محمد فتحي المقداد - أدب اللجوء والذاكرة المصورة في كتاب (شاهد على العتمة) (محمد فتحي المقداد)

تمهيد العنوان : عنوان الكتاب ( شاهد على العتمة ) ولو أخذنا مفردة ( شاهد) فنقول أن الشاهد يكون شاهداً على خير ( بيع ، زواج ، شراء ...) أو شاهد على مصيبة ( موت ، جريمة قتل أو سرقة ،..... ) ولكن المقداد أتبعها بكلمة العتمة والعتمة هنا تعطي في لغة التمثيل أو التصوير الظلام والظلام لا يكون في فرح أو خير . ولعل القارئ سيدرك ذلك من خلال ما سيقرأ . غير أن الشاهد كان يرى فيما يرى ( حسب قول المقداد ) والله أعلم .
ولو ولجنا إلى النصوص :
تعريف ومفهوم :
اللاجئ هو الشخص الذي يهرب من بلده إلى بلد آخر خوفًا على حياته ، أو خوفا من السجن أو التعذيب ، وبتعدد أسباب اللجوء تتشكل أنواع اللجوء الحرب، الإرهاب والفقر.
واللاجئ لديه مجتمعه الذي يعيش فيه و يختلف بمكوناته عن مجتمع المواطن العادي . حيث تعتبر أهمها الذاكرة البعيدة القريبة ، وما حمل معه من الوطن ( من أغراض ومفاتيح ،،، ) والمخيم ( بكل ما يمكن أن يقدمه له أو يحرمه منه وكل ما فيه) ، مفوضية الأمم المتحدة وما تفعله ، بلد اللجوء ، الحلم والأمل.
إن كانت هذه مكونات مجتمع اللاجئ فهل نجح المقداد في تصويرها أو الإدلاء بها من خلال شاهده ؟!
بالعودة إلى الذاكرة وذاكرة اللاجئ هي التي لا تتركه لنومه وحتى وإن نام زارته فأعادته إلى ماضيه ومن خلال نصوص المقداد نلمس وندرك أن الذاكرة والحنين إلى الوطن لعبا كثيراً وصوراً مشاهد عديدة في سلسلة أحلامه .
والذاكرة تكون كلها مبكية بعيداً عن الوطن بالرغم من اختلاف أدواتها أو مواقفها .
كأن يقول ( رأى فيما يرى النائم خيراً ، صديقاً له وه يتحدث عن دعاء الدبابات ، فقال لقد سمعت شيخاً يدعو في الركعة الأخيرة من صلاة المغرب في أول يوم دخلت فيه الدبابات قريتهم : اللهم إنا نشكو إليك هذه الدبابات التي لم تطلق طلقة واحدة على إسرائيل ، فإنها تطلق علينا وقد آذتنا ، فهدمت بيوتنا وقتلت نساءنا وأطفالنا ، اللهم أفشل رميها وعطل آلتها ، واجعلها برداً وسلاماً .....اللهم آمين )
هذه القصة هنا أو هذا الحلم يوحي بحجم الحزن والأسى أيام كان الشاهد في الوطن ( قبل لجوئه ) وهذه كانت مصيبة عامة ، فبمجرد أن تحمل هذه الذاكرة المشهد فستبقى تكرره ولن يغيب عنها ولو طال زمن اللجوء. قسوة المشهد من جميع النواحي فالدبابات يقابلها الدعاء فقط ، لكنها لم تآبه به بل دمرت وقتلت ووو . وهو مشهد لا يمكن للاجئ نسيانه .
في الحلم التالي تماماً في نفس الصفحة يقول ( رأى فيما يرى النائم خيراً، أن أول دقيقة صمت على أول شهيد في الثورة السورية قد دخلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية ، حيث اعتبرت الأطول ..... )
وهنا تلقي ذاكرة الشاهد أو شهادته في جعبتنا المشاهد الأولى للثورة السورية وأول الشهداء الذين سقطوا في سورية كما أنه يصور لنا العالم رجلاً يقف صامتاً وقد خذل الشعب السوري .
ثم لتأتي شهادة بالغة ودقيقة الوصف بتصوير متقن لحظة دخول عناصر الأمن إلى بيت أحدهم والعبث بما فيه أمام أعين من فيه من أم وأطفال ومن ثم جره واعتقاله في سيارة الأمن المعروفة : ( رأى فيما يرى النائم خيراً ............ فتحت الأبواب ... دخل الزائرون ....
تلوح عليهم صرامة الموقف وفوهات مصوبة صوب الصدر المسكين .. ارفع يديك .. تفتيش الخزائن ... أين تخبئ أدوات إجرامك ؟!
خائن .. عميل.. جاسوس إسرائيلي .. ......
دموع الأم الزوجة الأطفال شقت سكون الفجر كأنها نداء غير مسموع .... يتلقى الأمر ... أنزل يديك ... وراء ظهرك .... يضعون القيد في معصميه ... عصابة سوداء تلتف على رأسه ... تختفي عيناه .. يساق إلى سيارة البيجو 504 ... يحشر في الصندوق الخلفي ويغلق الباب ... ويغيب في الغياهب .)
تصوير المشهد بهذه البساطة والبراعة جاء من ذاكرة لا يمكن أن يغيب عنها هذه الذاكرة رسمت أنواعاً من الظلم والذل الذي كان يعيشه اللاجئ ، وهذه الصور من ذاكرة السوريين أو من ذاكرة أي شعب يعيش تحت بطش الدكتاتوريات والأنظمة القمعية .
والحديث يطول أيضاً عن الذاكرة المليئة جداً بما تحمله مما مرّ بها . وحتى أن الذاكرة كانت تذهب بعيداً في عمق الوجدان العربي والموروث الثقافي ليصل إلى أبطال العرب ورموزهم أمثال عنترة وصلاح الدين وكأن الشاهد يبحث في المجتمع عن شبيه بهم في محاولة منه لبث روح التحرر في نفسه أولاً وفي من يقرأ أو يسمع شهادة الشاهد ثانياً .
وبالعودة إلى المكونات نجد المخيم الحاضر بقوة أيضاً . والشاهد هنا أرّخ للحظات ومشاهد حقيقية حدثت بالفعل في مخيم الزعتري ليكون بذلك شاهد صدقٍ فعندما يروي عن الحريق في مخيم الزعتري ويقارنه في الحرائق التي كانت تزهق الأرواح في وطنه الأم ، وكيف فرّ طالباً الأمان ليشهد الحريق في مخيمه .
( رأى فيما يرى النائم خيراً أن حرائق وطن قد ألقت بظلالها على الحياة التي هجرته إلى مخيمات اللجوء خارج حدود الوطن ، طلباً للأمان ...... طالبين النجاة بأرواحهم التي حرقتها نار التدفئة التي يعاقرونها ليشعروا بدفء أجسادهم المنهكة ، والتي احترقت ثانية داخل الخيمة ، المأوى التي أصبحت الحلم )
وفي الجهة الأخرى والعالم يحتفل برأس السنة والرياح اقتلعت الخيام وأغرقت أرض المخيم لينام الأطفال على الطين وقد اصطكت أسنانهم برداً . حتى أن اللاجئ في المخيم صوّر مشهد عبور الطائرة فوق المخيم ليظهر خوف الطفل إلا أنه برر له بأن لا أحد يقصف مكاناً للأمم المتحدة .
(رأى فيما يرى النائم خيراً أن الخيم في مخيم الزعتري تطير في السماء ن بفعل الرياح الشديدة، المصحوبة بالأمطار والثلوج بينما سكانها يغرقون في طين ومستنقعات المخيم )
ثم تأتي مشاكل المفوضية ومعاناة اللاجئ في كثير من الأحداث ، أول شيء تحويل اللاجئ إلى رقم وكأنه يقارنه بالمعتقلات في وطنه ومن ثم طوابير المعونة والازدحام الشديد والمكوث لساعات طويلة ، وايضاً الحالات المرضية التي تتطلب عناية فائقة في حلم وشهادة أخرى .
(رأى فيما يرى النائم خيراً أن طفلاً يلعب بجانب الخيمة في مخيم الزعتري فوجئ بمرور طائرة عابرة فوق المخيم . فقال لوالده : يا بابا هل تستطيع هذه الطائرة قصفنا ؟
- لا يا أبي
- ولماذا ؟!
- لا يستطيع أحد في العالم أن يعتدي علينا أبداً ، خوفاً من حرفين هما UN باللون الأزرق مطبوعين على سطح الخيمة .
استغرب الصبي كلام أبيه لأنه لم يفهم الكثير من المعنى ، وتابع اللعب دون اكتراث .)
المقداد برع جداً في تصوير ملامح المخيم بشكل كبير ليؤرخ لمرحلة مهمة جداً في رحلة اللجوء قبل أن يغادر المخيم كما كثيرون أمثاله ليبدأ رحلة جديدة في اللجوء بعيداً عن وطنه ويبدأ يؤرخ ما قد يراه ويعانيه ويصور أحداثاً من الوطن الذي لجأ إليه .
(رأى فيما يرى النائم خيراً أن نسمات الهواء اللذيذة على القلب خارج أسواء مخيم الزعتري تختلف مئة وثمانين درجة عن النسمات داخل المخيم )
وهنا يعطي الإشارة الواضحة بالدخول إلى عالم جديد خارج أسوار المخيم بعيداً عن كل ما لاقاه وقد حمّل في شهاداته العديدة العالم كله وبالأخص المفوضية والدول العربية مأساة السوريين في وطنهم وفي المخيمات .
غير أن هناك سمة حقيقية للشاهد وردت في شهادات عديدة وهي عروبته انتماؤه لوطنه الكبير وولاؤه للقضية الأولى (فلسطين ) وكأنه يقول بملء الفم بالرغم مما يجري كله فإن قضيتنا الأولى فلسطين أو أن البوصلة الحقيقية فلسطينية وبحلها تحل قضايانا كلها .
}رأى فيما يرى النائم خيراً ، أن المسجد الأقصى قد انهار ووقعت صخرته في الأنفاق المحفورة تحته وهو ينادي ويصيح : ( وا إسلاماه ) وما من مجيب .. ( وا عرباه ) والعرب قد باعوا آذانهم بثمن بخس . {
والأمل لا بد منه أمل بالعودة فاللاجئ مهما طال به الأمد لا بد أن يعود إلى وطنه
(رأى فيما يرى النائم خيراً ، أن رنين الأجراس التي قرعت في عيد الميلاد لازال يسمع صداه، ويتمنى ألا يزول حتى تقرع أجراس العودة لأرض الوطن ، لإنهاء مرحلة سوداء في حياته عندما أصبح لاجئاً إلى جوار وطنه )
وهنا ما يكن مقارنته بالعنوان ( مرحلة سوداء ، شاهد على العتمة )
لنكون بذلك قد وصلنا إلى ما أراد قوله المقداد من خلال شاهده فحياة اللاجئة سوداء أو عاتمة المهم أنها لا تحمل إلا الأسى في كل ما فيها.
والمقداد قد صوّر ببراعة فائقة حياة اللاجئ ولعله بذلك قد وضع أولى لبنات أدب اللجوء السوري خلال هذه المرحلة المهمة جداً .
فعندما تصدر الأمم المتحدة إحصاءً بأن عدد اللاجئين السوريين تجاوز ستة ملايين في عام 2015 ( خارج سوريا ) يجعل من الضروري جداً وجود أدب خاص بهم أدبٍ يصوّر كل مرحلة وكل مشهد من مشاهد حياتهم قبل الخروج من الوطن وبعده .
ولعل محمد المقداد وفق إلى درجة عالية في توثيق شيء من هذه المرحلة وفترة مهمة من فتراتها ليترك الباب مفتوحاً على مصراعيه .
وهذا الكتاب ( شاهدٌ على العتمة ) لا يملّ القارئ قراءته مطلقاً .
بقلم/ محمد عبدالستار طكو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى