رمضان نايلي - شكراً… أمين الزاوي

نفتح في هذا العدد من جريدة ” الحوار ” الغرّاء، ملفاً خاصاً بالمفكر والمترجم والرّوائيّ الجزائريّ أمين الزاوي، عرفاناً منا له، جزاء ماقدم للأدب والثّقافة الجزائريّة من تضحيات وخدمات جليلة لا يُمكن أن يُنكرها لسان ناكر…أمين الزاوي المُثقف الذي عُرف بآرائه الصّريحة التي لايخشى في الجهر بها لومة لائم …وبمواضيعه الجريئة في الكتابة الرّوائيّة التي تغوص في الأعماق مُتجاوزاً الثالوث المُقدّس عند الذين يقرأون بعين واحدة “الدّين، الجنس، السّياسة “…وفي الإعلام الثّقافي الذي ترك فيه بصمته من خلال حصصه التّلفزيّة والإذاعيّة التي تُعنى بالأدبِ والفكرِ والثّقافةِ .

“الحوار “…وتزامناً مع عيد ميلاده التّاسع والخمسين الموافق لـ: 25 نوفمبر من هذا العام، ارتأت أن تحتفي بالمفكر والرّوائيّ أمين الزاوي على طريقتها الخاصة؛ وذلك بجمع ثلة من أصدقاء ومعارف صاحب ” الملكة ” من كُتَّاب وروائيين ونقاد في هذه الندوة للحديث عن أعماله الأدبيّة المُتميزة.

إعداد: رمضان نايلي.

الرّوائيّ الحبيب السائح ” لأمين عميق محبتي“

ربطتني، ولا تزال، بأمين الزاوي، صداقة يمتد حبلها إلى حوالي أربعين سنة، الآن! كان ذلك منذ أيام الجامعة في وهران، حينها كان الذي قرّب بيننا هو الأدب بعصوره وتياراته وأجناسه؛ قراءة ومناقشة وجدالا، وأكثر منه، كتابة القصة القصيرة؛ فإننا كنا من كتابها الشباب آنذاك.

إلى جانب ذلك، كان المشروع الاجتماعي والسياسي “الحداثي جدا” زمنَها، أحد عوامل تقريب وجهتا نظرينا إلى ضرورة الإسهام في إنجازه، بواسطة الأدب؛ كل من زاوية رؤيته ومن درجة قناعته الأيديولوجية.

كان أمين يبدو متأنقا، دائما، واثقا، هادئا، متخلقا، بلحيته المطلقة وشعره المرسل على أذنيه، لا يفرط في انفعاله، لا يستفز بحركاته ولا بإيماءاته؛ كأنما هو يدّخر ذلك كله لكلماته، حين يكتب قصة قصيرة أو مقالة في جريدة الجمهورية، وحين يتحدث، خلال أمسية أوصبيحة أدبية في معهد اللغة العربية، أو في أحد المراكز الثقافية، في وهران.

فإن كنت أذكر، لأمين، شيئا لا يُنسى، أبدا، فهو إسناده إياي، خلال المحنة الوطنية! فقد آواني، في بيته في وهران، أنا وزوجتي وأطفالي، وأفرد لي، هو وزوجته الصديقة الأديبة ربيعة جلطي، غرفة نومه! كان ذلك منهما ذروة السخاء وقمة الإنسانية. إني لن أنسى هذا أبدا!.

أمين، كأكاديمي، من خيرة أساتذة الجامعة الجزائرية، وكأديب، فهو من أبرز كتاب جزائر ما بعد الاستقلال؛ بما لكتابته من تفرد، وكإنسان، يبقى أحد أعز من عرفت، في حياتي، من الأصدقاء الكتاب.

لأمين عميق محبتي!.

الرّوائيّ بشير مفتي ” أمين الزاوي ..الجنتلمان“

تعرفت على الروائي أمين الزاوي في منتصف التسعينيات أو قبل ذلك بقليل إن لم تخن الذاكرة، وكان يومها يشغل منصب مدير قصر الثقافة بوهران، حيث شاركت في ملتقى أدبي كبير حضره الكثير من الأدباء الجزائريين الجدد حينها، كانت تلك الملتقيات -على قلتها – الفسحة الوحيدة التي يلتقي فيها الممسوسون بالأدب والمنشغلون بالكتابة في زمن الحرب الأهلية والعنف الأعمى، كان المرحوم بختي بن عودة مايسترو، أغلب اللقاءات التي كانت تتم في مدينة وهران وبتشجيع كبير من الروائي أمين الزاوي الذي كان حتى ذلك الوقت في ذهني منشط حصة “أقواس” التلفزيونية التي تبث من محطة وهران، وكانت جرعة ثقافية متميزة يطل بها علينا كل مرة، وكاتب مبدع قرأت له قصصه الأولى ” ويجيء الموج امتدادا ” دون أن أتمكن من الحصول على روايته الجريئة “صهيل الجسد” التي كانت الأخبار والشائعات تضعها في باب الروايات الممنوعة، لكن سعدت بالحصول على سمائه الثامنة التي كانت صدرت بدعم من قصر الثقافة بوهران، لكن علاقتي الشخصية به ستتأخر إلى غاية حضوره إلى العاصمة وتوليه منصب مدير المكتبة الوطنية التي نشطها كما لم ولن ينشطها أحد لا من قبله ولا من بعده، وأعتقد أن هذه الروح الثقافية القوية والمشعة هي التي جعلت الكثير من الكتاب والمثقفين والفنانين يتعرفون فيها على حقيقة شخصية أمين الزاوي “الجنتلمان”، المثقف الذي لا يكتفي بطرح الأفكار والنظريات كما يفعل البعض دون أن يغمسوا أقدامهم أو يلوثوا أصابعهم في الواقع حتى يقوموا بأدوارهم على أكمل وجه، بل راح يقدم برامج عمل كاملة متكاملة تجعل الثقافة حيّة ونابضة في قلوب وعقول الناس .. لقد تعرفت عليه في تلك المرحلة، كصديق أكن له مودة خالصة لما لاحظته عليه من شغف بالأدب وحب للثقافة وروح إنسانية متفتحة لا تلغي أحداً وتنفتح على المختلف بصبر واستقامة نادرة، أما كروائي فلقد استمتعت برواياته التي يلخصها البعض في كليشيهات جاهزة أو يضع لها اتيكيت معين حتى يهجره الجميع، ولكن من يقرأ لأمين الزاوي سيجد أنه يغوص في شعاب المجتمع الجزائري من الداخل، وهو كل مرة يفاجئنا برؤية داخلية لهذا المجتمع حتى نتعرف عليه أكثر بعيدا عن لغة النفاق وقريبا من شفافية الصدق.

الرّوائي محمد جعفر “الجنتلمان أمين الزاوي“

عرفته كاتبا ومبدعا ونصا مفتوحا على السؤال، ينبش في ما يوجع هذه الأمة التي تعاظمت أمراضها وتفاقمت، لا يستكين رغم استهجان ونفور الخانعين للعادة وللطقس، ولكل ما يورث لما يثيره من قضايا شائكة، غير مستوعبين أن غايته إيقاظهم.

ثم عرفت أمين الزاوي الإنسان لاحقا، مرة خلال تسجيل لي معه في حصته الفهرس على قناة الجزائرية، إذ تعطل التسجيل وامتد بنا إلى ساعة متأخرة من الليل، حينها سألني هل لي مكان أمضي فيه ليلتي وأصر أن يصطحبني إلى فندق يدفع تكاليفه أوإلى بيته، وهو الذي لم يعرفني سابقا ولم تكن تربطنا إلى ذلك الحين أي صلة.

وعرفته مرة ثانية في معرض الكتاب، كانت قد مرت فترة طويلة على أول لقاء جمعنا، وبينما أنا أواجه العالم بظهري مستغرقا في تأمل ما تعرضه واحدة من دور النشر، إذ بيد تحضنني من الخلف بكل حميمية، وصوتا يقول لي ويسأل: كِيراك محمد خويا؟، ورغم استعجال من كان برفقتهم له، فقد بقي الرجل لفترة يحدثني ويسألني عن حالي وأحوالي وجديدي، وكان يمكنه أن يمر دون أن أنتبه إليه أو ألاحظه.

يندر أن تجد طيبة كهذه في بلدي، ويصعب أن تجالس مثقفا يكبرك في كل شيء إلا أنه يعاملك بندِّية وجدِّية لا تكلف ولا كِبر فيها، وعليه لا يمكن أن أنظر إليه إلا كجنتلمان حقيقي أو كوافد من العالم الآخر في بلد تدعي غالبيته العظمى أنها تعيش على وقع التحضر والتمدن، بلد غالبيته لا تزال في العمق تغلفها البداوة وتسكنها حتى النخاع.

الرّوائيّ عبد الوهاب بن منصور” الزاوي ..سؤال الحرية الذي لا يخفت!!”

ربع قرن مرّ على أوّل لقاء لي بالروائي أمين الزاوي، وقتها، كنتُ أبحث عن مساحة صغيرة لأتموقع فيها بكتاباتي، الّتي لم تخرج بعد من صفحات بعض الجرائد. أدهشني بقراءته لكل ما كتبت، وأزعجني بأسئلته عن الجدوى والمعنى وفعل التميّز، زيادة عن تواضعه وحفاوته الدائمة ورغبته الملحة في تحريك المشهد الثقافي، سواء لمّا كان بقصر الثقافة بوهران أوخلال تواجده على رأس المكتبة الوطنية، إنّه إنسان مهووس بالثقافة وخدمتها.

لقد ساعدني على نشر أوّل مجموعتي القصصية « في ضيافة إبليس، 1994 »، ووضع مقدّمته، التي أحتفي بها دائما، ولازالت ترافق الكتاب في كلّ طبعاته اللاحقة.

لم يكن نشر الكتاب ولا وضع المقدمة من باب آخر غير تسجيل حضورنا الجميل والجماليّ في زمن الدّم والنهار; كان لزاما علينا أن نقول كلمتنا ونمضي; فالتاريخ لا يرحم جبننا ولا صمتنا.

ربع قرن مرّ، ولا شيء تغيّر فيه ولا عنده; فمنذ أن نشر روايته « صهيل الجسد »; فقد اختار مسلكا صعبا ووعرا، اختار أن يدخل حقولا محفوفة بالمخاطر، أن يطأ كلّ ممنوع ومرفوض، أن يكسِر كلّ ثابت في الثالوث المحرّم، ويُجريه مجرَى العادي تفكيكا وحكيا، فماذا تعني الكتابة إن لم تكن صدمة واندهاشا؟، إنها الكتابة الاستفزازية! كتابة عنيفة يتماهى فيها المدنس والمقدس.

لا أنكر أن أمين الزاوي يخط وينسج تجربته الروائية، كتجربة مميزة وجريئة بعيدة عن كل مثال، محاولا كسر كتاب اليقينيات والمسلمات بطريقة حكائية ذكية، ذكاء الكتابة، انطلاقا من مبدإ الشك، الشك في كلّ شيء، الشك الذي يبدأ من السؤال، السؤال الوجودي، سؤال الحرية الذي تنشده كتابات الزاوي من صهيل الجسد حتى قبل الحبّ بقليل.

الرّوائيّ فيصل الأحمر ” فضل أمين على غيره “

يمثل أمين الزاوي بالنسبة لي ذاكرة لذيذة، وحلا جميلا لإشكاليات جمالية طال طرحها عليّ…جزء الذاكرة مرتبط بما لا يقبل النقاش بإطلالته التلفزية مع برنامج “أقواس في عالم الكتب”؛ تلك الفسحة التي ربينا عليها ذوقا وثقافة وطريقة في التفكير… برنامج أدخل خيرة مثقفي العالم العربي إلى بيوتنا الفقيرة المتواضعة، وهي فسحة مزدوجة بالنسبة لي من زاوية كوني سليل عائلة مثقفة من الطبقة المتوسطة، ولكنها كانت عائلة مفرنسة، بحيث قرأت مئات الكتب بالفرنسية وتعرفت على أسماء خيرة مفكري الغرب – اليساريين خاصة- قبل أن أعرف – والفضل بعد الله يعود إلى أمين الزاوي- عبد الوهاب مدّب، ومحمد أركون، وحسين مرة، وهشام جعيط، والجابري…لأقف مجددا أمام جهل كان لصيقا بي وأنا في قمة الغرور الثقافي؛ جهل كان لابد من علاجه…

الجزء المتعلق بالحاضر الجميل لدي، لديه هو طريقته الخاصة في الكتابة؛ طريقة تجعله يتميز بالوفاء لنفسه من خلال محافظته على محاور مركزية تدور حولها كتبه: المرأة في قوتها التي تدعم هشاشتها، الصلات الإشكالية بين الجنسين، النفاق الشديد الذي يميز المجتمعات الشرقية والأوساط المحافظة، عسر الدخول في مرحلة النضج بالنسبة للطفل الصغير الذي هو نحن جميعا، والذي يلجأ عموما إلى كتابة روايات كي يبرر العسر، التحليل العميق لبنية السلطة التي تبدأ من السلطة الأبوية لكي تفضي إلى الأنظمة الاستبدادية…

والمشكلة التي عانيت منها كثيرا في بداياتي الأدبية هي عدم استيعابي لنزوع الكتاب المفرط صوب جعل أنفسهم أبطالا لرواياتهم، بحيث تجد ثلاثة أرباع الأبطال الروائيين كتابا أو مثقفين أو فنانين…وهي ظاهرة غير منتشرة إلى هذا الحد في الغرب… في الجزائر. يعد أمين الزاوي أول من شفى غليل الكاتب المبتدئ الباحث عن معالم الذي كنته منذ عشريتين، وهذا دين أدين به له ما حييت…كل عام وكل عشرية والأدب الجزائري بخير.

الرّوائي محمد مفلاح “أمين الزاوي من أبرز الكتّاب الذين اهتموا بالإعلام الثقافي“

أمين الزاوي، كاتب حداثي لامع، أثرى المكتبة الإنسانية بنصوصه الإبداعية، وكتبه الفكرية، ومقالاته المتنوعة في الأدب والثقافة. إنه من االمبدعين النادرين في وقتنا الحاضر، آمن بالكتاب وأخلص له، وهو يسعى في كل لحظة لتجسيد شعار مشروعه الثقافي، وهو (شعب يقرأ شعب لا يجوع ولا يستعبد)، فنال بعمله الجاد مكانة متميزة في عالم الأدب والفكر، وكسب احترام محبيه وخصومه أيضا.

ورغم رؤيتي الفنية المختلفة عنه، فأنا قرأت رواياته المكتوبة بالعربية وبالفرنسية أيضا، وبشغف كبير، وهي بحق نصوص ماتعة، لغتها سردية بامتياز، وموضوعاتها الجريئة هادفة ومثيرة للنقاش. وبإصراره هذا على التطرق إلى التابوهات وطرحها بجرأة صادمة، أسس الزاوي لتيار يشتغل على تيمات الجسد دون أن يهمل قضايا الذاكرة الجماعية، إذ انشغل كاتبنا بالهم التاريخي–السياسي، فكتب عن أعلام الجزائر الإشكاليين والوقائع التاريخية المسكوت عنها، محاولا تقديم قراءة متفردة، كما ظلت القضايا الدينية أحد محاور اهتماماته الأساسية في كتاباته المتنوعة.

ويعد الزاوي من أبرز الكتّاب الذين اهتموا بالإعلام الثقافي منذ الثمانينات، فهو صاحب برنامج “أقواس” التلفزي، ومعد برامج إذاعية مميزة، منها “جواهر” و”أوراق وحبر”. وبهذا الجهد المتواصل، أسهم الزاوي في تعرية واقعنا الهش، وفي التعريف بجل الكتّاب المغيبين منهم والمهمشين.

قد نختلف مع الزاوي المفكر الذي خطى لنفسه طريق المواجهة والتحدي، ولكننا نظل نكن له كل الاحترام والتقدير لقلمه السامق، والذي عرفتُه مبدعا شجاعا منذ زمن “آمال”، و”النادي الأدبي”.

وفي هذه الوقفة السريعة، لا تفوتني الإشارة إلى الزاوي الإنسان ذي الأخلاق الدمثة، أطال الله عمره في خدمة الثقافة والإبداع.

النّاقد الدّكتور مخلوف عامر ” أمين الزاوي دأب مذ عرفتُه على محاربة المسلَّمات“

الدكتور أمين الزاوي، كاتب معروف، بدأ مشواره الأدبي منذ سبعينيات القرن الماضي، تتميَّز كتاباته بالإثارة والاستفزاز، بدْءاً بالعناوين التي يختارها لقصصه ورواياته. ولا جدوى من أدب لا يُغْري.

لقد دأب مذ عرفتُه على محاربة المسلَّمات، ولم يكتفِ بأن يعبِّر عن قناعاته شفاهة، إنه يفضِّل أنْ تكون حبراً على ورق، شهادة قد تُشهر في وجه صاحبها في أيِّ وقت.

والذي يتابع عموده في جريدة ( liberté) لا يمكنه أنْ يُنكر جرأته في التصدِّي للفكر الظلامي، رغم ما في ذلك من خطورة على حياته، فأمَّا الذين يُنكرون عليه توظيف الممنوعات، فلعلَّهم لا يعرفون التراث العربي الإسلامي، لا يعرفون امرأ القيس، والنفزاوي وطوق الحمامة وأدب النديم والمختار في قطب السرور، ثمَّ إن حضور “المقدَّس” أو “المدنَّس” في العمل الأدبي يتطلَّب دراسة نقدية متأنِّية تكشف عما إذا كان هذا الحضور لضرورة جمالية اقتضاها السياق أم أنها مقحمة، حتى لا يبقى القارئ عرضة للأحكام المسبقة التي تمليها ثقافة الأذن.

ولا ننسى أنه حاضر في الساحة الثقافية بانتظام، وخصَّص حصصاً عديدة في الإذاعة والتلفزة، للتعريف بكثير من الناشئين والمغمورين.

(د.أمين الزاوي)- بالنسبة لي، ومن خلال أدبه- يمتلك إرادة التميُّز، بصرف النظر عن الطريق الذي يسلكه. فإنَّ التميُّز جوْهر الكتابة الأدبية، فهو قد عاشر أشهر الكُتاب الجزائريين وغيرهم، ولكنَّه كان يسعى دوْماً إلى أن ينسحب من مظلَّتهم، إنه يريد أن يكون هو، ولا أشك في أنه حقَّق ذلك إلى حد بعيد.

النّاقد الدّكتور محمدالأمين بحري ” أمين الزاوي والكتابة بالجسد.. من السرد المتاهي إلى السرد المعرفي“

“تبدأ المتاهة دائماً مما نراه ونعقله لتمتد بنا نحو الطرف الآخر من النظر والعقل”، هكذا تحدث المهندس الأسطوري الإغريقي “ديدالوس” صانع أعقد المتاهات في التاريخ..وهكذا قرأت روايات أمين الزاوي التي لازلت أعتقد بأنها لاتتمحور أبداً حول الجسد كموضوع، بل تنطلق منه كفكرة ومعرفة وصوت لتصل من خلاله إلى ماوراءه منعوا لم وأفكار تسعى لخلق تفاعل ثقافي لحوار منفتح، لذلك تمثل لي هذا النوع من السرد في نموذج سردي متاهي المسالك.

ويتجلى هذاالسرد بصورة أبلغ في روايات الزاوي المكتوبة بالفرنسية في صورة:(la sieste de mimosa – Le dernier juif de Tamentit – chambre de la vierge impure)، وهي روايات تنطلق من السردي نحو الميتاسردي ممايجعل الكائنات السردية فيها عناصرمتحولة سواء في نزوعها التجريدي أوفي خطابهاالمتجاوز لوجودها، مما يؤكد الرهان الميتا سردي (العابرللسرد)،الذي يؤكده الطابع التساؤلي الاستفهامي لنهايات الفصول والروايات نفسها. ليستكمل الروائي هذاالرهان في الروايات المكتوبة بالعربية حيث يبرز الجسد باعتباره كينونة ثقافية ثائرة، دون أن يكون مفهوما لثورة سياسياً، أوإيديولوجيًا، بل قد يكون مبدئياً وثقافياً وتموقفاً أخلاقياً، يشكل أرضية لفتح النقاشوالتخاطب، والتأمل الفكري.

هناك حيث يتحول الجسد إلى منظومة سردية متعددة الأصوات والرؤى. ففي رواية حادي التيوس، نجده جسداً أنثروبولوجياً يحاورالمعتقدات والأعراق والأجناس التي تتجاذب أفكارها في مدار فلكه، وفي رواية نزهة الخاطر يقف الجسد بكل محمولاته وتعابيره مواجها ثالوث مجتمع وأمة وتاريخ لم ينجح أيمنهم في تحديد مفهومه، لذلك يتخذ لنفسه مشروعية مساءلة خطابات هموم نظوراتهم تجاهه، أما رواية الملكة في تجسيد لمرحلة متقدمة بلغها خطاب الجسد في الرواية العربية،حيث جعلت من هذا الجسدفضاءً ميتا سردياًعابراً للثقافات والحضارات والأجناس البشرية، ممايجعل خطاب رواية الملكة في كفة وخطاب باقي الروايات السابقة لأمين الزاوي في كفة أخر ىنظراً لاختلاف استراتيجية الكتابة، حيث نشهد فيها توقف السرد المتاهي، وانفتاح بوابة السرد المعرفي، الذي تحول فيه الآخر (الصيني) إلى ناظر وراءٍ، وتحولا لأنا (العربي- الجزائري) إلى منظور ومرئي، غير أن المدهش في هذه الرواية ليس الترائي المتبادل بين الذات والآخر بقدر ماهو انسجام المنظورين المختلفين ثقافة وحضارة وتاريخاًوكينونة ضمن منظور موحدللعالم، مماجعلني أثني على وصف هذه الرواية بالملكة التي لا ملكة بعدها.

المفكر الدّكتور محمد شوقي الزين ” أمين الزاوي أو كيف نلعب بجدّية بالكلمات“

ليست اللعبة شيئاً هزلياً أو عبثاً، إنها الجدّية بذاتها، ليس غريباً أن يجعلها فتغنشتاين محور التفلسف، وغادامير جوهر الفلسفة التأويلية. أن نلعب بالكلمات هو أن نرى، كلعبة الشطرنج، المواقع والمواقف، حركة الذهن ونظام العلاقات. من يُحسن اللعب هو من يُدرك جوهر اللعبة التي يباشرها في الكتابة وفي المعيش. أمين الزاوي لاعب ماهر ومحترف، بالكلمات التي يصنعها وبالأفكار التي يركّبها. كانت لي فرصة اللقاء به والتعرُّف عليه في ملتقى تلمسان حول الفيلسوف جاك دريدا سنة 2014. قبل أن يتوجَّه إلى جمهوره، يعرف أمين الزاوي خريطة التعبير التي يتمثّلها ومسالك التفكير التي يجوبها. يُحسن إدغام العبارة بالفكرة والكلمة بالصورة، ليس فقط في مختلف الروايات التي يعقد حبكتها، لكن أيضاً في مجمل المستويات المعروضة أمامه من سياسة ودين وفن وفكر وأدب. يتقن هواية اللعب بالكلمات (prestidigitateur) كما يمشي البهلواني على الحبل ليجد التوازن في موقف يثير الخشية من السقوط. إيجاد التوازن الملائم من تزاوُج العبارات والأفكار، هذا ما يُحسن أمين الزاوي اللعب على أوتاره لإيجاد موازين الإيقاع، هذا ما يروم إليه أيضاً بإيجاد توازُن بين الكتابة بالفرنسية والكتابة بالعربية في أزمنة تتصاعد منها أبخرة الإيديولوجيا وحلبات الصراع بين المعسكرين بالقذف بسهام الاتهام. بالنسبة إليه، اللغة هي متعة اللعب بالكلمات لاستخراج جدّية فكرية، تستوي في ذلك العربية والفرنسية، فهو في مجيء ورواح بين عبقريتين تاريخيتين، الأولى بالمخيال الشعري والثانية بالعقلانية الديكارتية، يعرف أن بناء الجسور بين اللغات والقارات عبارة عن جسارة، وتتجلى هذه الجسارة عنده بألف نور ونار، تتوهج في مختلف الكتابات، الروائية أو الفكرية، باللغتين معاً، بالشاعري والعقلاني. كيف نلعب بالكلمات؟ هذا عنوان الجسارة التي يحاول أمين الزاوي التطبُّع عليها في كل عبور على جسور الثقافات، في كل تعبير عن جوهر اللغات.

الشّاعر رابح بلطرش ” أمين الزاوي علامة فارقة في السرد الجزائري“

لم أدع وماأنني كنت من المتابعين لما ينشره؛ لكن كان أمين الزاوي علامة فارقة في السردالجزائري، بما يمتلكه من ميكانيزمات أدبية فرضت نفسها على الساحة العربية بماأثرى به المكتبة العربية، وأيضا حضوره اللافت بما كتبه من روايات سواء باللغة الفرنسية التي يتقنها إتقان المبدع أم بما تُرجِمَ له من روايات للغات عالمية أخرى …ليس هذاالتعريف البسيط هو كل أمين الزاوي هذه القامة الأدبية الحاضرة فينا تفرض سلوكها الحضاري ولو غائبة وتشد كل أسرهاوخيوطها الإبداعية بشيء من الوقار، فهوالدكتورالأكاديمي، وهو الروائي النشيط، وهوالإعلامي والمحاور والمثقف الذي يلج معك إلى كل معرفة وفكر متخذا في الوصول إليها كل طريقة فهو في هذا الجدال المتصل أقرب إلى الفلسفة وهو في هذا الجمال المنفصل أقرب الى الأدب الذي أدار كثيرا من المنتديات والحصص، وهو فوق هذا وذاك الإنسان الذي يهزمك بطيبته كلما اقتربت منه، وينتصر عليك بغيابه كلما ابتعدت عنه . قد تتبنى موقفا أيديولوجيا منه وقد تصبح بينك وبينه عداوة في الفكرة والطرح لكن بمجرد أن تسمع رأيه حين يجبرك على سماع رأيه يصبح أمين الزاوي كأنه ولي حميم ..عرفته عن بعــد فكان هو أمين الزاوي الكاتب الروائي والدكتور وعرفته عن قرب فكان هو ذاته بل أكثر وضوحا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى