عبد العزيز بركة ساكن - الأخدود

سألني السائق سؤالاً أخيراً
عندك جد فى العرديباب ؟
قلت له مؤكداً وبشكل حاسم
نعم عندى جد واسمه الحاج عندلة.
ثم سألني وكأنه يريد أن يؤكد شيئاً
هل هو موجود حالياً... فى الأيام دى بالذات.
لا أدرى لماذا يتدخل السائقون الثرثارون فيما لا يعنيهم،أنا ذاهب الي العرديباب، وعليه أن يكبح فرامل عربته فى العرديباب، وينزلني وينطلق فى شأنه نحو أعالي النهر، عند الحدود الأثيوبية، ما يهمك أنه موجود حالياً أم غير موجود، ما شأنك، أنا لا احب التحشر فى شئون الآخرين وبالتالي على كل شخص أن يلزم حدوده.
ما عارف.
قلتها جافة وعدائية و حاسمة كبصقة فى وجهه. وبعدما قفزت العربة على خورين معشوشبين مشجورين شجراً كثيفا، توقفت، قاصدا طريقاً للمشاة تعبر الغابة نحو الغرب، قال لى:
أنزل الشارع ده يوصلك للعرديبات، والله يكون فى عونك.
ولو أن،والله يكون فى عونك، أغاظتني للغموض الذى يكتنف مدلول مايريد قوله، إلا أنها كانت ستصبح مفتاح كل شئ إذا كنت قد صبرت عليها بعض الشيء وسألته: تقصد شنو.. ؟
ولكن كبرياء أولاد المدينة،ولابسى مناطلين الجينـز والتى شيرتات ذات الألوان الباهية، يسيطر علىّ، وحقيبتى على كتفى توهمنى بأن بها كل ما أريد ولا احتاج لأحد، حتى إذا لم أجد جدى، أنا اعرف كيف أتصرف، نعم أنا لا أعرف جغرافيا المكان بالقدر المطلوب، ولكننى لست فى سيبيريا أو غابات الأمازون، أنا فى السودان وفى الشرق نحو الجنوب قليل، حقيقةً أن بهذه المنطقة دارت حروب طاحنة، لفترة طويلة من الزمان إلا أنها مفتوحة ومعروفة لدى الجميع، ولا يوجد شئ غامض فى هذا البلد، ولا أراضى لم تطأها قدم إنسان ولا ثعابين تطير ولا … ولا، لكن يقصد شنو بالله يكون فى عونك. سلكت طريق المشاة عبر غابة النبق والدوم، وكنت أصادف بين حين وآخر بعض نباتات القنا العملاقة، رأيت قرداً صغيراًً، رأيت قردين، رأيت أرنباً كبيراً رأيت قطين متوحشين، ورأيت ثعباناً صغيراً، رأيت طائر هدهد كبير يحفر الأرض بمنقاره ويصطاد الدود، رأيت قرداً كبيراً على شجرة دوم، رأيت فأرين، فهى مشاهدات عادية فى مثل هذه الأمكنة، وأنا أيضاً مشاهدة عادية بالنسبة لها، فلم تخف منى الأشياء ولم أخف منها، ولو أننى فزعت عندما رأيت القرد الكبير أمامى فجأة على شجرة الدوم، ثم عندما ابتعدت عنه، عدة خطوات ورمانى بدومة، ثم رمانى بدومتين ثم استطاع أن يصيب رأسي بدومة تؤام كبيرة الحجم، هرولت قليلاً، وبعد عدة متعرجات شوكية أصعدنى الطريق ربوةً عالية، عن طريقها استطعت أن أرى قطاطى القرية والتى تبعد ما لا يقل عن خمس كيلومترات، صعدت على هيكل دبابة قديمة محطمة وأخذت أنظر الى اتجاهات الدنيا الكثيرة، بدأ واضحاً لدىّ أن هذا المكان هو الذى شهد المعركة الحاسمة بين الجيش والمليشيات، وهى المعركة الوحيدة فى التاريخ التى انتهت بهزيمة الجيشين فى آن واحد، أسماها الجيش معركة الفتح المبين، و أسمتها المليشيات، نصر الله، فالمليشيات كانت تريد أن تسيطر على الكبرى الذى يعبر النهر، أو إذا لم تستطع الاحتفاظ به فى إدارتها العسكرية،عليها تدميره، لكى لا يستخدمه الجيش فى أغراض عسكرية، والجيش أيضا كان له نفس الهدف: تدمير الكبرى أو السيطرة عليه، أما الكبرى نفسه فقد بناه سكان القرية الذين يعملون فى الصيد غير الشرعى للحيوانات البرية من الغابة المقفولة، والتى تقع فى الجزء الشرقى من النهر، بنوه مستخدمين سيقان المهوقنى والتِك العملاقة، وهو كبرى عائم يرتفع مع ارتفاع النهر وينخفض مع انخفاض منسوب النهر، مربوطاً من نهايات أركانه الأربع، بنوع من الحبل الذى لا يمكن أن ينقطع نتيجة لأي قوة شد، وهو مصنوع من جلد فرس البحر المعالج بالقطران وألياف الرافيا والسعف ولحاء بعض الأشجار الأخرى، مشدوداً على شجيرات عرديب ثلاثة بالشاطئ الشرقى، وأربعة بالشاطئ الغربى للنهر يستطيع هذا الكبرى أن يمرر دبابة ضخمة من طراز 55 الروسية ذات البرج العالي المجنزرة والتى تزن خمسين طناً من الحديد الصلب والذخائر والجنود المدججين بالموت والذكريات، أما ناقلات الجنود الأمريكية الرشيقة والتى تخص المليشيات فأنها تنـزلق على الكبرى مثل لُعب الأطفال، دعنا من الجيش والحروب، قلت لنفسي، ولو أن ذكرى الجيوش والمعارك تثيرها مشاهدات المقذوفات الفارغة وخوذات العسكر والآليات المحترقة التي ترمي هنا وهناك بين المقابر الجماعية، على أفرع الأشجار، أو مدفونة في الأرض.
بعد مغيب الشمس بقليل كنت عند مطلع القرية، وبدأ صوتها واضحاً، نباح الكلاب، نهيق الحمير نداء الأمهات لأطفالهن، بين وقت وآخر يعلو صوت رجل راطناً أو مغنياً أو لاعناً أو مجيباً لنداء، تذكرت أن أحد الذين قابلوني فى الطريق قال لي: منزل جدك هذا قرب النهر، لكي أذهب الي النهر لابد من عبور الحلة كلها، وحَلَّ الظلام الان، تراكمت بعض السحب الداكنة سريعاً فى شرق السماء،عندما ناديت أهل أول بيت من خلف زريبة شوكهم.
يا ناس البيت سلام.
رد عليّ صوتُ امرأة شابة
أهلاً وسهلاً،إتفضل،منو...
كان الظلام دامسا، لا أرى ولا أُرى ولكن الصوت الحنين الدافئ القادم من الداخل، بلهجته الصعيدية الحميمة، أصابنى بالطمأنينة، وربما لما يحمله من أنوثة ملحوظة، وأنا شخص طالما وصفني أصحابي بأنني أميز هذه الأشياء، وقطع سلسال تفكيرى صوتها سائلاً:
منو........ ؟
أنا ضيف... ؟
وأنضم للصوت الأول حمحمة امرأة عجوز ويبدو أنها الأم:
إتفضل قدّام.
وجاءتا ببطارية لترشداني الي المدخل والذى يقع علي الجانب المقابل لموقفي، فمشيت نصف الدائرة شمالاً إلى أن وجدتهما واقفتين، أُجلست على راكوبة صغيرة تفوح من جوانبها رائحة الروب والسمن والشرموط، ايضاً السمك المجفف، يبدو أن خلف الراكوبة يوجد حمار أو حماران، فصوت زفير منخر ضخم كان يصلنى من هنالك، وشخير عميق يأتي لسمعى من عمق ظلام القطية، قدمتا لي ماءً من زير قريب بارد، سألتني الأم والتي مازلت لا أستطيع أن أتبين ملامح وجهها،
من وين جيت... ؟
من القضارف.
أنت ود منو.......؟
أنا ود الحاج عندله..
وهنا فجأة سمعت صوتاً يأتي من داخل ظلامات القطية قوياً وحاداً....
دا منو الضيف القال هو ولد الحاج عندله دا...؟ تعال لي جُوا هنا. تعال جوا هنا..
وتبع ذلك جلبة شئ يصطدم بشئ، وشئ يقع علي شئ، شيئان يسقطان علي الأرض، يصدران رنيناً يطول، ثم حشرجة حنجرة يابسة قديمة صدئة ثم شحذ سكين علي خشب جاف، وأصوات أخرى.
تعال جوا هنا...
وفي ذات اللحظة التي نهضت فيها للذهاب إلي الداخل، أمسكت الفتاة بيدي وجذبتني إلي خارج الراكوبة، قالت جملة واحدة قوية.
أهرب... اقطع البحر، ولو ما قطعت البحر: حتموت.
ولا أدرى كيف قفزت علي الشوك الذى ما كنت أراه، ودرت دورتين حول نفسى، كنت خلالهما أبحث عن الاتجاه الذى يجب علىَّ أن أجرى نحوه، تجاه النهر، ولكن حينما صاح الصوت مصدراً عواءً وكأنه ذئب جائع منذ ألف عام، جريت دون أن أفكر، ثم سمعت عواءً مشابهاً من جهات أخرى، ثم عواءً مشابهاً ثم عواءً آخر: خمس أصوات ذئبية تنطلق من خمس بقع فى الظلام، ثم نبحت كلاب الحلة مذعورة ثم أخذ ضوء البطاريات ينطلق من هنا وهنالك، شارخاً الظلام، صراخ نسوة، صياح أطفال صحوا مذعورين على العواء المرعب، صوت أقدام مهرولة، بل دوى طلق نارى شاقاً الفضاء، مما شلّ ما تبقى لدىَّ من تفكير، وجدت نفسى الآن على حافة النهر، ويقترب العواء منى أكثر، حيث تجمع - على ما أظن – الخمسة وأصبحوا مجموعة واحدة منطلقة خلفى، لم أفهم شيئاً إلى تلك اللحظة، لا أعرف غير أنه يجب علىَّ أن اهرب، وأعبر النهر حتى لا أموت، سقطت على مياه النهر مباشـرة،ً وكنت ممسـكاً بحقيبتى بشكل جيد وتام، وعنـدما انتبهت لخطأ المغامرة، خرجت من الماء، نزعت نعلىّ وأودعتهما حقيبتى، كذلك منطلون الجينـز والقميص، وأصبحت عارياً إلا من لباس داخلى قصير، ثم وضعت حقيبتى الصغيرة على ظهرى، وحمالتيها تدوران حول إبطى، وسبحت، كان ماء النهر بارداً وثقيلاً. وعندما كنت على الشط الآخر، وصلوا الشط الأول، أضاءوا نحوى بطارياتهم، ثم صاح واحد منهم بصوت أجش حامض، وكأنه نهيق حمار،هناك حتاكلك كلاب السِمِعْ، أخير تعال هنا نأكلك نحنا.
ثم علا ضحكهم ثم رطنوا، ثم ضحكوا مرة أخرى، ثم قال لي آخر منادياً، بينما كنت أنا اهرب مختفياً فى الغابة الكثيفة، بكرة نعرف خبرك... دخلت الغابة الملعونة براك، برجليك. ضحكوا،عووا، صاحوا في رعُب ضحكوا، ثم أكدوا بصوت واحد، أنني لن أنجو من كلاب السمع. و اختفوا تماماً وتلاشت أصواتهم تدريجياً.
لم أتوغل في الغابة لأنهم قالوا إنها الغابة الملعونة، و ورد ذكر كلاب السمع الشرسة، والتي اعرفها و أخاف منها بشكل جيِّد، وهى لا تستغرق عندها وليمة من ثور الجاموس غير خمس دقائق، يختفي عن الوجود، ولن تبقى من دمائه ولا قطرة واحدة، فقط هيكله العظمى كشاهد على الوليمة، صعدت شجرة وجلست على فرع منها، لا يبتعد عن الأرض كثيراً، سوف لا أنام وعندما تشرق الشمس غداً، ربنا كريم، يبدو أنني نعست لأنني أخذت أسمع صوتها يناديني، عميقاً دافئاً قروياً حنيناً ولا مبالٍ، وسمعت خطوات تتعثر ولكنها تقترب في ثبات
ولد الحاج عندله.. ولد الحاج عندله.. ولد الحا..
نعم هى ذاتها، والغريب فى الأمر أننى لم أخف منها، بل صحت مباشرةً بأننى هنا على فرع الشجرة، وأقتربت، لم أستطع أن أتبين ملامح وجهها ولكنها بلا شك كانت جميلة، إن الصوت دائماً كما يقول صديقى – أبو ذر– دالة فى الوجه، كانت تحمل بخسة من لبن البقر مخلوطاً بالسمن، وأنا أحب اللبن وأحب السمن أيضاً وأحب البنات، طبعاً أكثر: أن أنجو.
طلبت منى أولاً أن نغادر هذه الغابة الملعونة، والتى هي أخطر من الرجال الذئاب، فهى مسكونة بالشياطين وكلاب السمع ولا يجرؤ أحد من القرية دخولها ليلاً، وأنها لولاى لما فعلت، فحملت حاجياتى،عبرنا النهر، عبر بقايا الكبرى المتهالك ومشينا قليلاً على ضفة النهر الغربية ثم، أشارت الىّ إلى طريق أضاءت جزء منها بالبطارية، وقالت لى إنها تقودنى إلى قرية آمنة.
جلسنا تحت شجرة، أخذتُ من بين كفيها قرعة اللبن الدافئ المسمن، وفى شفطتين طويلتين أتيت على كل محتويات الماعون، وأخذت أتنفس بصورة متسارعة وألحس شاربى بلسانى، متصيداً بقايا اللبن عليه، مستفيداً من أنها لا تستطيع أن ترى ذلك فى الظلام، كنت جائعاً جداً، ثم أخذت أرتجف بصورة مرعبة، لا أدرى لماذا أرتجف، خوفاً، شبعاً،أم باللبن شيئ ما سوف يفقدنى الوعى وأصبح فريسة ساهلة لهولاء المتوحشين... لا... لا... أنا أثق فى المرأة، لأننى أحب النساء وكنت أعرف بينى وبين نفسى أنه يستحيل أن تلحق امرأة بى ضرراً ولو يسير، لأن لدى النساء مِسبار سرى مسحور يعرفن به من هو عدوهن ومن هو العاشق، كما أننى استبعدت فكرة أن تتآمر هذه البنت علىّ، لأنها هى التى انقذتنى، قلت لها بصوت مرتجف:
أنا أشعر بالبرد... أشعر بالبرد والحمى.
فتحسست معصمى، ثم وضعت كفاً على خدى، كما لو أنها تقيس درجة حرارته، ثم قالت:
أنت بردان لأنك عمت فى البحر، أنت ما عارف الكبرى الجينا بيهو قبل شوية..
والله ماكنت عارفو.. فقط سمعت به مجرد سمع.
قالت ببساطة وبكل براءة تعال!
ثم نزعت ثوباً كانت تلتف به، نزعت جلبابها و أخذتنى الى صدرها..
حسِّى حَتحِسْ بالدفُو.
وعندما ضمتنى إليها بشدة، تأكد لى صحة جملتها الأخيرة، كانت طويلة، أطول منى، ذات جسد ممتلئ كالتيتل، ضمتنى إليها مسقطة صدرى بين نهديها الكبيرين، كانت تفوح منهما رائحة الكسرة الساخنة، كنت مندهشاً جداً لدرجة أننى ما كنت أفكر فى شئ، ولا الحمى ذاتها، كانت مثل أم أسطورية نزلت من الجنة الآن وهنا، ومن أجلى بالذات، قلت فى ذاتى...
سبحان الله، اليجيب قتالك يجيب حجازك، وعندما ضمتنى إليها بشدة، أحسست بأن رجليَّ ما عادتا تحملاني، بل لا وجود لهما، وكلما كنت احس به، من أعضائى، صدرى، الذى فى وسط بطنها الدافئ ورأسى التى بين طرقتى كسرة شهيتين، وكنت قد طوقت بذراعى وسطها، فى محاولة منى المشاركة فى هذا الاحتفاء الإنساني البديع... هذا المهرجان الجسدى الحار... قلت لها:
فلنرقد على الأرض، فأنا لا أستطيع الوقوف.
أحسن... قالت أحسن، نرقد فى الواطا... هل اتحسنت ولا لِسّع خايف؟!
وكنت سأجيبها إذا كنت أعرف، اتحسنت أم لا، ولكننى كنت – بالتأكيد – أحسن حالاً، فلقد أصبحت متماسكاً و اختفت ما تشبه الحمى من جسدى ولكن، أصبت بحالة من مالا يسعفنى قاموسى اللغوى البسيط على تسميته، بالتأكيد إن لحالتى اسما، وكنت ببساطة.. دعونى أقول لكم،أرقدتنى على صدرها وطوقت خاصرتى بذراعيها الطويلين كأذرع الغوريلا، كانت شفتاى فى نهاية حلمتى ثدييها اللتان من شعور غامض عرفت انهما لابد أن تكونا كبيرتين، ودون أن أفكر حركت رأسى قليلاً ناحية هرم ثديها، حيث واجهت شفتاى الحلمة الكبيرة الدافئة، أغرتنى رائحة الكسرة الساخنة، ودونما تفكير أخذت أرضع كالطفل.. تحركت قليلاً، وأظنها كانت تبتسم مشفقة وهى تقول لى فى حنان دافق:
أنت جيعان لِسّع... مسكين لو عارفة كنت جبت معاى لبن أكتر..
ثم أضافت فى براءة ..
ما حتلقى لبن فيهم لأننى لم ألد، زوجى توفى منذ أعوام كثيرة وأنا عروس، ما حتلقى فيهم أى شئ.
قلت لها..
أنا ما عايز لبن.
عايز شنو.. ؟!
قلت وأنا دائماً جرئ مع النساء ولا أخشى ردود أفعالهن، لاننى أعتبر نفسى صديقاً لكل بنات الدنيا وأنهن يوقعن فعلى وقولى الموقع الحسن،عايز أرضع وبس.
قالت وهى تضحك حقيقة فى هذه المرة، لأننى سمعت ضحكتها بأذىَّ.
أرضع.
ودفعت بصدرها نحوى بغنج انثوى دافئ.
وهى تسحب القطعة الوحيدة التى كنت أحتفظ بها من ملابسى، وبحركة رياضية بارعة أسقطت جزئى الأسفل ما بين نهريها، وفجأة وجدت نفسى منبلعاً كُلى فى المرأة، كما لو كانت شقاً على الأرض انفتح فجأة ابتلعنى ثم انسدت، مرة أخرى، أنا دائماً ما أقول إن المرأة هى أصل كل شئ، وكل شئ يعود الى المرأة وأتفه العائدين إليها وأولهم هو الرجل، وهى أيضاً الحقيقة الوحيدة، وهى الدفء الوحيد فى العالم بعد أن تغيب الشمس، وهى الأم التى باستطاعتها أن تلدنا فى كل لحظة، ولم يقطع حبل امتداحي للمرأة سوى صرختها عندما بلغت قمة نشوتها،
يايوووووما...
خرجت الصرخة من عمق سحيق وكأنها آتية من خلف قرن من الزمان، جلسنا نحكى لبعضنا عن بعضنا والأشياء، وقلت لها عندما قالت لىّ أهرب، كنت أظن أن جدى الحاج عندله قتل شخصاً ما أو أنه مطلوب فى ثأر، وأننى إذا لم أهرب لثأروا منى، سخرت منى ضاحكة فى غنج جميل قائلة وكنت أرى قربتى لبنها تهتزان فى الظلام،
نحنا هنا ما عندنا تار..
ثم حكت لى كيف توحش نفر من رجال القرية، وأصبحوا من أكلة البشر، بالرغم من أنهم كانوا من خيرة سكان القرية.
جاءت مفرزة من جيش الحكومة واختارتهم للتدريب، و اختفوا لما يقارب الثلاثة أعوام، وعندما عادوا، جاؤا وهم كلما جنّ الليل عووا، إلا أنهم حتى الآن لم يأكلوا أحداً، فى القرية ولو أنهم قتلوا رجلاً غريباً قبل شهر إلا أن ناس القرية حالو بينهم وبين أكله، حيث حفرت له مقبرة ودفن فيها.. ولم نستطع أن نبلغ الحكومة، فنحن أسرة واحدة، وهم من كل بيت، وإذا عرفت الحكومة ستقوم بإعدامهم، والناس يسعون لعلاجهم، فالآن بالخلوة يجلس عشرة من رجال القرآن والفقهاء وهم يصلون الليل بالنهار، إن شاء الله سيشفون عما قريب، هنا الناس لا يثقون فى الحكومة ويظنون أنها لا تعرف كيف تتعامل مع المشاكل، وأنهم سيعالجون اشكالاتهم بأنفسهم وطرقهم الخاصة.
شئ غريب.. يكون حصل ليهم شنو ياربى ..!!
الناس قاعدين يقولوا أنهم انقطعوا فى منطقة مستنقعات، سنة كاملة، لا زول جاهم ولا أرسلوا ليهم أكل ولا جاهم جيش لينقذهم، كانت المليشيات محاصراهم من كل الجهات حتى السماء ذاتو، يسوا شنو..
حدثتنى بأنهم، أكلوا القش والطين، أكلوا ثعابين الماء، الجرذان، أكلوا الصراصير والعنكبوت، أكلوا الذباب والباعوض، أكلوا الهواء والدود الأسود اللزج، ثم أكلوا بعضهم البعض، قالت..
الأقوياء أكلوا الضعفاء، و أنحنا ناسنا لأنهم من بلد واحدة اتحالفوا مع بعضهم وأكلوا البقية... المهم كلها قوالات ومافى زول يعرف الحصل ليهم شنو.. والغريب فى الموضوع أنهم اكتشفوا بعد سنة كاملة من الخوف والجوع وأكل لحوم الزملاء إنو المحاصرنهم ما كانوا المليشيات..لأ.. كان جيشهم نفسه، زملائهم ذاتم لأنهم قايلنهم مليشيات.. شوف كل زول خايف من التانى وقايلو العدو، سنة كاملة أتخيل.. سنة كاملة، الحرب دى بلوة من الله وابتلانا بها وبدون شعور قلت:
ما تبلغوا الحكومة.
قالت منفعلة
حكومة شنو وهى ذاتها الحكومة وين.
وأكدت لى أنهم لا يرون الحكومة إلا فى الطيارات التى تعبر فى السماء فوقهم، أو عندما جاؤا وأخذوا فتيان القرية للحرب أو عندما جاؤا هم وجاءت المليشيات وتحاربوا هناك عند الربوة العالية وغابة النبق، أسبوعاً كاملاً، فتطاعنوا،هشموا عظام بعضهم البعض، دفقوا دمائهم وصنعوا منها أنهراً، أنهراً حمراء، ثقبوا صدور بعضهم البعض بالرصاص الحار، هشموا رؤوس، قطعوا آذان، مثلوا، عقروا، سلموا، بالوا، عذبوا، قبضوا أرواح بعضهم البعض وأرسلوها إلى الله ولم يبق سوى جندى واحد هزيل جريح، بعين واحدة، من الجيش، ولم يبق سوى جندى واحد هزيل جريح برجل واحدة من المليشيات.
فدقّ أهل القرية النقارة، رقصوا على التل، على جثث الجند، وآلاتهم الحربية، ضحكوا على الجميع، أشعلوا النار على الأجساد المتقيحة المتحللة العفنة البائسة، ثم أتو بالجريحين، أرقدوهما على الأرض جنب جنب، ثم جاؤا بالعصى الكبيرة المصنوعة من القنا، وانهالوا عليهما ضرباً حتى الموت، ثم قاموا بدفنهما فى قبر واحدٍ ضيق، وهم ينشدون إنشاداً مرتجلاً أُلف فى وقته، فى ذات موقع التل، شربوا ما بقى من مريسة، وعادوا إلى منازلهم، لقد انتهت الحرب، ولم نر منذ ذلك اليوم احداً من المليشيات أو الجيش، نحن هنا عايشين على الصيد والزراعة، ونحل مشاكلنا بطريقتنا الخاصة ولسنا فى حاجة للحكومة، ثم سألتني ببراءة:
أنت من الحكومة ؟!
قلت نافياً بشدة، أننى لست من الحكومة وأننى جئت أبحث عن أخ تاه فى هذه الأماكن منذ شهور مضت، كان يعمل بتهريب جلود الحيوانات البرية بعد أن يشتريها من الصيادين، وقلت لها بصراحة أيضاً ويهرب: البنقو.
فقالت لى وكأنها لم تسمع ما قلت:
أنت تاجر بنقو مش كدة ؟
قلت لك أخى.. أخى يتاجر فى جلود الحيوانات البرية النادرة والبنقو،
قالت دون مقدمة..
عايزة أشوف وشك،
ودون أن تنتظر إجابتي، أضاءت البطارية فى وجهى مباشرة، تجولت بالضوء حول أذنى وشعرى وعنقى وأيضاً صدرى، مسحت بكفها على حواجبى قالت لى:
أفتح خشمك.
قذفت بحزمة ضوء فى فمى، كانت أسنانى بيضاء ومنتظمة وجميلة وستشع نوراً نتيجة لسقوط الضوء عليها وستعجبها أكثر من أنفى القبيح والذى أعرف أنه قبيح جداً، ولو أن أذنىّ جميلين قالت لى بصوت حالم.
أنت حلو..
أخذت منها البطارية وأضأتها فى وجهها، فصعقنى الوجه برغبة واحدة جامحة، قلت لها.
عايزك تانى.. حسِّ..
قالت لى بشكل نهائى وحازم وكانها كانت تعد لاجابتها من زمان بعيد،
لا، عشان تجى تانى،
وين ؟
حلتنا
حلتكم دى ؟!
لا، أنهم لليوم داك حيتعالجوا لا تخاف، كل الناس تعرف.. أنهم حيكونوا كويسين ذيّهم ذى كل زول، أنا متأكدة.. هو مرض وسيزول..
خلى داك للظروف أنا عايزك حسا،
لا.. عشان تجى.. ما تحاول لأنى ما حأقدر، و أنا ما عملت معاك العملتو إلا عشان انت كنت بردان و بس.
وشبقت بها فعلاً... شبقت بها بشدة.. بحرارة.. بجنون .. شبقت بها بصورة لا تغتفر..، شبقت بها بالسماء كلها.. والأرض وأمى وأبى وأخى وأخواتى الثلاث، شبقت بها بالليل والانتعاظ ورقصة الجسد الأبدية، بكثرة، بيايُمَّا، بيا العالم كله وأصدقائى البائسين، شبقت بها بحنق، بعنف بخوف، ببطء، بصبر، بسرعة رهيبة، بالأرض كلها تدور،ماء، بالموت والميلاد والبعث والضياء باللبن، بثدييها المشهيين الشهيين، بحق الماء الذى أودعته فخذيها، بحق اللذة التى وهبتها إياها، بحق الصرخة البائسة، شبقت بها بحق اللبن المسمون الذى شربت، بحق أن أنقذتنى، بحق أكلة البشر، بحق كل شئ عزيز وكل شئ تافه، شبقت بها.. والليل والطين والنهر والنساء والصديقات الجميلات الرائعات النائمات الآن الحالمات، الميتات، شبقت بها ورغبت فيها بشكل نهائى وسأموت فى الحال إذا لم أنم معها أو سأندم حياتى كلها أو سأكسر عنقى أو سأقتلها،شبقت، رغبت، كنت منتعظاً بألم خرافى، أنا أريدها: و الآن..
ففى المرة الأولى حدثت الأشياء دون رغبة منى ودون حتى توقع، بل أتستطيع أن أقول دون لذة فعلية من جانبى، ولو أنها أمتعتنى بصرختها تلك، إلا أننى لم أر حتى وجهها ومعروف أن الوجه نصف اللذة، إذاً كنت مدفوعاً، أما الآن أحتاجها بإرادتى أنا وبرغبتى أنا وبشهوتى أنا وبشبقى الكونى اللانهائى... أنا.. أنا أريدها امرأة، أريدها بلا مساومة: الآن وسأنام معها.
كانت تمانع بإصرار تام واقتناع لا حدود له، وهى تمسك بيدىَّ بعيداً عن جسدها وكأنها ما صرخت شبقاً من فعلى قبل ساعة لا أكثر، وكأنها لا تعرفنى من قبل، بل وكأنها ملاك وأنا إبليس بعينه، كأنها ليست امرأة ولستُ رجلاً.. وكأنها ..
لا عشان تجى تانى..لو عايزني،
مش حا أجى تانى إطلاقاً...
ومشيت، بل هرولت قاصداُ الطريق التى وصفتها لى، والتى كما قالت ستقودنى إلى قرية صغيرة آمنة، ويمكننى أن أبيت فى بيت من بيوتها، وعندما تشرق، أستطيع أن أتصيد اللوارى الذاهبة للقضارف، فهى تسلك طريقاً من القرية على بعد ميل أو ميل ونصف الميل،
كنت غاضباً غضباً حقيقيا، وشبقاً شبقاً حقيقياً، وفوق كل ذلك لا مبالياً بشئ، وعندما بعدت منها مسيرة دقيقتين أو ثلاث سمعت صوتها تصرغ قائلة، ما تزعل منى سامع، ماتزعل منى،أنا برضو عايزاك،ولكن.
قلت بصوتٍ عالٍ وقحٍ شاتماً إياها...
يالبوة يا قذرة.. تفو..
لم ترد، ولكنى وأنا ا سمع نُباح أول كلب من القرية، سمعت صوتها يأتى من بعيد... من عمق سحيق من الظلام،منادياً فى وهن، أنا برضو عايزاك ولكن عشان نتلاقى تانى.
وقفت أنظر نحوها... لم أر شيئاً، كان الظلام دامسا، حملقت فى الظلام، فجأة برق ضؤ بطارية واهن من بعيد... بعيد جداً،إنها هى بالتأكيد، كانت تضئ وتطفىء،هى تريد أن تقول شيئاً أو تريدنى أن أعود إليها، لقد تفهمت وجهة نظرى، أو ربما أنها تودعنى، لكنى لم أفكر فى الرجوع إليها على الأقل الآن، لقد كانت كريمة معى، كانت وقحة وعنيفة، إنها بنت قوية أقوى منى،لأول مرة تهزمنى، امرأة... أول مرة فى حياتي أرغب امرأة بهذه القوة وهى معى، ولا أتستطيع أن أنال منها... مستحيل... مستحيل..ربما قد تعجلت الانسحاب، كان علىّ أن أحاورها أكثر علىّ أن أرجوها، علىّ أن أداعبها فالمداعبة تلين النساء، وتفقدهن السيطرة على أنفسهن، علىّ أن أكون طويل النفس، كنت أحمقا وقصير النفس ومغروراً وأنانياً، ولم أتح لنفسى تفهم وجهة نظرها، فكرت فى نفسى وفى حاجتى الآنية، ولا أدرى هل هى بريئة أم أنها مغرورة أيضاً ولكنها كانت كريمة معى، كانت أماً فعلية، لا.. رحماً عميقاً دافئاً، كنت سأمتدحها أكثر، لو لا أن هرتنى كلاب شرسة وحاصرتنى حصاراً تاماً وكشفتنى وجهرت عينىَّ بطاريات كثيرة، وصياح، مُنو، مُنو، وكدتُ أن أقول ضيف، وكدت أن أقول ابن الحاج عندلة، ولكنى آثرت الصمت، الصمت التام.

ديسمبر 2001
عبدالعزيز بركة ساكن

عبد العزيز بركة ساكن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى