محمد مندور - سهام ماضية

هناك ثلاث رذائل كبيرة تنخر في أخلاق الكثير من المصريين على نحو لم أر له شبيها في بلد من بلاد العالم على كثرة ما رأيت من بلاد وقابلت من بشر، ولا بد من أن نفضحها لعلها تخفي عن نواظرنا شبحها المرذول فقد سئمت لقياها في كل سبيل وبمنحني كل نفس.

أما أولاها فهي محاولة كل إنسان أن يوهمك أنه أكبر وأفضل وأعلم مما هو. ولقد كان من عادتي الصبر فكنت أتلقى هذه الدعاوي بصدر رحب، ولكنني لم أكن ألبث أن أحس بنوع من اختلاس الثقة يحاوله من يتخطى حدود نفسه. وليس أمر على النفس ولا أهيج للحفيظة من خيبة الأمل. وإنه لمن اليسير على من أوتى شيئاً من الفراسة وسداد الرأي أن يحكم على الناس وينزلهم منازلهم الحقة؛ وإنه لمن الخير لنا جميعاً أن نحاول دائما احتلال المكان الذي نستحقه في النفوس دون تطاول أو انحطاط، وأما الإقحام فما نظنه يعقب أثراً باقيا حتى ولا بنفوس البله. ولست في الحق بواثق من أن أمثال هؤلاء الناس الذين نشكو منهم الآن مر الشكوى يعون ما يفعلون، أم هم في غفلة الغرور. ولكنني لاحظت في الغالب الأعم أنهم مشربون بحقارتهم، وأنهم يبذلون مجهوداً إراديا لتغطية تلك الحقارة بالإيهام. وذلك لما نلاحظه من هياج في الحركات وضغط على مخارج الحروف وتصنع للانفعال وارتفاع في الصوت وهلهلة في ملامح الوجه وتنطع في السكون والحركة.

وثانيتهما غيرة مسرفة وحقد عجيب. ولكم ساءلت نفسي لماذا يشغل الناس أنفسهم بغيرهم إلى هذا الحد المدمر، وتلك مشاعر خليقة بأن تنزل بالنفس الخراب. والذي عهدته في النفوس القوية هو نزوعها المستمر إلى التسامي بذواتها. فهي تسعى لأن تكون في يومها خيرا من أمسها، وأن تعمل في غدها ما يبذ عملها في حاضرها.

فإذا عز التسامي كان الاستجمام في الثقة وتوثب. وأما أن يفنى المرء بياض يومه وسواد لياليه في التفكير فيما وصل إليه هذا الشخص أو ذاك، أو الخوف من أن يسبقك زيد أو بكر فهذا شعور صغير لا تعرفه إلا نفس صغيرة، وهو دليل عدم الثقة بالنفس كما هو دليل على انهيار الشخصية، وإن كان هناك شعور قبيح من مشاعر البشر فأجدر به أن يكون هذا الشعور.

وثالثها فساد عميق في تربية الناس الاجتماعية. فقد تلاقي صنوفا من الأفراد بعضهم صغير وبعضهم كبير، ولقد تتلطف مع الصغير بدافع إنساني برئ ظانا أنك بعملك هذا تدخل السرور على نفس بشرية، فإذا بك وقد سقطت هيبتك من قلبه، وإذا به يتطاول إلى المساس بك في غير ذوق ولا حياء. ولقد تفسح في صدرك، ثم يأتي يوم يتحرك دمك فإذا بك ترد في عنف، وإذا بالمسكين يصحو بعد غفلة، وإذا به يشكو دون أن يفهم شيئاً أو يدرك له محنة. وإذا كان كبيرا ولكنه صغير النفس وعاملته في رفق وتأدب ظن معاملتك ضعفا، أو خيل إليه وهمه ذلك، فإذا جاء يوم وصفعته صفع الأقوياء لأنك رجل عزيز النفس حامي الدماء أسقط في يده وأخذه إما عناد الحمقى وإما انهيار الأذلاء. ولست أدري لذلك من سبب غير فساد التربية الاجتماعية، فسادها في المنزل وفي المدرسة وفي الوظيفة وفي الشارع وفي الدكان وفي المصرف وفي كل مكان، حتى لكأنك تسير في بلد كله أرقاء، سيان في ذلك سيدهم ومسودهم، رئيسهم ومرؤوسهم، بلاد منكودة وأخلاق مسفة! أي عذاب نفسي في أن تراك مضطرا إلى تقدير كل لفظ تقول وكل حركة أو ابتسامة أو تقطيب جبين! أناس لا فهم لهم ولا تقدير، لا يعرفون حداً يبدأون منه ولا حداً ينتهون إليه أنعام سائمة! ترى أباستطاعتك أن تخلق لنفسك عقلية جديدة وذوقا جديدا وتربية جديدة تماشي بها الناس، أم تأخذك العزة فتثبت كما أنت محاولا أن تنقل العقول وتحول الأذواق وتسدد التربية لتستطيع أن تتفاهم مع الناس أو أن تقبلهم أو تطيق عليهم صبرا. هذه أسئلة لا يستطيع الإجابة عليها غير الله فإليه نفوض الأمر.

محمد مندور

مجلة الرسالة - العدد 611
بتاريخ: 19 - 03 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى