عبدالرزاق الربيعي - خطوات مع حسن مطلك الموت ثأراً لكرامة التاء المربوطة!

" لماذا وُجِـدتُ بكفين مبسوطتين
وكُبّلتُ بالاسم
والدين والعائلة؟
لماذا يساعدني الرب كي أقتلهُ؟."
حسن مطلك




ثلاث مرات أقف عند حقيقة غياب حسن مطلك الأبدي دون أن أكون مصدقاً.. وكيف أصدق أن كل الحيوية التي يمتلكها حسن مطلك والطموحات والمرح والموهبة المتفجرة المنطلقة كالشهاب يمكن أن تتجمع في حفرة ضيقة بعنق مثلوم وتهال عليها الأتربة بصمت دون وداع ودون مشيّعين ودون عزاء كما تقتضي الأعراف (البوليسية)..؟.
كيف أصدقُ هذا الغياب المبكر الذي أفجع أصدقاءنا المشتركين: عدنان الصائغ، خضير ميري، فضل خلف جبر، سعيد الغانمي، د.عبدالله إبراهيم، علي الشلاه.. بل أفجع كل الوسط الثقافي الذي كان حينها لا يزال مشغولاً بتفكيك رموز (دابادا) روايته التي شكلت علامة بارزة في الرواية العراقية، لكنها لم تأخذ حقها من الاهتمام النقدي لصعوبة الدخول إلى عوالمها السرية أولاً، ولرحيل صاحبها المفجع الذي أغلق الباب على التناول النقدي لها.. بل صارت قراءتها تتم بسرية تامة بعيداً عن أعين الرقباء!!!.
لقد جاء غياب حسن مطلك دون سابق إنذار، وكنت على موعد مؤجل معه، فقد اتصل بي قبل غيابه بمدة قليلة من (كركوك) وكان في دورة تربوية ـ إذ كان قد دخل سلك التدريس ـ ووعدني بزيارة قريبة، لكنه لم يزرني..
وبقيت أنتظره حتى فاجأني أحد الجنود العائدين من الإجازة الدورية، وكان من سكنة قرية (سُديرة) في (الشرقاط) الواقعة جنوب الموصل، قائلاً بهمس: أن أديباً يدعى (حسن مطلك) قد أُعدم بتهمة المشاركة في محاولة لقلب النظام!!.
وكانت أخبار الإعدامات تتصدر الصفحات الأولى من أحاديثنا.. ولم أصدق الخبر.. وعندما ذكر تفاصيل عن عائلته، أحسست أن المعني بالأمر هو صاحبي وأخي.. سألته: أمتأكد من أنه قد أُعدم؟ أم هي إشاعة؟. أجاب: أية إشاعة؟ لقد كنت حاضراً عملية الدفن!!!.
فصُعِقتُ.. تلمست جرح أخي (عبدالستار) الذي أحمله في صدري كسرٍ دفين في زمن تصبح فيه الشهادة عاراً، وفعلة ذميمة يتوجب علينا أن نتبرأ منها.. بل ونُقبّل خناجر القَتَلة وإلا اتهمونا بالخيانة.. وما أيسر ذلك في زمن تداخلت فيه الشجاعة بالجبن والانتصارات بالهزائم!!.
عندما سمعتُ هذا الخبر استأذنت من الضابط وخرجت إلى العراء وبكيت بحرقة على أخي الثاني الذي توسد التراب معدوماً.. حسن مطلك.
في اجازتي نقلتُ الخبر إلى صديقي الشاعر عدنان الصائغ فصُعق هو الآخر.. واستأذنني لمواصلة نزيف (عبود) في هذياناته المُرة الزرقاء التي حملت فيما بعد اسم (نشيد أوروك)..
هكذا كنا نخبيء أحزاننا ما بين السطور!.

* * *

بعد عامين، رن جرس هاتفي في الجريدة ـ كنت حينها أعمل محرراً ثقافياً في جريدة (الجمهورية) ـ أخبرني موظف الاستعلامات بوجود ضيف ينتظرني. نزلت، تفرست في ملامح الضيف، عانقته صامتاً.. بدموع يابسة.. سألته: أصحيح الخبر؟ أشار؛ نعم.. ثم أضاف:" ها أنا أفقد شقيقي كما فقدت أنت شقيقك عبدالستار من قبل..".
سحبته إلى الخارج.. وبعد مسيرة خطوات أجهشت بالبكاء.. ولم يكن ذلك الضيف سوى شقيق المرحوم حسن مطلك القاص (محسن الرملي). كان المرحوم قد عرفني به حيث جمعتنا كلية واحدة (الآداب) في جامعة بغداد بقسمين مختلفين، إذ كان يدرس اللغة الإسبانية، وكنت أدرس اللغة العربية.. وفي لقاءاتنا الأولى عرض عليّ قصته (العصر الطبشوري) فأعجبتني لغته والتقاطاته الذكية وحسه الساخر، فارتبطت معه بصداقة مستمرة لهذا اليوم.. خرجت من تلك الزيارة بيقين مُرّ: هو أن صديقي قد غاب إلى الأبد بشهادة اثنين؛ صديقي الجندي وشاهد من أهله.

* * *

وبالأمس وصلتني رسالة من مجلة (ألــواح) تدعوني للمشاركة في ملف أُعد عن الراحل (حسن مطلك) وفيها تحديد سنة ويوم وساعة شنق المرحوم.. وكانت العبارة قاسية جداً.. وهذه هي المرة الثالثة التي أقف فيها على حقيقة غياب حسن مطلك.. غير مصدق.

* * *

عبارة:" أُعدم شنقاً بتاريخ 18/7/1990 الساعة السابعة مساءً ". التي ذُيلت بها دعوة المجلة أعادتني إلى الوراء كثيراً.. تذكرت اللحظة الأولى التي عرّفني بها الأخ الناقد سعيد الغانمي بحسن مطلك، وكنا حينها نتجول في شوارع مدينة (الحرية) كما اعتدنا كلما عاد (الغانمي) من مدينة (الموصل) مجازاً، إذ كان يدرُس الترجمة في جامعتها وهناك التقى بحسن مطلك وربطتهما علاقة وثيقة.. وإذا بشاب تبدو عليه الحيوية والعافية والمرح يعترض طريقنا بطريقة (هستيرية) فاصطخب سعيد الغانمي على غير عادته الهادئة وعانقه بحرارة ثم قال لي: هذا هو حسن مطلك الذي حدثتك عنه. ـ وكان صديقي الشاعر فضل خلف جبر قد حدثني عنه أيضاً ـ وقدمني سعيد له فقال: لقد سمعت بك كثيراً، وقرأت لك.. وتشوقت للقائك.

* * *

كان هذا اللقاء فاتحة للقاءات عديدة طويلة.. في بغداد والموصل.. وكنا كلما نفترق نتفق على موعد قادم قريب تتخلله اتصالات هاتفية لا تنقطع. فإضافة إلى مواهبه في الرواية والقصة والرسم والشعر كان صاحب شخصية اجتماعية محبوبة تتسم بالجرأة والمرح.. وكثيراً ما تداولنا سرد (مقالبه)، ومنها أنه ذات مرة أقدم على فسخ خطوبته من معلمة جادلته بكلمة كانت تكتب بتاء مربوطة بينما أصرت هي (خطيبته) على أنها تكتب بتاء مفتوحة فاضطرته إلى فسخ خطوبته منها: ( ثأراً لكرامة التاء المربوطة) كما كان يقول.

* * *

وها هو يفسخ ارتباطه بحياته مبكراً ثأراً لكرامة الوطن الذبيح.

* * *

في لقاءاتنا تلك كانت تسيطر على أحاديثه فكرة كتابة نص مغاير، غني بالدلالات، يخترق جدران النص الروائي السائد، حيث تصبح اللغة عجينة في يده يغنيها بمخيلة جامحة.. ممزقاً البناء التقليدي الروائي المتوارث.. وكان يتفاخر بكتابة نص جديد يطبق فيه هذه الفكرة.. جديد بكل المقاييس الفنية الروائية المألوفة. وعندما نسأله: ومتى نقرأ هذا العمل؟ كان يجيب: لا يزال الوقت مبكراً. ولم يكن ذلك العمل سوى روايته المعروفة (دابادا) التي أنفق في كتابتها خمس سنوات.

* * *

ذات مساء قدمتهُ للجمهور في أمسية نظمها (منتدى الأدباء الشباب) حيث قرأ قصته (إشارات قبائل القاعة) وكانت مفاجأة للجمهور.. لذلك طلبتُ منه القصة لنشرها في مجلة (أسفار) وقدمتها لهيئة التحرير.. وإذا بالجميع يسألني عن صاحب هذه القصة الرائعة فقلت لهم: أنه قاص من الموصل.. فطلبت الهيئة مقابلته وأبدت استعدادها لطباعة مجموعة قصصية له ضمن منشورات المجلة.. أخبرت حسن مطلك بذلك.. فابتسم وقال: سأعرض روايتي (دابادا)..

* * *

بعد أسابيع جاء حاملاً مخطوطة روايته، وكانت هيئة مجلة (أسفار) تتوقع أن تقرأ نصاً روائياً كباقي النصوص، لكنها فوجئت بـ(دابادا).. حتى أن أحد الأعضاء قال: أهذه رواية أم مصيبة؟ لقد انزعجت أثناء قراءتها لدرجة أنني ضربت أولادي عندما فرغت منها!!!.

* * *

وظل حسن مطلك يفتخر بهذه الشهادة.. ويؤكد لنا: ألم أقل لكم أنني قد كتبت عملاً جديداً بكل المقاييس الفنية؟.
لكننا نعترف بأننا لم نفهم (دابادا) إلا بعد رحيل حسن مطلك الملغز.. لقد عاش حسن مطلك بيننا لغزاً.. وكانت كتابته ملغزة وحتى رحيله ظل لغزاً..
إن (دابادا) صرخة احتجاج اختارت لها هذا الشكل لتخفي عنق صاحبها بين السطور.. لكنه لم يسلَم من القطع.. لأنه كان منذوراً لقضيته..

* * *

وذات يوم أخبرني بأنه سيطبع الرواية في بيروت بعد اتفاقه مع ناشر عربي.. وبالفعل طُبعت الرواية وجاء هو من (الموصل) بسيارة خاصة يضع في صندوقها الخلفي نسخ الرواية التي تسلمها من (بغداد).. وحدث أن كنتُ في المجلة.. فاتصل الأهل بي وأخبروني بوجود (حسن) في البيت.. تحدثت معه واتفقنا على اللقاء في (اتحاد الأدباء)..

* * *

في الموعد جاءني حسن حزيناً بدون سيارة.. ولا رواية..:ـ ماذا جرى يا حسن؟.
ـ عند خروجي من بيتكم (وكانت قرب بيتنا سكة حديد) توقف السير لقرب وصول القطار.. وبعد لحظات فوجئت بشاحنة تضرب سيارتي من الخلف وتدفعني إلى ما وراء السكة قبل وصول القطار بأمتار.
ـ الحمدلله على السلامة.. وأين الرواية؟.
ـ بعضها تناثر على السكة فعلكته عجلات القطار والبعض الآخر تمزق بفعل الارتطام بحديد السيارة.. ومع ذلك فقد نجت بعض النسخ التي أعدتها إلى بيتكم مستعيناً بأخوتك على حمل الرواية..

* * *

ومن أطرف ما جرى ـ كما روى لي أخوتي ـ أن (حسن) خلال تلك الصدمة شاهد نسخة من الرواية عالقة بحديد الصندوق المهشم ولا تستطيع الأيدي انتزاعها فقال للـ(فيترجي)ميكانيكي: أنظر إلى تحت ستشاهد رواية (دابادا)، إنها روايتي.. وهي هدية مني لك، انتزعها واقرأها فإنها أخطر رواية تقع عليها عيناك.
فابتسم الرجل ولم يفهم كلام حسن. وعندما سمعت بالخبر سألته: إذا كان الأديب الفلاني وهو دكتور في الجامعة قد ضرب أولاده بعد قراءة روايتك.. فماذا سيفعل هذا الرجل البسيط؟.. قد يضطر إلى ضربك أنت..
وبقينا نضحك كلما تذكرنا ذلك الموقف.

* * *

وفي أشد لحظات مرحه يكون حكيماً أيضاً..
ذات يوم زرته مع صديقي الشاعر فضل خلف جبر في قريته (سُديرة) ولم يكن حينها في المنزل، عندها قادنا أحد أخوته إلى حقل قريب، وهناك وجدناه يعمل بنشاط كفلاح محنك.. كنت حينها ضجراً من كل شيء.. وكانت الحرب العراقية الإيرانية قد أكلت الأخضر واليابس وتركت جثة صديق عمري الشاعر (صباح أحمد حمادي) محروقة في العراء ولم يدل عليه سوى اسمه المحفور في القرص ورماد كتب دامية.. وكان هذا الحادث قد خلف في قلبي ندوباً من القنوط واليأس فلجأت إلى صديقي حسن مطلك، فارتدى ثوب الواعظ وراح يحدثني، وهو يحفر بمسحاته الأرض ليساعد الماء على الوصول إلى نبتة صغيرة، عن ضرورة مجابهة الواقع والظروف المحيطة بنا بصلابة.. وأثناء عمله ذلك عثر على جذر نباتي غليظ، قال: أنظر إلى هذا الجذر.. هل تعرف إلى أين يمتد؟ إنه يمتد حتى النهر الذي يقع على بعد خمسين متراً من مكاننا هذا.. هل تعرف طول الشجرة التي يغذيها هذا الجذر الذي يمتد حتى يصل إلى النهر ليمدها بالماء؟ قلت له: بالتأكيد أنها شجرة عملاقة..
عندها قادني من يدي متتبعين الجذر حتى وصلنا إلى نبتة لا يتجاوز طولها الخمسة سنتمترات!!.
قال:ـ من أجل أن تعيش هذه النبتة الصغيرة فإنها تكافح العطش فتمد جذورها حتى تصل إلى النهر.. عندها تعانق الحياة باطمئنان.

* * *

لكن (حسن مطلك) بعد حين عانق موته لكي نفهم (دابادا).

* * *

واليوم.. بعد أحد عشر عاماً على غيابه الذي يبدو أكيداً.. نتساءل:
ـ هل حقاً فهمنا (دابادا)؟.
هل حقاً فهمنا هذا اللغز الذي اسمه (حسن مطلك)؟.




DABADA.JPG

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى