جمال الدين علي - نزيلة الغرفة 707 .. قصة قصيرة

جلست وأسندت مرفقيها إلى طاولة مكتبها واضعة كفيها على خديها محدقة في نقاط هلامية كانت تتساقط من ذهنها وترتطم بسطح المكتب محدثة دويا هائلا; قلبت تصرفاتها الأخيرة في مقلاة العقل مثل فطيرة; لم تكن هكذا أبدا لقد كانت تتسم بالرزانة والود ومع أنها كانت توصم من بعض زملائها في العمل بالجدية وربما الصرامة; إلا أنهم يشهدون أنها كانت تتمتع بخلق نبيل و إهتمام ربما زاد عن الحد بتفاصيل العمل الدقيقة.
كان يمكن لخطأ بسيط غير متعمد ناجم عن ترك أحد العاملين لاحدى لمبات الإنارة مضاءة أن يشعل هشيم الخوف بنفسها المتوجسة و قد تتفجر نيران الغضب مجهولة المصدر هكذا بدواخلها فجأة حينما تجد باب الغرفة رقم 707 مواربا. كان يمكن لتلك الفرجة الصغيرة والتي بالكاد تسمح لمرور تيار خفيف من الهواء أو خيط رفيع من النور المنبعث من الانارة الخارجية أن يهز كيانها ويجعلها تقفز من مكانها أمام شاشة كاميرات المراقبة المثبتة على جدار مكتبها و تضرب الطاولة بقبضة يدها و تصرخ بهسترياء.
( تبا; هؤلاء العمال المخبولون لا يتقيدون بتنفيذ التعليمات; عليّ القيام بكل الأعباء اللعينة بنفسي). تركض في الممر الطويل ولا يهدأ بالها إلا حينما تتمم على احكام غلق جميع أبواب الغرف.
هذا ما اعتاد عليه العاملون والمرضى النفسيون في مصح الأمراض العصبية و النفسية منذ زمن ليس بالقصير; ولم يكونوا يولون تلك الحالة الهسترية التي تنتاب مديرة المصح من وقت لآخر أدنى إهتمام; وكانوا لا يظهرون تبرما سوى تلك التعابير المضحكة التي تطفو على سطح العيون المبحلقة من النوافذ أو المعلقة على جدران الممر ثم ما يلبث أن تتكسر الابتسامات التي ارتفعت كموجة على سطح الشفاه عندما تقف مديرتهم فجأة وتلتفت وهي عائدة إلى مكتبها في نهاية الممر. تعود لمكتبها منهكة بعد أن تكون قد بذلت طقسا بات أسطوريا لدى العاملين والمرضى ولكن بالنسبة لها يمثل صلوات مقدسة كانت تتلوها بصوت قديس و حالة من الرضاء النفسي المبهم التي كانت ترتسم على ملامحها. الآن باتت كل الأبواب موصدة وجميع اللمبات مطفأة يمكنها أن تمتع نفسها قليلا. تخلع نظارتها الطبية العتيقة ذات العدسة السميكة;تضعها و سلسلة المفاتيح الضخمة فوق الطاولة; تخلع معطفها الطبي الأبيض تعلقه على الحامل المنزوي بالركن; وتنحني فوق مشغل الأقراص القابع فوق الطاولة الجدارية أسفل منه; تضغط على زر التشغيل فتنطلق موسيقى كلاسيكية مجنونة لحن السمونية الثانية لرحمانينوف; ترخي ظهرها على الكرسي الدوار يندلق شعرها الكستنائي من الخلف بعد أن تكون قد سحبت غطاء الرأس الأرجواني الشفاف عنه وألقت به على البلاط; تغمض عينيها تاركة اللحن العذب يترقرق في مسام روحها وتحلق بخيالها في عالمها الخاص. كانت تعشق الحبس و الظلام إذن.
ذات صباح مشرق قالت له وهي تتطلع من نافذة المكتب المشرعة إلى المرضى النفسيين المنتشرين كسرب من الطيور البيضاء في الحديقة الخارجية.
- يجب عليك الحذر.
- ممن؟!
- من تلقي العدوى.
رفعت حنكها و أشارات به تجاه المرضى الذين كانوا يحلقون بخيالهم المجنون خلف فراشة ملونة وزخات المطر تغسل وجوههم البريئة بالمياه الربانية العذبة فتلمع أعينهم ببريق عجيب. وكان صخبهم وابتهاجهم الطفولي يصل إلى أعماق سحيقة في نفسها و يجعل روحها تتوق لمشاركتهم المرح ولكن ثمة شيء ما يكبل روحها إلى مرابط الجسد ويشل حركتها ويمنعها التعبير ولو بفعل صغير هو بنظر الكائنات الظلامية التي تعيش بداخلها منذ سنوات و التي سلبتها حرية الاختيار - الجنون بعينه.
- لو كانت العدوى تسبب مثل هذه الأعراض فمرحبا بدخول كل الميكروبات المعدية في الكون إلى خلايا جسدي.
ابتسمت بدلال قال ونظراته الموحية أصابع موسيقى موهوب مدربة على فك شفرات النفس البشرية وحلحلت كل القيود التي كبلت روحها وحرمتها التمتع بطفولة طبيعية. سحبها من يدها وهرولا إلى الخارج. أوقفها تحت غيم اللحظة الهتون; تحلق المرضى حولهما; ابتسمت و شرعت يديها كملاك يستقبل مداعبة ملائكة السماء الذين رشقوها بزخات كثيفة من المطر; ارتعش جسمها وسرت فيها روح الدائرة الكونية وأخذت تلف و تدور وتدور وتدور. الوجوه البريئة تدعمها بفرح صاخب وملائكة السماء يحلبون ضروع الغيم بهمة عالية. الماء الرباني غسل أوجاعها; وطهرها من دنس الماضي; مالت على صدره كورقة أثقلتها قطرات الندى وهمست:
- لماذا قتلتها إذن؟ ولا تكذب عليّ لقد اطلعت على تقرير المعمل الجنائي وقد ذكر أنك سددت لها عشرة طعنات قاتلة وجلست بجوار جثتها بكل برود تحتسي النبيذ وأنت تلعب بأصابعك في الهواء مع لحن السمفونية الثانية لرحمانينوف التي كانت تنبعث من الصالة.
كان اللحن العذب الذي أدارته للتو بحركاته الأربع الحزينة قد ملأ كيانها وتدفقت مشاعرها وسالت وبللت غطاء الرأس الأرجواني الملقى بجوارها على البلاط. شعرت بوجوده معها في غرفة المكتب قامت تراقصه أمسكت بكتفه; أغمضت عينيها حينما شعرت بيده القوية تطوق خصرها; أراحت خدها على صدره; بدأ فيض مشاعرها يتدفق مع انسراب اللحن بحركة سريعة حية وهي على كآبتها وسرعتها استطاعت أن تنتشلها من وهدة التهيواءت والخيالات المزعجة التي كانت غارقة فيها بكلياتها. كانت أقرب إلى معزوفة شيطانية منها إلى موسيقى حالمة; حينما وصل اللحن إلى الهاوية بنهايته المتفائلة كانت قد أوشكت على الدخول في غفوة لو لا أنها شعرت بكف عريض يطبق على فمها; فتحت عينها مذعورة وصرخت بهسترياء. كان دخول الطبيب المناوب والممرضة مفاجئا لها حاولت الاعتداء على الطبيب بكفها المرفوعة; أمسك بها من يدها بينما تكفلت الممرضة بغرس الحقنة في ساعدها وسرعان ما تهاوت على كتف الطبيب تعاون الأثنان و أوصلاها إلى السرير. قامت الممرضة بتغطيتها جيدا خرجا بهدوء. حينما همت الممرضة باغلاق الباب من ورائها; فتحت النزيلة عينيها بتثاقل قرأت اللوحة وكان الرقم 707 بلونه الفضي اللامع آخر ما انطبع بذهنها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى