عبد الرحيم جيران - الطفرة الهوياتية والاستذكار والتزمن

كان من المتوقع أن أستأنف الحديث عن اختلاف تمثيل الهوية السردية من جنس حكائي إلى آخر، لكن فضلت تأجيل هذا الأمر إلى فرصة مقبلة بغاية الإجابة عن سؤال طُرح عليّ من قِبَل باحث مغربي في إطار التعليق على المقال السابق. ومفاد هذا السؤال هو إشكال النظر إلى الهوية من زاوية تذكري من لدن الآخر. وهو سؤال ذو شقين: كيف أحضر أنا في خطاب تذكر الآخر حين يمارسه تجاهي؟ وكيف تكُون هويتي مُعِينَة له على تذكري؟ وليس بالمستطاع أن يُجاب عن هذين السؤالين إلا بعد تمييز التذكر من الاستذكار. فلا شك أن الأول هو انبثاق الذكرى بدون قصد مسبق؛ أي أن فعل حضور الماضي بوصفه محتوى للذاكرة في الحاضر تام بدون وعي من قِبَل الذي يمارس فعل التذكر. بينما يحمل الاستذكار في بنيته الصرفية طلب الذكرى؛ أي أن الذي يتذكر يفعل ذلك عن قصد مسبق؛ وبفعل إرادة واعية. فما الذي يمارسه الآخر على مستوى هويتي حين أكُون بالنسبة إليه ذكرى؟
أحضر في خطاب تذكر الآخر في حالتين: حالة الغياب وحالة الحضور؛ ففي الحالة الأولى أكُون موضوعا لفعل تذكر غيري بدون أن أكُون متواجدا أمامه فاعلا فيه أو مؤثرا، وأحضر بوصفي منتميا إلى لحظة من ماضي الذي يتذكرني، ومن خلال أفعال خطاب محددة: الحنين أو الندم أو الانتظار… الخ، أو من خلال أوضاع محددة: العيش المشترك، أو العمل، أو التعلم… الخ. وفي هذه الحالة قد أحضر من خلال عملية التذكر غير القصدي، أو من خلال عملية الاستذكار القصدية. أما في الحالة الثانية، أي حين أكُون حاضرا أمام من يمارس فعلا استحضاريا عبر الذاكرة فإن فعله هذا يتخذ هيئة استذكار قصدي؛ لسببين: أولا، أُعَد في هذه الحالة مثيرا يستحث فعل ذاكرة الآخر، أي أن رؤيتي من قِبَلِه تجعله يستخدم ذاكرته لكي يميزني من عديد ممن يعرفهم من الناس. ثانيا، يجعلني من يستذكرني موضوعا للفهم (التأويل) منطلقا من قصد التعرف إليّ محددا إياي في إطار وضع معين وزمان ومكان معينين. ويرتبط فعل الاستذكار هذا- في الأغلب- بسياق اللقاءات غير المتوقعة. وتكُون الحاجة إلى الاستذكار أقوى كلما تباعد الزمان بين من يستذكِر ومن هو موضوع للاستذكار؛ أي أن فعل الاستذكار يكُون أكثر قوة كلما فارق بينهما الزمان لمدة أطول؛ فلا شك في أن التحولات التي تطرأ على جسد المُستذكَر وملامحه وتصرفاته بفعل الزمان تجعل المُستذكِر يُعيد بناء صورة موضوعه الحاضرة في ضوء صورة له في الماضي مختزنة لديه. ويعتمد التعرف إلى هوية موضوع الاستذكار من قِبَل الآخر المستذكِر على العناصر المظهرية – لا الفكرية – المستمرة في موضوعه، بغاية إزالة آثار التشوش الناجمة عن التغيرات الكمية والكيفية التي أُضيفت إليه (موضوع الاستذكار). لكن كل هذا يحدث في إطار بنية زمانية قائمة على المقارنة والتزمن: ففي الوقت الذي تحضر فيه الذات (موضوع فعل الاستذكار) وفق انغراسها التام في لحظة الحاضر التي هي لحظة فعل الاستذكار، يكُون فعل الاستذكار التام من قِبَل الآخر (الذات المستذكِرة) في هيئة تجديل بين صورة لموضوعها في الحاضر وصورة ماضية له، وهنا نكُون أمام مواجهة بين وَعْيَيْن بالزمان: وعي يضع نفسه – من حيث هو موضوع للإدراك (هويته)- في الحاضر، ووعي يضع نفسه- من حيث هو فعل استذكار- في إطار بنية تزمنية؛ والمقصود بالتزمن تحول الموضوع في الزمان (التغير الكمي- مثلا- من السمين إلى النحيل).
وينبغي إدراك حضور الاستذكار على مستوى البنية التزمنية التي هي مرتبطة بالفهم التأويلي (هل من أراه أمامي هو من عرفته في الماضي بوصفه فلانا؟) في إطار تفاعل هوياتي متبادل مرتبط باستذكار متبادل؛ ففي الوقت الذي أكُون فيه موضوعا لفعل استذكار الآخر يكُون هو بدوره موضوعا لفعل استذكاري الخاص أيضا. وهذا التفاعل هو ما يُؤسس فعل التعرف الهوياتي بين شخصيْن في نطاق وضع اللقاء القائم على البون الزماني. وهو تفاعل غير منفصل عن بنية مُعقدة للزمان تختلف كلما انتقلنا من ذات إلى أخرى. ومعنى هذا أن الذات التي تستذكِر تضع موضوعها في بنية التحول التامة وفق زمانين (الماضي- الحاضر)، بينما لا تفعل هذا تُجاه نفسها؛ إذ تدرك نفسها من خلال الحاضر الذي هو زمان فعل الاستذكار فحسب، وفي الوقت الذي تفعل هذا (وضع نفسها في الحاضر) يُحولها موضوعها الذي هو ذات تستذكِر أيضا إلى موضوع منظور إليه من خلال التحول الذي يُقام على المقارنة بين زمانين؛ أي مقارنة هويته (وفق ما كان عليه في الماضي) بما هو عليه الحاضر. ويسمح لنا هذا التركيب الزماني التفاعلي بالحديث عن الطفرة الهوياتية. والمقصود بهذه الأخيرة إدراك التحول الجذري الذي لم تلاحظه الذات (التي تستذكر موضوعها) في نفسها طيلة تاريخ تغيرها (من الشباب – مثلا- إلى الشيخوخة)؛ أي أنها كانت تعيش التغير وتصاحبه تدريجيا وتتقبله من دون أن تعيش الانتقال الطفري من صورة إلى أخرى. وتدرك هذا التحول الطفري في موضوع استذكارها الذي تُواجهه في الحاضر بعد مرور زمان طويل. أكيد أن ألبوم الصور يمنح الذات المُستذكِرة حين تقابل بين صورها المختلفة الإحساس بالتغير، لكن الصور الفوتغرافية لا تُعطي التغيرات طابع المفاجأة. هذا الطابع المفاجأتي تمنحه اللقاءات التي يصير فيها الآخر مرآة للطفرة الهوياتية؛ حيث يُعطينا الآخر إمكان ملاحظة البون الشاسع بين صورتين من دون وجود صور وسطى تُذكر بتاريخ التغيرات.
لا يُمْكِن تفكر الهوية في نطاق استذكار الذات من قِبَل الآخر بدون استعادة أمريْن: ما أرساه هيغل في صدد الوعي الثاني في إطار مناقشته جدلية العبد والسيد، والإدراك الإضافي عند ميخائيل باختين الذي يستوحي فيه هيغل. فالوعي الثاني هو نتاج اختبار الوعي الأول في رد فعل الآخر. ومعنى هذا أنني أُعبر عن فكرتي أمام الآخر، وهذا التعبير يُشكل وعيي الأول تجاه هذه الفكرة؛ وحين يَرَد الآخر على فكرتي معترضا عليها أو معدلا إياها أو مكملا إياها فإنني أحاول صياغتها من جديد محاولا جعلها أكثر صلاحية وأكثر قدرة على إقناع الآخر وإفحامه؛ وإعادة الصياغة هاته هي ما تُشكل الوعي الثاني في إطار جعلي السيد في التعبير عن وعيي. اما الإدراك الإضافي فيتحدد في ما أتلقاه من إدراك لذاتي من إضافات ناجمة عن نظر الآخر إليّ. فتأثير استذكار الآخر لي في هويتي هو شبيه بالوعي الثاني أو الإدراك الإضافي؛ بحيث أدرك في استذكار الآخر لي نظرة ولغة أنني بوصفي ماضيا توقفت عن أن أوجد، وأنني تغيرت، وعليّ أن أتصرف وفق هذا التغير. هل هو وعي العزاء الذي يتبقى لنا ونحن نرى إلى هويتنا من خلال مرض الزمان؟

أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى