احمد الباقري - التغيـيــر.. قصة قصيرة

خرج كنعان شامان علي من بيته في صباح شتوي قاصداً دائرته المسماة (مديرية التسجيل العقاري) وعندما وصل إلى الشارع، شاهد شاباً وسيماً يرتدي اسمالاً باليه وكان متجهاً إليه وعندما بلغه مد يده إليه قائلاً بتوسل : – (حسنة لله يا محسنين). استغرب كنعان ذالك سأله بتأنيب : – (لماذا تستجدي وأنت شاب قوي صحيح البدن ؟، لماذا لا تعمل في عمل شريف ؟). أجابه الشاب :- (ماذا اعمل ؟ لا مهنة لي، تخرجت في كلية القانون والسياسة منذ أربع سنوات ولم يصدر أمر تعييني لحد الآن، وأنا أعيل والدي وأمي وأختين واخوين صغيرين). قال كنعان متسائلاً : (أين القانون ؟). أجاب الشاب :- (القانون في الكلية التي درست فيها، ولا يطبّق في خارجها… هكذا هي الأمور يا سيدي في الوقت الحاضر). رقّ قلب كنعان عليه مسفقا ً واخرج ورقة ألف دينار وقدمها له برقة قائلاً (خذ هذا الألف دينار… تستطيع أن تعمل في أعمال البناء… فهذا العمل لا يتطّلب مهارة فنية بل يتطلــّب جهداً بدنياً فقط، وأنت كما تبدو، ولله الحمد، قوي وقادر على هذا العمل المضني). شكره الشاب وقال مترّدداً : (سأحاول أن اعمل بهذا العمل… إن شاء الله). تركه كنعان واتّجه إلى سوق الفواكه والخضروات إذ انه يقع في طريق دائرته, وعندما بلغه كان السوق مزدحماً بالناس ورأى على يمينه بسطة فيها خضروات وتقف بالقرب منها امرأة بدينة بيضاء ترتدي عباءة كالحة اللون، سألت البائع :- (بكم كيلو الطماطة ؟)، أجاب البائع بدون تردّد : (بألفي دينار) ثم عادت المرأة وسألته : – (وبكم كيلو الباميا ؟). أجاب البائع : (بثلاثة آلاف دينار). سألته المرأة أخيرا : (وبكم كيلو البطاطا ؟) أجاب البائع بصوت منخفض : – (بخمسة آلاف دينار..) استشاطت المرأة من الغيظ وقالت بسخط : – (لماذا اشعلت السوق وأدخلته في نار جهنم ؟ لماذا صعّدت الأسعار في هذا اليوم أيها الجشع ؟). أجاب البائع بهدوء : (أنا لم أشعل السوق بل الحكومة هي التي أشعلته… فحكومتنا تستورد الخضروات والفواكه من الدول المجاورة… وتسعّرها بأسعار مرتفعة، وتبيعها لنا بتلك الأسعار… فماذا نفعل يا سيدتي، سوى إن نبيعها بأسعار غالية مضافاً إليها الربح… هذا كل ما في الأمر). قالت المرأة بتطلـّب : (أعطني كيلو طماطة). أخرجت من محفظتها الصغيرة ورقة ألفي دينار وقدّمتها له بترفـّع وقالت بغضب : (خذ هذين الألفين… الله لا يهـّنئك بهما).. قال البائع : (أشكرك يا سيدتي… ولكني مرغم على ذلك.) مضى كنعان متجاوزاً تلك البسطة، ووصل إلى الشارع واستأجر سيارة وصعد فيها، سلـّم على السائق وقال له : – (أوصلني إلى مديرية التسجيل العقاري، كم الأجرة ؟). أجاب السائق بأدب: (ثلاثة آلاف دينار.) قال كنعان : (لك ذلك) ثم أردف متسائلا ً : (ما الأخبار ؟) أجاب السائق بحزن شديد : (أنا راجع الآن من تشييع جثمان شهيد شرطي شاب استشهد في الانبار… أنا اعرفه… كان شاباً طيباً وذكياً ووسيماً… إنا لله وإنا إليه راجعون). قال كنعان بورع : (الله يرحمه) واستأنف قوله متسائلاً : – (ألا تزال الحرب قائمة في هذه المحافظة المنكوبة : الانبار ؟ ليكن الله في عون أهلها). أجاب السائق محبطاً : (نعم لا تزال قائمة… هي لعنة قدّرت على أهلها). وصل كنعان إلى دائرته، أعطى السائق ثلاثة آلاف دينار ونزل من السيارة رأى امرأة طويلة بيضاء ورشيقة، بادرته قائلة : – (هل تتمتـّع معي ؟) سألها كنعان باستغراب : (أين ؟) أجابت : (في المكان الذي تريده.) سألها كنعان بمساومة : (بكم ؟) أجابت المرأة : (بعشرة آلاف دينار فقط)… ستذوق العسل وتحصل على أشياء أخرى لم تجدها مع زوجتك..). قال كنعان بنفاد صبر : (لماذا تبيعين جسدك الجميل هذا بهذا السعر الرخيص ؟ الست متزوجة ؟). أجابت المرأة بإيجاب: (نعم متزوجة من نائب ضابط متقاعد، يلبس ثيابه الفاخرة ويقعد في البيت ويطلب مني أن آتي بعشرين ألف دينار في اليوم من الشحاذة ويقول لي : (وإذا لا تدبرين هذا المبلغ من الشحاذة يمكنك أن تزني لإكماله.). صرخ كنعان محتـّجاً : (يا له من سافل ووضيع ). قالت المرأة مستأنفه : (لذلك الجأ للتمتع مع الرجال في الفنادق لان الشحاذة لا تأتي بهذا المبلغ). قال كنعان بغضب : (لماذا تعيشين مع هذا الحقير، اتركيه وطلـّقيه). قالت المرأة بأسف : (أطلـّقه… وأين اذهب ؟ لا أهل لي لألجأ إليهم بعد الطلاق). قال كنعان مطمئناً : (لا تقلقي… فأنت شابة وجميلة ويمكنك الزواج برجل أفضل من هذا الوضيع). اخرج كنعان ورقة بعشرة آلاف دينار وناولها للمرأة بشفقة وقال : – (خذي هذه العشرة آلاف دينار… ولا افعل لك شيئاً). تناولت المرأة الورقة النقدية وشكرته بلهفة وحرارة. تركها، دخل إلى دائرته… التقى علي فرّاش الدائرة، هتف محيـّياً : – (السلام عليكم) أجابه علي : – (عليك السلام يا سيد كنعان). اجتاز ممراً يشرف على غرفة المساحين فسمع رجلا ً يقول : – (أريد منك أن تثبت حدود قطعة ارضي لأني أريد أن ابنيها… هل يمكنك ذلك ؟). أجاب المساح حميد فنجان :- (هذه مسالة بسيطة… يمكنني ذلك مع خمسة وعشرين ألف دينار فقط). استغرب الرجل قائلاً :- (لماذا ؟ الم تقبض راتباً عن عملك هذا ؟). قال المساح حميد متأسـّفاً :- (نعم اقبض راتباً لا يكفي لأمور المعيشة). قال الرجل متذمّراً :- (انه مبلغ كبير من اجل تثبيت حدود قطعة ارض مساحتها مئتي متر). قال المساح حميد : (لا ليس كبيراً.. فهو لفطوري فانا لم افطر بعد) تساءل الرجل مستغرباً :- (وهل فطورك بخمسة وعشرين ألف دينار ؟). قال حميد :- (لا… انه اقل من ذلك… يضاف إليه قيمة ماكياج زوجتي الأنيقة). اخرج الرجل ورقة الخمسة وعشرين ألف دينار وناولها للمسّاح حميد وقال بسخط :- (خذ هذه الخمسة وعشرين ألف دينار.. الله لا يهنـّئك بها ويدّخلك بسببها جهنم الحمراء). قال حميد وهو يبتسم : (آمين). مضى كنعان إلى غرفته منزعجاً من المسّاح حميد فنجان ومن مساومته الرخيصة والوضيعة. جلس أمام منضدته واخرج ملفاً ، فتحه واخرج قلمه فأخذ يؤشّر على بعض الأوراق ويشرح على أخرى. دخل عليه الفـّراش علي حاملاً بيده (استكان) شاي موضوع على صحن مزخرف ، وضعه أمامه وقال :- (تفضّل يا سيد كنعان.. هذا شايك، اشربه قبل أن يبرد). شكره كنعان بحرارة وسأله :- (ما الأخبار ؟ ما أخبار زوجتك ؟). أجاب علي بحزن :- (سيئة.. طلب مني طبيب لإجراء عملية قلع رحمها مبلغ خمسمائة ألف دينار.. من أين آتي بهذا المبلغ الكبير ؟). قال كنعان مقترحاً :- (لماذا لا تجرى لها العملية في المستشفى العام الحكومي ؟ يجريها الطبيب في هذه المستشفى مجـّاناً). أمتعظ علي وقال بسخط : – (سامحك الله يا سيد كنعان ، أتريد أن تميت زوجتي وعندها أربع بنات وثلاثة أولاد ؟). سأله كنعان :- (هل يميتون النساء في العمليات في هذه المستشفى ؟). أجاب علي متأسّفاً :- (نعم.. مادامت العمليات تجرى مجــّاناً، فالطبيب لا يعتني بإجراء العملية وقد يؤدي عدم اعتنائه هذا إلى موت المريضة). قال كنعان داعياً :- (أعانك الله يا ابا كرار.. وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يمنّ على زوجتك بالشفاء العاجل والصحّة الدائمة). شكره علي قائلاً :- (أشكرك يا سيد كنعان، واسأل الله تعالى أن يستجيب دعاءك) خرج علي من الغرفة ، وآمال كنعان رأسه على الأوراق وانهمك يهمّشها ويشرح عليها ويؤشّر على البعض منها. انقضى الوقت ببطء شديد ، وعند نهاية الدوام الرسمي ، رفع كنعان رأسه عن الأوراق وأعادها إلى ملـّفاتها ووضع الملفـّات في درجه ، ودسّ قلمه في جيبه ونهض قائلا :- (يا الهي.. ارحمنا برحمتك الواسعة.. ثم أردف قائلا :- (هل أدّيت واجبي كما يجب.. أنت اعرف بذلك ومنك الجزاء). خرج كنعان من غرفته ومضى إلى مكان الفرّاش علي فوجده غافيا ً.. لم يوقظه.. بل مرّ عليه مرور الكرام وخرج من باب المديرية إلى الشارع.. رأى هناك سرادقا ً طويلا لمجلس عزاء.. اندهش بحزن.. سأل احد المارة :- (لمن مجلس العزاء هذا ؟) أجابه ذلك الرجل بحزن :- (هذا مجلس عزاء محمد طالب حسين.. الشرطي الذي استشهد في الانبار يوم أمس..) ترحّم كنعان على الشهيد ومشى خطوتين.. رأى سيارة شحن كبيرة مقبلة بسرعة شديدة واقتحمت السرادق وفجّرها سائقها في داخل السرادق حيث تمزّقت أجساد المعزين وأضحوا اشلاءًً مبعثرة ً على السّجاد ، ثم تعالت النيران التي التهمت قماش السرادق وبقيت مشتعلة بأوار يتزايد كلما اشتدت الريح.. رفع كنعان رأسه إلى السماء وقال بتضرّع :- (ها أنت يا الهي ترى ما يفعل البشر بالبشر… ألا تغيـّر أحوالهم وأنت القادر العادل ؟ أتمنى ذلك من صميم قلبي.. ولك الأمر أيها العطوف.. الرحيم)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى