عزة دياب - عيون العجائز

فاجأتني صورتي في المرآة بالأخص عيناي، أنهما ليستا لي، رأيتُ هاتين العينين من أيام لسيدة عجوز كانت تدعو علي ابنها الذي طردها ليهدم البيت ويقيمه علي مساحة كبيرة.
منحته الأم قطعة أرض بجوار حجرتها التي تقيم فيها وهو أيضًا يقيم معها و يزورها أولادها وزوجاتهم فيها، الابن يقرر إدخال حجرة أمه في البيت المزمع بناؤه ولم يستجب لرغبتها وتأكيدها أنه أخذ أكثر من حقه.
أخرج أشياءها وأجَّر من ساعده في خلع الأبواب والنوافذ وتوالي الهدم بينما هي لمنتصف اليوم في المستشفي تنتظر توزيع علاج نفقة الدولة، حين وصلت لم تجد أثرًا لغرفتها وسريرها، كم ودت أن تفرد عليه جسدها بعد ساعات الانتظار علي سلالم المستشفي الرخام، حين رأت أكوام التراب وكسر الطوب أطلقت صوتها بالسباب فخرجت حروف الكلمات مشتتة ممزقة ويداها تخبط بهما علي صدرها ورأسها فخارت قواها.
أخذ الابن يدافع عن حقه في البناء علي الأرض كلها وغرفتها كانت ستشوه المبني وعندما ينتهي من شقته سيقيم لها غرفة علي السطح.
هذا ما عرفته عن قصتها لكني لا أستطيع نسيان عينيها وهي تدعو عليه بحرقة لا تركز نظرتها علي أحد، عيناها واسعتان معكرتان بشعيرات دموية يتطاير منهما الغضب وقلة الحيلة.
رأيتُ تلك النظرة مرة أخري لسيدة مسنة كانت ترتدي عباءتها السوداء وحذاء متهالكًا، وجهها أبيض يوحي بجمال غارب، تسير خطوتين وتلتفت وراءها، جاء شاب وصرخ في وجهها:
ياللا يا ولية بسرعة هاتي الفلوس
ربتت علي كتفه: حاضر، أنا رايحة
وقف يتابعها، تسير ببطء تجلس علي الأرصفة تستريح، كلما جلست علي رصيف يزعق فيها ولا يهتم بتلفت المارة، وقفت تشتكي لسيدة يبدو أنها تعرفها: الواد عايز المعاش وآكل منين؟
نظرت إليها وكانت نظرتها هي نظرة السيدة السابقة تجمع بين الرجاء والخوف والشكوي والعجز.
كل هذا ما علاقته بي ولماذا أري الآن تلك النظرة في عيني؟!
أتذكر تلك النظرة في عيني حماي بعد وفاة حماتي بعدة أشهر قدم لنا فتاة علي أنها زوجة المستقبل وجاءت لتري البيت، الفرحة في عينيه كأنه شاب صغير، يفتح الغرف ويقول لها سأجلب لك غرفة نوم جديدة والمطبخ سأجدده، وصل عند الباب الخارجي وهو يقول: بكرة أكلم عمك وأمك.
جاء زوجي وأبلغناه بما حدث، أسرع وراءها قال لنا عندما جاء أنه هددها إن جاءت إلي هنا مرة أخري سيدفنها مكانها.
في اليوم التالي جاء والد زوجي من عندها وله تلك العينان المعكرتان بالإحباط والعجز.
الأدب الروسي ذكر العجائز علي أنهم الذاكرة والحكمة، من رأيتهم من العجائز كان أولادهم يشككون في ذاكرتهم واصفين إياهم بالتخريف وبأن أيام الفقر لحست عقولهم والدليل أنهم لم يكونوا الثروات كغيرهم من عصر الانفتاح الذي عاصروه وتركهم نظيفي الجيوب.
والحكمة لا أحد يريد خبرتهم لأن أسس تكوين الرأي تغيرت من عصرهم إلي عصرنا، عندما قرر زوجي وأخوته بيع قطعة أرض كانت لأمهم، قال والدهم: قريب لنا أحق بها خاصة أنه جار للأرض.
رفض الأخوة معللين بأن القريب سيبيعها ويأخذ فرق السعر في جيبه، فضل الوالد الصمت فلا طائل من الكلام.
في النماذج الثلاثة كانت النظرة واحدة لكن نظرة أمي كانت مختلفة، قبل موتها بأسبوع عندما دخلت عليها كانت جالسة علي كنبة الصالة رأتني وقفت ثم جلست وبكت انحنيت عليها أقبلها.
لم تكن نظرتها يأسًا أو ضعفًا أرادت أن تقول لا مفر من الموت، ابقي معي لأودعك.
أعود إلي نظرتي في المرآة أهي وداع؟! أم عجز؟!
عجزتُ طيلة الوقت عن حضور حفل توقيع لكتاب من كتبي، أرسل القصص والروايات سرًا إلي دور النشر وعندما يخرج كتاب لي من المطبعة يهنئني البعيدون وفي البيت أخفيه في الدولاب تحت الملابس أو تحت الأسرة كل هذا من أجل السلام العائلي.
كم منيتُ نفسي بنزهة بعيدًا عن قيود الأسرة، البنات لن يتزوجن إذا فرت أمهن لأنه لن يصدق أحد أنها فرت إلي مشروعها في كتابة القصص، حتما سيقال هناك رجل وراء الستار وتستخدم مشروعها حجة، إن كانت موهوبة فإننا لم نسمع عنها وكتبها التي سبق ونشرتها لم تعد عليها بالشهرة أو المال وبعد ذلك تحدثنا عن مشروع الكتابة.
هذه صورتي في الحقيقة أقف علي مشارف الحلم وأتمسك بأسرتي التي لا تعترف بالقصص ولأني تعبت فقد طفحت عيناي عجزًا.
أفكر من أين امتد القيد أجدني تربيت عليه، كان والدي يتحكم في مواعيد الرجوع إلي البيت قبل المغرب وعدم المشاركة في الأنشطة الثقافية والرحلات، كنت أظن أني سأتحرر بالزواج فكان زوجي أكثر تحكمًا من والدي.



عزة دياب
4/7/2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى