذلك اليوم كما لو كان تائها . نظراته الشاردة ، رنوه نحو المجهول ، انتصاب أذنيه ، تفحّصه المستمر في أعين العابرين ، جعله مثار انتباه السابلة الضاربة في صخب المدينة.
فجأه وجد الكلب ضالته في رجٍل مهيب . حيّاه بذيله ، بوداعة وعن قرب ، كما يجدر بكلب ابن كلب ، لكنه لم يجد في نفسه جرأة للارتماء عليه قصد معانقته عناق كلاب. كان الرجل في أناقة لا تسمح بأن يصافحه كلب مهما كان بدوره أنيقا. هكذا ربما خمن الكلب. وفي تواطؤ لاتفسير له سارا جنبا إلى جنب كظلين أزرقين شفافين ، تارة يتقدم الكلب وتارة يتقدم الرجل ، مسافة غير قصيرة . لم يملك الرجل شجاعة للتخلص من الكلب وكان هذا الأخير مصمما على المكوث بحضرة سيده الجديد. فما كان من الرجل سوى الرضوخ لرغبة الكلب وقبول استضافته في بيته لمدة ثلاثة أيام كما فكر. ولا أحد يدري فيم كان يفكر الكلب( من الممكن أنه مايزال مأخوذا بموت صاحبه الأول العارف بالله شيخ الجبل ، وهو لم يعد قادرا على العيش مع أرملة الشيخ التي ستذكّره برفقة وفية عمرت سنوات. كان هذا شاقا عليه لذا قرر الرحيل إلي المدينة) .
في اليوم الأول والثاني ما فرط الرجل في واجب الإكرام والضيافة .وطال المقام بالكلب شهورا طوالا لكن نقيصته أنه صار مع الأيام نبّاحا ليل نهار إلى الحد الذي قطع على الرجل حبل قيامه الليل. وعلى مضض كان يتحمل المضيف ضيفا ما انفك يغدو مزعجا مع الوقت . وما غيرت العصا بدون بطاطس من طبع الكلب العنيد.
أخيرا استجمع الرجل شجاعة مصارحة الكلب بالذي في قلبه تمهيدا للطرد تسنده أعذار وجيهة :
- أنت تعرف يا ولد القانع أن ضيافة النبي قصيرة ، وهاهي الأيام الثلاثة انقضت وزادت عليها أشهر ثلاثة ، أربع مرات،وغداً نقفل معك العام مضطرين . أكرمناك بما يليق . توسمنا فيك خيرا. لكنك ، لشديد الأسف ، أسأت التصرف بتشويشك على تعبّدنا ، و . ... واستطرد يشرح حيثيات الطرد المهذب كأنه إزاء شخص آدمي يسمع ويفهم . وقبل أن يلفظ الرجل بالقرار الصعب ، وحزام الجلد في يده ، فوجئ بالكلب الصامت يجيبه :
- هل أنهيت كلامك يا شماتة الرجال؟ لماذا ياشيخ تتمسك بصلاتك وتستكثر علي أنا صلاتي ؟ واضح أنك لن تنال مرتبة الواصلين مهما سعيت ، وأنك لن تستطيع معي صبرا.
بهت الرجل فندت عنه غمغمات متقطعة:
- عذرك يا سيد الكلاب ، أبق معنا متى شئت .
ليرد الكلب في حسم:- وداعا فأنا أيضا لم أعد أطق معك صبرا.
واختفى الاثنان بين تصديق وتكذيب.
ليظهر الكلب في مكان ما دون أن يظهرللرجل منذ ذلك اليوم أثر.
استيقظ الناس في تخوم الريف ، صباح العيد ، على فاطمة الأرملة ترسل من كوخها زغاريد ما تخيلوا قط أنها مازالت تخبؤها بين الجوانح المكسورة ،وعبارات ترحيب: "وافرحتي بالملاك الأزرق يعود" .
ترى هل رأت سيدة الكوخ ، في أوبة كلبها الضال ، صورة بعلها الورع الفقيد الذي ودعها منذ عام بالتمام أم تراها كانت تحلم ؟ .!


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى