محمد رفاعي - غريب علي دكة

غ1
داعب العجوز حبات مسبحته، وهو يتلو الورد، كان قد فرغ من عشاء دسم، وشرب شايا في دورتين، حمد الوهاب، ترحّم علي الآباء، والأجداد والراحلين من أموات المسلمين.
عجوز وابن أخيه يلتقيان في الخريف، غالبا كل عام، تكون حدة الحر كُسِرت قليلاً، وبدا الجو مقبولاً لعجوز قضي معظم سنوات عمره في الشمال، بجوار البحر، عمل في الظل سنوات كدّه المضني، الأيام القليلة التي يقضيها هنا، يخرج بعد العصر، ويتجنب ضوء الشمس المباشر.
وبدا أنه فقد أشياء كثيرة ولد بها.
يتأمل العجوز ضوء القمر ساطعا، رأي ظلال النخيل مرسومة علي الأرض في تلك اللحظة، كان ضوء أعمدة الإنارة مطفأ، رجعت البلدة إلي فتنتها القديمة .. نبحت الكلاب المتناثرة في البراري والأزقة، تبادلت الضفادع التي لم تنم النقيق، بدت السماء تتلألأ بنجومها. قال: " الله .. ما يزال للبلد سحر".
في تلك اللحظة، كان حسه مثقلا بالمسافات التي قطعها في رحلته، وأيقن بعد كل هذا العمر والترحال أن حياته كلها عبث، بدا كأنه غريب عن المكان.
دخل أبي إلي البيت عدة مرات، في يده أوراق مطوية، في وسطها حزمة من الأوراق المالية، أخفاها في جيبه، عاد يكرر الترحيب بضيفه الغالي، كنت أوقن أن تلك اللحظات هي أصعب اللحظات في حياة أبي، كثيرا ما يظلم نفسه، يظل هادئ البال، يحتفظ بنفس الأوراق النقدية التي يقبضها من أي تاجر، والتي تخص نصيب العائلة في الزرع والأرض.
الشيوخ الذين تصادف مرورهم في ذلك الوقت من الليل، يلقون السلام، بعد لحظة يرد السلام بصوت عال، يسمعونه جيدا، يدققون النظر ويندفعون علي الجسر في عناق حار.
كان الكلب راقدا علي مقربة من الدكة، ينبح .. يقترب من الآتي .. يقلل النباح، يخفضه تدريجيا، يهز ذيله، يعود هادئا إلي رقاده .
2
أبي من بقي من هذه العائلة الصغيرة، في البدء رحل جدي،وبعده بفترة تبعه أخوه، كان أبي صبيا، لم يعرف لهو تلك الفترة، كان يعول أمه وخالته في بيت قديم، ورثته جدتي عن والدها، يذهب أبي إلي الصحراء، يظل فيها عدة أيام في قافلة من عدة جمال استأجرها من أصحابها، ويجلب " الماروق " الذي يسمد به الأرض.
تعب من الليل ورهبة الصحراء، اكتفي بقراريطه القليلة ويشارك أقاربه في تسمين عجل وحيد 0 بقي زمنا علي هذا الحال 0 صعد مع رجال كثيرين إلي الجنوب القريب تلبية لنداء السد، يعود كل خميس، يأكل طعاما جيد الطهي، يغسل ملابسه .. يتابع زرعه .. يخزن الحشائش لنعاجه طيلة الأسبوع .. فجر السبت يودع أمه التي تخفي دمعة في طرحتها، يحمل صرته ويعبر النهر وهناك يأخذ قطار السد .
عاد يعمل في البلدة، استأجر قراريط عمه، وزرعها مع أرضه، أقتني أربع نعاج .. يعيش مع الناس بما تجود به الأرض .. يجلس مع الرجال، جيرانه في البيت والغيط، يلعبون السيجة، ويقضون وقتا غير محسوب في المسامرة علي المصاطب / أسرة الجريد،تحت سقائف البيوت يلتفون حول الموقد في الشتاء، دخان خفيف يتصاعد من حطب السنط الجاف، تتوهج النار، يحكي فرحا لأهله وأصدقائه،كيف امسك أسطورة الحلم وهو يتشكل، ولا يمل شارحا لهم كيف أمكن ترويض المارديْن: الجبل والنهر،عاد بالحكايات والذكريات وعشرات الأصدقاء والمعارف الذين شاركوه حلمه،كسرة الخبز،جرعة الماء، ظل الخيمة، ولحظة قبض الأمل المراوغ،براد الشاي قابع في طرف الموقد،حكة خفيفة تقطع سيل الحكايات،والعين تدمع ولا تقوي علي مواجهة الوهج .
يخرج في أوقات يقل فيها العمل إلي البلاد المجاورة لزيارة أصدقائه، نادراً ما يغيب عن البلدة أكثر من يومين، في إحدي أوبأته أحس بتعب في قلبه، لم يعرف كنهه إلي تلك اللحظة، أنزل السرج عن ظهر ركوبته، تركها حرة ترعي قليلا علي أطراف غيطه،شرب كوب ماء من الزير المركون في الظل،لم يستطعمه .جلس علي المصطبة أمام داره،أتي قليل من جيرانه، صافحوه، جلسوا بجانبه يرهفون السمع لحكاية جديدة، يروي رحلته الأخيرة،من قابل من الأصدقاء والمعارف، ما أحوالهم؟ كانوا يعرفون أصدقاءه عن طريق حكاياته عنهم.. شعروا أن هناك علاقة حميمية تربطهم بهم، أحسوا أن وحشة ما تعتلي وجهه المشرق بالفرح دائماً. أكرم ضيوفه، أسند ظهره علي الحائط، تنهد قليلا .. مدّد ساقيه. لاذ بصمت طويل لم يعهدوه .
3
ها هو العجوز المهاجر منذ نصف قرن يعود، عادة يكررها غالباً كل عام . . يبقي أسبوعين علي الأكثر، يفتح بيته القديم الكامن وسط البلدة القديمة، يجلس مع عجائز عرفوه منذ الطفولة،يسامر رجالا استضافهم هناك أياما، أو ذهب معهم لقضاء حاجة أو خرجوا يستدبرون ضيقاً هنا، ليستقبلوا واهمين سعة هناك، منهم من مات هناك، منهم من أدّ من هذه الدوامة، وهربوا من مكان إلي آخر، القليل منهم عاد، ترك خلفه: أحلاما، وتجارة،وعقارات، وأصدقاء، وزوجات رفضن العودة .
رمّم بيته القديم وبني بيتا جديداً محاطاً بالخضرة وضوء الشمس وتنسم الخريف .. يقول للجالسين أمامه في المضيفة النظيفة، يده في حجر جلبابه النظيف، يُسبح وعلي وجهه نور، وفي قلبه سماحة ورضا: " لم نجن شيئاً .. نداهة هي والله.. سرنا فيها . . بدا لنا المكان ضيقاً وخانقاً وهناك كان الأمل / السراب. نحن كنا في الصحراء. بعد العمر والترحال ما الذي دفعنا أن نترك خيامنا وأكواخنا، ونحن نعرف مسبقاً ما نراه هناك، علي مرمي بصر منا ".
4
علي استحياء وخجل شديدين، يقدم أبي إليه ورقة صغيرة، ويبدأ في إعادة الحساب أمامه راجعه مع نفسه مراراً،واستشار أمه وولده البكر وخلصاءه .
كان جدي قد كتب عقداً جديدا، يشارك أبي المحصول، منهيا عقداً قديما ساروا عليه زمنا، لم يتذمر أبي، أو يغضب، أو يساوم، خالف كل المعترضين، بهدوء وثقة،وعزم صادق، نفض يده من الأمر كله،وزهد في الأرض والمال،وعاد أبي يبسط الأوراق أمامه، يجمع ويطرح، بدا الجد متبرماً، نادي أبي جاره، جاءه علي عجل، تبدأ دورة الحساب، وتبدأ معها دورة الشاي، ودورة الذكريات والفراق واللقاء، وتبدأ دورة الجوزة، ترص حجرها علي نار موقدة علي مقربة منه، لا ينطفئ وهجها أبداً، يترحمون علي من كان.
حدق أبي إلي بعيد، قال فجأة، وقد كانوا قد نسوا تماما الأمر الذي جمعهم، "لولا الملامة يا عمي لتركت الأرض والزرع" غرقت عينا أبي في ماء شفاف، وبدأ يري ما لم يره احد غيره وتاه في عالم غير عالمنا مسح دمعة مالحة انحدرت بالقرب من فمه وأضاف: "الأرض بقيت تعبانه.. وعاجزة عن ولادة الزرع العفي مثل زمان".
كآن أبي قد وجد مبرراً لكي ينفض يده من الأمر، ربما كان متعبا قليلاً؟، أو يرغب في الاستكانة أو النسيان؟، ربما نسي في تلك اللحظة أن آخرين يستميتون في ضم الأرض ويسعون إلي ذلك حثيثا، ويزايدون عليه؟.
كأن الأرض أصبحت ساحة مزاد منصوبة ليل نهار، الجد كان ينحي وجهه بعيداً عنه حينما يجهرون بالمراهنة.
كانت أصابع الجار تعبث بـ "بص" حجر الجوزة، يأخذ نفساً عميقا، يستمع إلي صوت الماء، يزداد توهج حجر الجوزة . قال وهو يخرج كمية من الدخان من فمه: "الخروج من الدار إلي الغيط كنز لا يحسه إلا من فقد الأرض ".
هز الجد رأسه مؤكداً، كان أبي بين عالمين، الضوء والعتمة حين قال: ربما؟.
السكون يغلف المكان، وضوء القمر يحوله إلي نهار، نادي جدي علي أحفاد ليسوا من صلبه، أنا الوحيد لم يغالبني النعاس، لم أزل أقاوم، كنت علي مقربة منهم أسمع ما يدور حولي، تقدمت إليه خطوة.. خطوة علي استحياء، وقفت في مواجهته، منحني بعضاً من النقود، نادي علي بقية إخوتي، لم يحضر أحد، كانوا غاطين في سبات.. بعد لحظة منحني جزءاً آخر من المال لأحفاده الصغار.
هدأ نقيق الضفادع تماما. سكنت الكلاب المتناثرة حول البلدة، رأيت مساحة الظلال ممتدة أمامي.. لاح في الأفق انزواء القمر في ناحية من السماء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى