عباس محمود العقاد - أمثال أخرى وأفعال

بين الروسيين والصينيين مشابهة محسوسة وهي اشتراك كل من الأمتين في الاتصال بالمغول من طريق المجاورة والمعاشرة والمصاهرة، واقتباس كل من الأمتين كثيرا من عادات المغول ومأثوراتهم في القصة والمثل والجديلة. فمن قرأ القصص والأمثال الصينية لم يعدم بينها وبين أمثال الروسيين وقصصهم مشابهة ظاهرة في الأسلوب والمزاج، ولم يكد يتخيل بين الأسلوبين فارقا بعيدا في غير الحواشي والتفصيلات. أما الجوهر فواحد أو يكاد أن يتوحد كما يتوحد الاقربون والصحبة المتلازمون

فإذا استحضرت أمثال الروسيين وتخيلت قائلها رجلا واحدا خيل إليك أنه إنسان صبور رصين مستسلم يعرف الدنيا معرفة هادئة، ويتحدث عنها تحدث سخر ممزوج بالآلفة والمحبة، وهذه هي الصورة التي تبدو لك من قراءة القصص وألا مثال الصينية مع فارق يسير تلمحه في جملة الأمثال وقد تخطئه في المثل الواحد والمثلين، ونريد به أن صقل الحضارة أظهر في أمثل الصينيين، وأن خشونة البداوة والفلاحة أظهر في أمثال الروسيين، ويتفرع على ذلك أن الصيني أقرب إلى السلم، وأن الروسي أقرب إلى الحرب، وان كانا يتلاقيان في خصلة متماثلة وهي أنهما يباشران الحرب دفاعا فيصبران عليها ويستبسلان فيها، ويباشرانها هجوما وعدوانا فلا يتحركان طويلا للهجوم ولا يحتفظان كثيرا بحماسة العدوان

وقد ظهر هذا جميعه في حرب الصين واليابان وفي حرب الروس والألمان، فظهرت شجاعة الصينيين وصبرهم كما ظهرت شجاعة الروسيين وصبرهم، ولم يعهد للأمتين قبل الآن مثل هذه الشجاعة ومثل هذا الصبر في حروب الهجوم والعدوان

وقد تحولت من أمثال الروسيين إلى أمثال الصينيين كما تتحول اليد من فاكهة إلى فاكهة مثلها على شجرتين متقاربتين في بستان واحد، فلم أشعر أنني أبعدت النقلة بين القطفتين وان كان لابد من خلاف بين ثمرة وثمرة وان قطفتا من شجرة واحدة

والصينيون أولع أمم العالم قاطبة بالمثل السائر والنادرة المنجمة على حسب العبر والوقائع. وليس هذا بعجيب مع ما هو معلوم من محافظة القوم على شعائر الس وتبجيلهم لذكرى الآباء والأجداد ورجوعهم بالحكمة كلها إلى عظات الأقدمين. وفي ذلك تأييد لما أسلفناه في ختام مقالنا السابق عن أمثال الروسيين

قلنا في ختام ذلك المقال أن إهمال العصريين لرواية الأمثال غير عجيب إذا نظرنا إلى الخلق الغالب بينهم، (فقل في أبناء عصرنا من يقتدي بالسلف أو يحب أن يقال عنه انه من يقتدي بهم في المعيشة والسلوك، ولا معنى لسرد الأمثال ما لم يكن ديدن السلف حجة مقبولة بين القائلين والسامعين)

والصينيون يستحدثون اليوم ما يستحدثون في عادات المعيشة وآداب السلوك ولا يزالون على ديدنهم القديم من تقديس الآباء وتوقير السنن المأثورة عنهم، فلا جرم يحرصون على الأمثال حرصا لا نعهده بين المحدثين وطلاب الاستحداث في أنحاء العالم، ولا جرم يودعون في أمثالهم من روح الشعب ما هو أبلغ في الدلالة عليهم والإبانة عنهم من الأسفار والموسوعات

قال دكتور هنري هارت في مقدمة منتخباته من الأمثال الصينية: (كل إنسان في الصين يتمثل الأمثال. . . وقد سمعتها من لسان الإمبراطور كما سمعتها من لسان الخادم الوضيع، فهي عندهم العملة الجارية في اللغة، والدرب المختصر في المحادثة، وكثيرا ما تغنى عن الناقشات الطويلة وتحل العقد الشائكة. فيشوق المشاهد أن يصغي إلى المعارك الكلامية التي لا تني تتردد بين أهل تلك البلاد، إذ يعرض الخلاف الصغير فيزدحم حوله الجمع الكبير من الكسالى والمستطلعين، وإذ يحتدم المختلفان قليلا قليلا وكلهم مولود على استعداد للتمثيل، فيلوح للمشاهد أن العنف واقع لا محالة وان لم يكن الصينيون مشهورين بالملاكمة وقليلا ما يعتدي أحدهم باليد على أخيه، ثم يتفق فجأة يتقدم أحد الواقفين - ويغلب أن يكون من الكهول أو الشيوخ - فيتكلم ويأتي بمثل موجز موافق للمقام، فكأنما تلك الكلمة النافذة المحبوكة هي الكلمة التي كان ينتظرها الطرفان المتشاجران، فتنحل العقدة المعضلة، ويتراجع الخصمان، ويتخافت صوتاهما العاليان، وترتفع ابتسامة في مكان العبوس، وتنتهي المشاجرة على خلاف ما يود المشاهدون من طلاب الضجيج والعجيج)

وهذا المشهد الذي وصفه المؤلف قد نراه في مصر ونذكر الكلمات التي تفض بها مشاجرات الطريق، فهي في الغالب أمثال شائعة، وفي الأغلب عظات من الكتاب والسنة النبوية، ولكنها في القرى أعم منها في الحواضر الكبيرة، ولحكمة السلف ومقام الشيخوخة فيها أثر غير قليل

ولكنك لا تقرأ مئات الأمثال عندهم ومئات الأمثال عندنا حتى تلمح الفارق بين الأمتين وان اتفقنا على بعض العادات والخطرات

فأول ما يبدهك من جملة أمثالهم أنهم أبيقوريون يحبون الترف المريح، ويألفون الدعة الفلسفية التي تسكن إليها النفس كما يسكن إليها الجسد، ويؤثرون الترشف من النعيم على الغرق فيه، ويقنعون بتجزئة السعادة إذ لا سبيل إلى السعادة الكاملة التي تدوم ولا يخشى عليها زوال

ومن أبدع أمثالهم التي تنم على هذا المزاج قولهم: (من عاش يوما خاليا عاش يوما خالدا) وقولهم: (ألف ريال لا تشتري ضحكة واحدة)؛ وقولهم: (الأمراض تدخل من الفم والمصائب تخرج منه)؛ وقولهم: (البركة قلما تقبل أزواجا، والمصائب قلما تقبل فرادى)

وقد أوردنا للروسيين مثلا يعبر عن الفوارق الاجتماعية يقولون فيه: (أن عيوننا تملأها شمس واحدة وبطوننا لا يملأها طعام واحد). وهو شاهد بارع من شواهد الطبيعية يقاربه في معدنه قول الصينيين: (الصيف للجميع والشتاء على حسب الكساء)

وأوردنا للروسيين مثلا لرشوة الحكام إذ يقولون: (من باب الطريق صد ومن باب السر ترحيب) ويشبهه عند الصينيين في موضوع الرشوة وفعل المال في قضاء الحاجات قولهم وهو مختلف بعبارته متفق بمؤداه: (عشرة ريالات تحرك أرباب الهيكل ومائة ريال تحرك السماء نفسها!)

والقوم معروفون بقدم العهد بالدماثة المدنية وحسن الحفاوة في الاستقبال، وهو ظاهر من تعويلهم في التجارة على الابتسام إذ يقولون ما فحواه: (إن الذي لا ينفرج فمه بابتسامة لا ينفرج له باب دكان) ومن استعظامهم داء الجلافة إذ يقولون: (إنها داء ليس له عند الطبيب دواء)

ومن قولهم فيما يشبه ويتصل به: (إن فتح دكان لسهل، وإنما الصعوبة أن يظل مفتوحا. . .)

ومن أمثالهم التي تدل على الطبيعة الحذر فيهم أو تدل على نصحهم بالحذر والاحتراس: (أحمل مظلتك والسماء صاحية، وادخر مئونتك وجوفك شبعان) و (الجمال لا يوقع الرجال في الشرك، إنما هم الذين يقعون فيه) و (لا تشتم امرأتك في المساء وألا نمت وحدك!) و (المرأة الشائهة والخادمة الغبية كنزان لا يقومان) و (لا ترسل الباز حتى تبصر الأرنب) وهكذا في عشرات من الأمثال

وربما كان الصينيون في طليعة الأمم التي هانت فيها أقدار المقاتلين وعظمت أقدار الحكماء والنساك، ولهذا تتواتر عندهم الأمثال التي تدل على نفاسة الحكمة وصعوبة الحصول عليها من قبيل قولهم: (الذهب له ثمن والحكمة بغير ثمن) وقولهم: (طالب العلم كالصاعد في وجه التيار إن لم يتقدم فهو منحدر)

وقولهم: (خذ الخمر قطرات والحكمة جرعات!) وقولهم: (المعرفة كنز يتبع صاحبه حيثما ذهب) وقولهم: (العلماء ذخائر الأمم) وقولهم: (من علمني يوما فهو أبي مدى الحياة)

وقد اشتهروا كذلك بالسكن إلى حياة الأسرة وجيرة الوطن، فحفلت أمثالهم بالتغني بالبيت والوطن؛ واجتمع أفضل ما قالوه حول هذا الغرض في مثلين نموذجين أحدهما قولهم: (لا يخلو البيت من راحة ولا خارج البيت من تعب) وقولهم: (لتكن حسناء أو شوهاء فهي بلادي. وليكن قريبا أو غير قريب فهو أبن وطني!) وربما زادنا علما بقوام البيت عندهم قولهم: (الزوجة لفضيلتها والخليلة لجمالها)

ومن نماذج السخرية المطمئنة في أمثالهم قولهم: (بائع البطيخ يقول أنه حاو!) وقولهم: (كلب ينبح على شيء، وألف كلب تنبح على نباحه) وقولهم: (نولد ولا نحضر معنا شيئاً، ونموت ولا نذهب بشيء) وقولهم: (الغراب أسود هنا وأسود في كل مكان) وقولهم: (إذا خلقت السماء آنسانا فله طلب لا محالة!)

وهم قديرون كالروسيين أو قديرون كعامة الشرقيين، فليس أكثر في أمثالهم من التسليم للقدر وقلة الجدوى في خلافه على تعدد في اللفظ وتوحد في المعنى، كما يقولون، وفيه شيء من سخريتهم: (يقول الإنسان هكذا هكذا وتقول السماء ليس كذلك ليس كذلك!) أو يقولون: (ما يبرمه القضاء لا ينقصه إنسان) أو يقولون: (من خلق للسعادة فلا يعجل وراءها) أو يقولون (كل كأس وكل لقمة مقتدرتان لفم، لا يأخذهما غيره)

ولا نهاية للمواضع والمناسبات التي يستشهد فيها ببعض هذه الأمثال الصينية التي يخطئها الإحصاء

إلا أن الشاهد الأكبر فيما نحن بصدده هو هذا الاهتمام من قبل الأمم الغربية بكل جانب من جوانب البحث في البلدان التي تلتفت إليها أنظار الناس على أثر الحوادث الحربية أو السياسية التي تقع فيها. فما مضت أشهر على اشتغال الصحف بقضية الصين حتى امتلأت رفوف المكتبات بالمجلات والرسائل والمجلدات عن كل شيء يعرف - أو ينبغي أن يعرف - من أحوال تلك البلاد، فهذا يكتب عن النهضة الصينية، وذاك يكتب عن زعماء الصين، وغيرهما عن تاريخ السياسة الأوربية في الشرق الأقصى، وغيرهم يكتب عن فن الصين أو أغاني الصين أو عقائد الصين أو محاسن الصين، إلى أشباه ذلك مما يقترن بالصين وأبنائها ولو من بعيد

ومثل هذا حدث في اهتمامهم بروسيا بعد ثورتها الاجتماعية أو بعد حربها الأخيرة مع النازية، ويحدث مثله كذلك حول كل مسألة من المسائل القومية أو العالمية التي ترتبط ببلد من البلدان، حتى ليصح أن يقال إن الحرب عندهم ليست شرا محضا يجلب الخراب وينزل بالبلاء ثم ينتهي أثره عند ذلك، لأنها في الواقع سبيل من سبل المعرفة وباب من أبواب التعارف، وطريق إلى كشف الظلمات عن مجاهل العالم قاضية ودانية.

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 487
بتاريخ: 02 - 11 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى