محمد بن ربيع الغامدي - رحلة قصيرة في أوتوبيس طويل.. قصة قصيرة

وقفت طويلا لعلي أجد فرجة أنفذ منها إلى داخل الأتوبيس فلم أجد، تعبت ساقاي كثيرا، الوقوف متعب والانتظار مملّ، أخذت أطوف به بحثا عن فرصة دخول أو فرصة خروج مما أنا فيه، عاينت مداخله كلها فلم أجد منفذا، كانوا على كل باب مثل النحل أو أشد تلبكا. داخلني قلق شديد أن تنفذ المقاعد ثم لا أجد إلا على رحلة قادمة، قررت أن أكون مثل أي منهم، اقتحمت الكتلة المتلبكة أمامي، حشرت نفسي في قلب تلك الكتلة، أحاطت بي الروائح من كل مكان، صارعت حد الاختناق، صارعت حتى عبرت، ما إن دخلت حتى غشّاني أسَنُ المكان وشحّ الهواء، أطبقت عليّ خيبة أمل مدويّة فأخذتني نوبة بكاء.
ندمت ندما انغرس في فؤادي مثل سكين، عاتبت نفسي: كيف أترك سعة الهواء الطلق إلى ضيق الهواء الآسن، تجرعت مرارة الندم، بكيت بعمق دون ألم واضح، كنت انتزع البكاء من قعر الحنجرة انتزاعا بلا معنى، انخرط الجميع معي في بكاء مرير، كل الداخلين معي اعتراهم البكاء أيضا فقد أدركوا ما أدركت، اضطرم الأوتوبيس بكاء لولا أن تداركنا ذوو الثياب البيضاء. حملني ذوو الثياب البيضاء، أجلسوني على مقعد وثير وأجلسوا الركاب جميعا على مقاعد وثيرة، سكتنا على مضض ولما تحرك بنا الأوتوبيس عدنا إلى البكاء. أداروا بيننا أقداح الحليب، أقداح حليب كان مزاجه سلسبيلا، شربنا فسكتنا، وفي كل مرة نبكي تأتينا أقداح الحليب، نبكي ثم نشرب ونسكت، نبكي ثم نشرب ونسكت، كان الأوتوبيس يتحرك بنا على معازف النشيج وعلى وسوسة الأقداح.


عبر بنا الأوتوبيس الطويل بواكير الطريق ونحن بين بكاء ونوم وحليب، ملّ من بكائنا ذوو الملابس البيضاء، حاولوا إرضاءنا بشتى الوسائل لنسكت فما نجحوا، قال كبيرهم: دعوهم، تجاهلوا بكاءهم. غض أتباعه الطرف عنا، أصبحوا لا يعيرونا أي اهتمام، تجاهلوا بكاءنا فازددنا صخبا، عقدوا اجتماعا طارئا فلما انتهى اجتماعهم حلّوا أربطة أعناقهم وانهالوا علينا ضربا، كنا نتلوى تحت لسع ضرباتهم الحارقة فقمت خطيبا، ناشدت قومي مناشدة المخلص الأمين، نصحتهم بالكف عن البكاء والتعبير بالأقدام عوضا عنه، علمتهم كيف نضرب أرض الأوتوبيس بأقدامنا ضربا موقعا فاشتعل الأوتوبيس احتجاجا، استشاط ذوو الملابس البيضاء غضبا فعادوا ثانية لضربنا، ضربونا بربطات أعناقهم كرّة ثانية إلى أن نمنا.


دخل الأوتوبيس الطويل في الكيلومتر الثالث فغيّر ذوو الملابس البيضاء تعاملهم، شرعوا في مضايقتنا، ضايقونا في الحليب الذي نشربه، ما تركوا طعما كريها إلا ومزجوه بالحليب حتى عفناه وعفنا شربه، اعتدنا على البدائل حتى أصبحنا مثل جراء تتعلم الاقتتال على عظمة. أدخلت يدي في حقيبة جاري، كان الخبيث يخبئ في داخلها علبة بسكويت، الساعة – إحقاقا للحق-كانت ساعة جوع ورائحة الكاسترد نفاذة، مغرية وشهيّة، نجحت في نشل علبة البسكويت لكني فقدت في الوقت نفسه كسرة خبز كانت في جيبي، ما رأيت السارق وما شعرت به لكني آمنت أنه سيقع في يدي يوما.


قطع بنا الأوتوبيس مسافة تزيد عن الكيلومترات العشرة، البعض منا كان نائما أما أنا فكنت من بين القلّة القليلة التي لم تنم، رفع ذو الأنف العجيب عقيرته بالغناء. أنا الذي سميته "ذو الأنف العجيب" وإلا فليس في أنفه ما يدعو للعجب، وأيضا لا علم لي باسمه، لكنه منذ تلك اللحظة أخذ يغني ويحرك أنفه حركة عجيبة، قبل ذلك ومنذ وقت وجيز كان يغني بينه وبين نفسه، يهجرس هجرسة كما يقول البدو أما الآن فقد طاب له المغنى، وكزه الذي يشغل المقعد المجاور له، طلب منه أن يسكت فالوقت الان ليس وقت غناء، لكن ذا الأنف العجيب لم يعره اهتماما، نصحه بحشوة قطن ممتازة تغلق سمعه لينام ويترك الآخرين وشأنهم ثم ناوله تلك الحشوة بالفعل.


الجار المنزعج من غناء ذي الأنف العجيب يتناول الحشوة بمنتهى الهدوء، يقلبها في يده هنيهة، كان يقلب حشوة القطن في يده ويراقب، يتحين غفلة منه، لما بدت له فرصة مناسبة، نهض بغتة وأولج الحشوة في أذن المغني نفسه، انتفض ذو الأنف العجيب ثم نزع الحشوة ورجم بها جاره المنزعج. ليته اكتفى بذلك ولكنه شتمه أيضا، شتمه بكلمات نابية، رد عليها الجار بأسوأ منها ثم رجمه بالقطنة ثانية، لكن القطنة أخطأت طريقها فوقعت في عيني، لم تكن الرمية مؤلمة لكنها مهينة. دار بي الأوتوبيس، نهضت وقد أخذ الحنق بمجامع عنقي ثم صفعت المغني وصفعت جاره أيضا، رغبت بذلك أن أقدم نفسي للناس كأعقل العقلاء على ظهر هذا الأوتوبيس الطويل.


جعلت من نفسي أعقل العقلاء لكني تصرفت على النقيض من ذلك، تصرفت برعونة، رعونتي تلك جمعت بين خصميّ على قلب واحد، وحَّدَتْهما ضدي فأصبحا حلفا واحدا ضدي. هجما عليّ سويا هجمة رجل واحد ثم أوسعاني صفعا، نهض اثنان من الجهة المقابلة وقاتلا معي، قاتلا على غير دعوة مني أو حتى معرفة سابقة بيننا، ثم انقسم الركاب جميعا إلى فريقين متقاتلين، فريق مع المغني ذي الأنف العجيب وجاره المنزعج منه وفريق معي. احتدمت المعركة داخل الأوتوبيس الطويل، أطبقت فكيّ القويين على شحمة أذن قريبة مني، وعندما شرعت في هرسها انتشر في فمي طعهما المالح، كانت مالحة مقززة فلفظتها بسرعة، بقي ملحها على فمي، لم أتمالك نفسي، تقيأت بصورة عصبية كما لم يتقيأ كائن حي من قبل.


وضعت الحرب أوزارها وتفرغت الأطراف المتحاربة للفرجة، الفرجة عليّ وأنا أتقيأ بلا قيء، كنت استجمع قواي كما يفعل الديك قبل أن يطلق صيحته العبثية ثم أهوي من علٍ، أشعر بأن أحشائي قد خرجت من جوفي، أدقق النظر في أرضية الأتوبيس الطويل من تحتي فلا أجد قيئا، أضغط على إرادتي الهشة لإنهاء هذا المشهد السخيف فلا تستجيب، أحاول الخروج بكامل محيطي من دائرة الطعم المالح التي وقعت في شراكها كذباب في بيت عنكبوت فلا أستطيع، أثقب ذاكرتي كي أنسى فتعود الشحمة بين أضراسي، ينبعث الديك من أعماق فؤادي فإذا أوشك أن يصرخ سقطت أحشائي من علٍ، وبعد أن كان الركاب على مقربة من مأساتي ابتعدوا عني وشرعوا في الضحك مثل الشراميط.


وصل ذوو الملابس الزرقاء كأنهم الزبانية، أقدامهم مختلفة وفيها غلظة، لها وقع ورجفة يهتز لهما القلب، أعادوا كل شيء إلى مكانه وأعادوني إلى مكاني. ران الصمت على المقاعد وبان على وجوهنا الخنوع، فتشوا كل شيء، فوق المقاعد وتحتها وعلى اليمين وعلى الشمال، وقبل أن ينصرفوا تقدم مني أحدهم ثم نشر أصابع كفّه اليسرى فوق هامتي وفتل رأسي من اليمين إلى اليسار في حركة عالية المهارة، فتل رأسي حتى أصبحت مواجها للركاب الذين خلفي. سمعت تقصّف عظام رقبتي لكني لم أشعر بأي ألم، كل الذي كان هو الدهشة من الفعل نفسه ثم احتباس الكلام فوق لساني، كنت أشاهد كل شيء لكني لا أستطيع الكلام، وددت حتى لو استطعت الإشادة بمهارة هذا الفتّال الداهية ولكني لم أفلح.


أوشك الأوتوبيس الطويل أن يكمل ثلاثين كيلا رغم الملوحة والمرارة والأحذية الغليظة والعراك الذي دام لساعات في داخله، يسلك سبيله بسلاسة مثالية والركاب معه، وجوههم للأمام، وحدي فقط كان وجهي للخلف بعد أن فتله الفتّال، رغم هذه الحالة فقد وجدت متعة في مطالعة وجوه الناس حتى نسيت همّي الذي كنت فيه، بل تمنيت لو كنت على هذه الوتيرة منذ بداية الرحلة، النظر في الوجوه مثل القراءة في الكتب، لكل واحد منا كتاب في وجهه ولكننا نكابر، نهجر الوجوه إلى كتب النظريات الشائكة نقرأها وكأننا نزدرد حبات التين الشوكي بقشورها المشوكة.


فجأة توقفت أمام وجه لا يشبهه وجه من وجوههم، وجه ظاهر اللطف، وجه جميل اكتشفته بالصدفة أو قل تأخرت كثيرا في اكتشافه، أوجعتني بلادتي التي تنقلت بي بين كل الوجوه عدا هذا الوجه المشرق، وجه أنثى صارخة اللطف في المقعد المواجه لي تماما، في المقعد المواجه الذي لا يفصلني عنه فاصل. وجه مستدير فيه عينان نضاختان كأنهما عينا فهد أفريقي، بدا لي وكأن حزمة من ضوء نافذ يخرج منهما، ابتلعت ريقي مرة في إثر مرّة، وددت لو قلت بصوت مرتفع قاتل الله الغباء المستحكم الذي يحول بين المرء وبين ملكوت ربه لكن لساني صار قطعة خشب في فمي، وفمي أيضا كان مثل تنور أضرم فيه الخبّاز نارا حتى تسعّرت جوانبه.


انزلق بصري ببطء وتروٍ على مساحات اللطف التي أمامي، ابْتَسَمَتْ لي وابْتَسَمْتُ لها ثم أخْرَجَتْ مغلفا من حقيبتها اليدوية، فتحت المغلف الذي كان من رقائق الألومنيوم لتخرج منه منديلا معطرا، نهضَتْ وتركتْ مقعدها، أقبلت نحوي ثم شرعت تمسح بالمنديل المعطر وجهي، كان المنديل باردا زكي الرائحة لكن مكعبات التعب المتناثرة على صفحة وجهي كانت فوق طاقته فأضافت منديلا آخر، شعرتُ بانتعاش لم أشعر به من قبل، أطبقت أصابعي على مسند مقعدي ورفعت رأسي قليلا ثم وجدت لساني يتحرك فقلت لها شكرا، أعدت كلمة شكرا مرة أخرى كي أصدق أنني قلت شكرا، كي أفرح بميلادي اللغوي من جديد، وبالفعل قلتها وسمعتها أنا وهي وسمعها القريبون منا من ركاب الأوتوبيس الطويل.


اتخذتْ لنفسها حيّزا بسيطا من مقعدها وتركت نصفه فارغا، تنبهتُ لهذا التصرف وخبأتُ في نفسي شيئا، سألتها إن كانت قد فعلت ذلك من أجلي فلم تُجِب، انتظرت أن تستوي على عرشها كاملا فلم تفعل، ظلت كما هي في نصف المقعد، كررت السؤال فلم تجب أيضا، فاض صبري، انتصبت واقفا في مكاني، غادرت مقعدي وكأنما قد نشطت رجلاي من عقال، دفعت بأرتالي نحوها، حشرت جسدي معها على مقعد واحد، سادنا صمت يمشي جنبا إلى جنب مع الأوتوبيس الطويل، استرقت النظر إليها مرات عديدة، كانت جميلة بوجه جميل يتوّجه شعر جميل أيضا زاده الشال الأزرق بهاء وألقا، في عنقها خال أشقر يتماهى مع لون السلسلة الذهبية التي تطوف حول جيدها فكأنه قد جاء والعقد في آن معا.


استجمعت في ملامحي كل لطف تعلمته أو سمعت عنه منذ أن خلقني الله وحتى تلك الساعة ثم اقتربت منها، سألتها من أين؟ ويبدو أنه سؤال لا جواب له. من جانبها هي فقد شرعت في الإجابة، لكني أنا تداركت عقم سؤالي فأوضحت لها أن كل هؤلاء الركاب جاءوا من ذلك الباب الضيق ونحن مثل البقية جئنا من الباب نفسه، ضحكتُ ولم تضحك. رَسَمَتْ على محياها بدلا من ذلك كله سؤالا، خلت أنها تقول لي إلى أين؟ تخيلت السؤال ثم طفقت أجاوب، قلت كلاما نزعته نزع الماء من بئر مسحورة وختمت محاضرتي المسهبة بأني جوّاب آفاق، جوّاب آفاق أسير مع الأوتوبيس الطويل حيث يسير. قلت ذلك ثم ران بيننا صمت موحش.


أردت أن أبدد وحشة الصمت التي أطبقت عليّ وعليها، تذكرت حالة القيء التي أودت بسمعتي داخل الأوتوبيس الطويل، أخبرتها في محاولة لتحسين سمعتي أنها كانت حالة عرضية وليست طبعا متأصلا فيّ، أظْهَرَتْ تفهما عاليا لحالتي بل علمتني أن الآدمي كلما كان نظيفا كان سريع التأذي من أي مذاق ممجوج أو رائحة كريهة، شكرتها طويلا على هذه الحكمة البالغة واتخذت من الأذن المالحة مثالا على ذلك، ما إن جاءت عبارة الأذن المالحة على لساني حتى استيقظ الديك في داخلي، نوبة ثانية جعلتني أسحب أحشائي من قاع مستقرها المكين وعندما وصلت إلى قاع حنجرتي هويت بكاملي من علٍ، التفت نحونا كل من كان على ظهر الأوتوبيس الطويل، أثقل الخجل كاهلي، وبينما كنت أغلق فمي بقوة رأيتها تجمع قبضة يدها وتهوي بها على المنطقة الفاصلة بين قفاي وبين فراشة ظهري.


كانت ضربة موجعة جدا لكنها جاءت موفقة تماما، أعادت كل شيء إلى مكانه، لا أدري إن كانت تلك الضربة هي بنت حينها أم أنها من الوصفات المنزلية الرائجة المتداولة بين ربات المنازل، اختيارها للمساحة الفاصلة بين قفاي وبين فراشة ظهري يدل على أنها وصفة، وقد تكون اجتهادا، وفي جميع الحالات فالنساء هن ربّات التفاصيل الدقيقة، لديهن البصيرة الثاقبة ولديهن الكثير من الرحمة، وفي الواقع فليست أحشائي وحدها هي التي عادت لمستقرٍ لها بل ولساني أيضا، الضربة تلك أعادت لساني إلى مسالحه، حتى ملكة الكلام التي كنت أتعدها بالرعاية لتنمو معي يوما بعد يوم، الملكة التي غادرتني منذ لحظات العراك السخيف الذي نشأ على غير مشيئة مني، تلك الملكة الأثيرة أيضا عادت.


إنها هي، هذه الأنثى وحدها التي أحيت في نفسي شهوة الكلام، شاركتها مقعدها فأعادت بعثي من جديد، كنت شتاتا فلملمتني، واليوم عندما غشت الأوتوبيس الطويل أمْنَة من نعاس اقتربت مني، اقتربت من أذني على وجه التحديد، ألقت بضع كلمات في سمعي، أشْعَلَتْ الفتيل تلك الكلمات فلما اشتعل قمت خطيبا. عندما قلت مستهلا خطبتي: "الحمد لله حمدا دقّ في كل وصف وجلّ عن كل وصف" رأيت ملائكة الرضا تتنزل على جنبات الأوتوبيس الطويل، أمامي ومن خلفي. وعندما قلت: "حمدا رام كل معنى وفاق كل معنى" رأيت السكينة تهطل مثل ندف الثلج فوق رؤوسنا. وعندما قلت: "وله الحمد حمد كرسيّه له يوم أن عليه اعتلى وحمد عرشه له يوم أن عليه استوى" اجتاحت الأتوبيس الطويل عاصفة من التصفيق.


قلت وقد اشرأبت الأفئدة نحو فمي: أيها الأفّاقون الشرفاء على متن هذا الأوتوبيس الطويل، لا تسمعوا دون وعي ولكن اسمعوا وعوا، فليس للسامع إلا ما وعى، ألا إن كل حرف يتفلّت من قيد الوعي فهو هباء. دوّى التصفيق، كل من كان قريبا أو بعيدا صفق لي، وبعضهم أطال قليلا. أخذتني العزّة وشعرت أن للكبرياء دبيبا ونفخة ونفحة، شرعت في استخدام الإيماءات، إيماءات كفيّ وذراعيّ وجذعي ولحمة وجهي كلها كانت تتكلم معي، وكنت أتكلم والناس تصفق، يقاطعني التصفيق فأكرر، وعندما قلت: "هذا الأوتوبيس الطويل الذي قد جاز بنا ما يزيد عن الأربعين كيلا سيتوقف يوما" ساد الوجوم على الوجوه، فلما قلت:" سيتوقف وسوف نفترق" بكت الناس والشيوخ.


داهمتني حالة ندم لم أجد لها تفسيرا، تحدث معي أحيانا فأنقلب على نجاحي، اعتراني شعور جارف بأن إثما ما قد أُرْتُكِب، جلست وقلت في نفسي: "بكاء الناس ليس نجاحا لي". تذكرت شريكتي في المقعد، استرقت النظر لوجهها، كانت هي أيضا تبكي، شريكتي التي أعادت صياغتي تبكي مع الباكين، اختلط دمعها بكحل عينيها، حزمة من ضوء كانت تنعكس على وجهها الدامع فزادته التهابا، أصابتني غصة، قلت في نفسي أنا ملعون إلى يوم الدين، ما الذي دفعني لذلك الهراء الذي قلته، أبكيت الناس وأبكيتها في حين كان عليّ ألا أفعل، لم يكن من الحكمة أبدا أن أثير مخاوف الناس على تلك الوتيرة، ملعونة شهوة الكلام عندما تفضي بالناس إلى سراديب الحزن.


استبشرت خيرا عندما دنت مني، بل خف عندي الشعور بالذنب لأنها دنت مني، رغم حالة الحزن العارم ورغم الدموع ورغم الكحل الذين انساح حتى تخطى وجنتيها دنت مني، دنت مشيدة بكلماتي التي انتزعت الدموع من المآقي كما تقول، كلماتي التي طهّرت النفوس كما تقول أيضا، استرسلتْ بعد ذلك في الحديث عن التطهير وعن الدموع التي تغسل الآثام، عن التراجيديا وعن نظرية أرسطو في الخلاص من ركام المشاعر الضارة، ومن بين أغصان ذلك الخلاص قفزت الموسيقى إلى صحن الكلام بيننا، لم نترك أحدا من أهل الموسيقى في حاله، حتى مجنون الكمان باغنيني الذي عزف ذات يوم على كمنجة بوتر واحد ؛ أتينا على ذكره.


توسمت شجىً في صوتها بعد أن أسكرني ما تبادلناه من الحكي عن الطرب، توقعت أن لها تجربة شخصية مع الغناء، صاحبة هذا الصوت وذلك التعلق لا بد أن تكون قد صدحت يوما، سألتها فابتسمت وقالت نعم، مددت ظهري متفاجئا ونظرتُ نحوها مندهشا، قلت: معقول؟ قالت: نعم، ولكن مرة واحدة فقط ولا أنساها، شَرَعَتْ تغني لفريد الأطرش بدون مقدمات، بساط الريح جميل ومريح، وكله أمان ولا البُلمان، بساط الريح بساط الريح، تفاعلت معها على غير قصد مني: يا طاير فوق وكلك ذوق، أنا مشتاق وبراني الشوق، ودوايَ في سوريا وفي لبنان، ارتفعت وتيرة صوتها الآسر: نسيم لبنان شفا الأرواح، عليل القلب عليه يرتاح، ويا مشتاق لأرض الشام تبات سكران بلا أقداح.


احتدم الرقص في طول الأوتوبيس الطويل وعرضه، كنت وشريكتي مثل الثنائي ذاته الذي يتناوب غناء أغنية بساط الريح. يبدو أن صوتها كان آسرا ويبدو أن صوتي كان متمما لصوتها تتميم "دُمْ" لـ "تَكْ" على صفحة دفّ اشتاره صانعه قبل أن يختاره من جلد غزال، نعم هو كذلك حتما وإلا لماذا يرقص الناس بهذا الجنون؟ ما بقي من الركّاب واحدا في مكانه، كلهم انتصبوا انتصاب حرف الألف في خط الرّقعة، بعضهم كان بمفرده وبعضهم كانت له شريكة تتناوب معه التعطّف والانثناء، تراهم سكارى وماهم بسكارى ولكن فورة الطرب عاتية. تلك الفورة انطفأت فجأة، دخل علينا ذوو ربطات العنق السوداء في أيديهم مطارق رفيعة من الخيزران، عاد كل إلى مكانه والتفّت الساق بالساق كأن شيئا لم يكن.


توقعت أن يطول الصمت، أشكال تلك المطارق تبعث على الألم فكيف إذا هوت به ذراع غليظة؟ أشكال تخيف المردة والشياطين فكيف بها مع أفّاقين لطفاء؟ رغم ذلك لم يطل الصمت، اشتعلت في مقدمة الأوتوبيس حركة احتجاجية، مظاهرة صاخبة قام بها بعض الركاب أجفلت الطير التي كانت على رؤوسنا، اقتربت مني شريكتي وهمسا قالت: لعلها مسيرة احتجاج على قمع الفرحة عند الناس، قلت ولماذا لعلها؟ بل هذا هو ما يحدث، الوقت الفاصل بين اجتياح ذوي ربطات العنق السوداء للأوتوبيس وبين قيام المظاهرة وقت وجيز، غابوا عن مسرح الحدث وحلّت محلهم المظاهرة، لا تفسير لها غير ذلك، مسيرة احتجاج على ذوي ربطات العنق السوداء.


رشَحَت لي معلومات مُذهلة، مذهلة جدا لكنها ليست نهائية، سمعتها ولم أتحقق منها بعد، المظاهرة ترفض البطء الذي يسير عليه الأوتوبيس الطويل. تضايقت كثيرا من هذا الهدف المراهق، هدف تنقصه ذائقة تفهم الجمال وتتذوق تفاصيله وترنو إليه. ما لذي أزعج المتظاهرين الأشاوس من سير الأوتوبيس؟ سرعة هادئة هانئة واثقة تضع جمال الطريق تحت ناظريك فلم الانزعاج؟ نحن جوّابو آفاق فلم الاستعجال؟ ما لجدوى من ثمانين كيلا نقطعها بأعين معصوبة؟ سكتُّ على مضض حتى رأيت لافتة مع أحدهم، لافتة تشجب وتستنكر بطء المسيرة. تأكد لي سخف مطلبهم فانخرطت في تشكيل فريق مناهض، استمالت كلماتي نصف الركاب، يزيدون عن النصف قليلا أو ينقصون قليلا، أما شريكتي فقد تفهمت الأمر من غير إيعاز، تفهمت فشَرَعَتْ تكتب لا فتات مناهضة.


شعرت بغبطة لم تحدث معي من قبل، نصف ركاب الأوتوبيس كانوا معي، هذا هو الانتصار يتخلق أمام عينيّ، كانت شعاراتنا منحازة للأوتوبيس كما هو الآن: البطء محضن الهدوء، الطبيعة من حولنا لمن يراها، السرعة العالية تفضي بالرحلة إلى لا شيء. بينما كانت شعارات العدو مناقضة لنا تماما: العمر مش بعزقه، نستصرخكم؛ أودت بنا البواسير، سئمنا من هذه الرحلة. كان خطباء العدو يتناوبون منصة الأكاذيب، وغوغاء الناس يتهاوون حولهم كأنهم الفراش المبثوث، خصصت خطابي الأخير للدعاء عليهم، تضرعت إلى الله العلي القدير أن يفرق شملهم، أن يمزقهم شر ممزق، كنت أواصل التضرع حتى أغيب في سحابة من نور، أغيب حتى تلملمني كلمة آمين تخرج مثل ذوب السكر من أفواه فريقي.


انقسم الأعداء إلى فريقين كلاهما عدو، أصبحنا الان ثلاثة فرقاء في أوتوبيس واحد، أظن هذا الانقسام قد حلّ بهم لبركة دعائي، ولعله حلّ ببركات أتباعي وبركات تأمينهم على دعائي، ولعله من الدعاء والتأمين معا، لا أقدر على الجزم بشيء، كلنا في عداد الصالحين، لا أجزم إلا بحدوث الانشقاق، الانشقاق حدث بالفعل ركّاب الأوتوبيس الطويل جميعا، انشق نصفهم على الأقل وهاهم أمامي يقتل بعضهم بعضا من أجل البواسير، طالب المنشقون بإزالة لافتة البواسير حيث أن الكلمة خادشه، تخدش الحياء وتكشف للعيان ما ينبغي ستره، تكسرت مطالبهم تلك تحت أقدام محرّضهم الذي أبى واستكبر، رفض مطالبهم وعنّفهم فانشقوا عنه، رفعوا لا فتة جديدة وانماز جمعهم عن جمعه، قالوا: نحن أصحاء لكن مللنا.


وجدت في ذلك الانقسام فرصة لشد وثاق أتباعي، فرصة لبقاء صفنا واحدا وجبهتنا الداخلية متماسكة، واصلت الدعاء وواصلوا التأمين حتى تشظّى العدو ثانية. يا لفرج الله، انشقاق ثانٍ يتخلّق أمام أعيننا، على مرأى ومسمع من ركاب الأوتوبيس الطويل، انشقاق ثان ولمّا يسكن عندهم جرح الانشقاق الأول، التفت نحو شريكتي في المقعد وقلت لها: أصبحنا أربعه، أربعة فرقاء يا أمة الله. طالب المنشقون الجدد بإزالة لافتة "العمر مش بعزقة" وصفوها بالعبارة المولّدة، قالوا عنها أنها عامية وحشية ركيكة. انتفض محرضهم رافضا إزالة اللافتة، انتفخ مثل ديك تساقط ريشه وقال لهم: نصفنا ركيك والناس شركاء في الحكي، هل نلغي نصفنا من الوجود، أم نكمم أفواههم لأنهم من العامّة؟


امتدت عدوى الانقسام نحو معسكرنا، لم يرق للشيطان الرجيم أن يرى فريقي موحدا، لن يبرح حتى يجعل منا شيعا وأحزابا مثل أعدائنا، أخذ يوسوس لنفر منه فريقي، أغراهم حتى أغواهم، انشقوا عنا انشقاق القمر عن أمه الأرض، داسوا بأقدامهم على أهداف الفريق، تناسوا كلماتي وكل خطبة دبجتها بدمي وعرقي، اعترتني خيبة أمل ما رأيتها قبل اليوم، وجهت لهم نصائحي فأخرجوا لي ألسنتهم، حدجتهم بنظرات حادة حارقة فأخرجوا لافتة تسخر من الطبيعة، جلسنا على مائدة الحوار فمزقوا لحمي بألسنتهم الحداد، قالوا: نحن مع البطء في السير لكننا لسنا مع التشبث بنوافذ الأوتوبيس كالأطفال، شجرة تتعقب أخرى، غابة تتلو حريجة، وهدة تتبعها ربوه. قالوا ذلك ثم انصرفوا وتركوني واقفا تسمع لي تغيّظا وزفيرا.


ارتميت على مقعدي المشترك، ربتت شريكة مقعدي على ظهري، سردت على مسامعي قصص الصمود التي نهضت بها الأمم، عندما قالت لي أن الحياة عقيدة وجهاد عادت لي الروح، انتصبتُ واقفا للحديث عن وحدة القول والعمل، للإشادة بالأيدي المتشابكة استباقا لأي انشقاق قادم، لكن قميئا خرج عليّ فجأة، خرج من قلب العتمة وصرخ في وجهي، كانت أوداجه منتفخة والزبد مثل بلّورات الملح الصخري متناثرة حول شدقيه، استمر في الصراخ فتوقفت عن الكلام، عيّرني بأني رجل سِفْلَة فتوقدت جمرات شيطاني، حمّلني مسؤولية الفريق الذي انشق، اقترب مني ومد سبابته حتى لامست أرنبة أنفي ثم خرجت كلماته مثل زخة من رصاص: إما أن تقمع الانشقاق بقوة وإما أن تضع مؤخرتك بجانب مؤخرتها هناك، وأشار إلى شريكتي في المقعد.


صرخت في أنصاري: يا خيل الله اركبي، صرخت نحو اليمين ونحو الشمال فاحتشد الأوتوبيس الطويل صهيلا، ملأنا البرّ حتى ضاق عنّا وظهر البحر نملأُه سفينا، قسمت فريقي إلى قلب وميسرة وميمنة ونظمت لكل منهم كردوسا وساقة تزحف من ورائهم، جعلت هدفنا الأول ذلك القميء ذا الأوداج، ربيب العتمة الذي صرخ في وجهي. قلت: انتزعوا أوداجه المنتفخة عرقا من بعد عرق، ثم نأتي على من معه، نجهز على فريقه الضال الذين غرّر بهم، نؤدبهم أولا ونؤدب بهم ثانيا، ولم لا وهناك سمعة للفريق داس عليها القميء ومن لفّ لفه وعلينا مسح الغبار عن شواربنا بأيدينا. صرخت ثانية يا خيل الله اركبي فاجتاحت خيلي ذلك القميء ورفاقه، طلعنا عليهم طلوع المنون فطاروا هباء وصاروا سدى.


كدنا أن نسحق التمرد لولا أن دخل علينا ذوو الأحذية الغليظة، لقد جاءونا من كل مكان في يد كل واحد منهم هراوة غليظة، جاءوا من فوقنا ومن تحتنا ومن على الجانبين ثم أوسعونا ضربا، هووا على رأسي بهراوة غليظة تلقيتها بساعدي الأيمن، لا حظوا انشغالي بساعدي، هووا كرّة أخرى على رأسي بالهراوة ذاتها، تلقيتها بساعدي الأيسر، غرقت في صمت غريب، صمت كأنه ذلك الصمت الموحش الذي يحيط بكوكب زحل، حتى حلقاته الملونة كانت حولي، حلقات زحل استدنيتها نحوي فكانت تدور حول رأسي، تحركت والمقاعد تترنح حولي، الركاب أيضا كانوا كمن تدور به رأسه لفرط الشراب، وصلت إلى نصف المقعد الذي منحتني إياه شريكتي وجلست.


أسندت ظهري برفق مبالغ فيه ثم ألقيت رأسي إلى الخلف، ظهرت وجوههم وكأنها تتشكل في دائرة حولي، شعرت وكأنني أضطجع في قاع بئر لا ماء فيه وهم متحلقون على فوهة البئر، عرفت صاحب الشحمة من بينهم فصرخت فيه: هاهي آثار أسناني باقية على شحمة أذنك المالحة. في نقطة ما من تلك الدائرة رأيت وجه القميء الذي ضربته على أنفه حتى أوجعني دمه، قلت له: ها قد جَعَلْتُ أنفك مثل فتحتي مقص، فتحة أكبر من الثانية. التفتُّ نحو اليسار فرأيت ذلك المغني سيء الحظ، أخرجت له لساني وقلت له طز. في أقصى اليسار كانت ذات الوجه الصبوح، ابتسمْتُ لها وابتسمَتْ، قلت لها سلام عليك يوم أن ألقيتِ على وجهي قميصك فأتيتك بصيرا، سأتركك قريبا فقد باتت رائحة إبطيك لا تطاق. غرست عينيّ في عينيها وسألت: كم سار بنا الأوتوبيس الطويل أيتها السمينة؟


أذلقتني قطرة ماء تحدرت من طرف جبيني ثم انحدرت نحو فتحة أذني، انتفضت جالسا، أولجت سبابتي في أذني لكني نسيت لماذا أولجتها. تلفت بعد أن جلست، لم يكن حولي من أحد سوى شريكتي في المقعد، كانت تداول بين كمادتين باردتين على جبيني، لا أدري متى جاءت بهما ولماذا، لكنها قالت أن حرارتي قد ارتفعت وأخذتني نوبة حمّى. صعقني ما سمعت منها، كررت الاستغراب بيني وبين نفسي: حرارة وحمى؟ وأين كنت أنا؟ حرارة وحمى تنهش جسدي وأنا آخر من يعلم؟ ضحكت سخرية وسألتها ما هذا المزاح؟ ذكرتني بالهراوتين وذوي الأقدام الغليظة وساعدين كادت أن تسحقهما الهراوات. نظرتُ إلى ساعدي فتذكرت ذلك وتذكرت معركتي مع القميء، سألتها إن كنت قد دخلت في غيبوبة فقالت نعم، ارتعدت فرائصي عندما قالت نعم فأضفت مرعوبا: ونوبة هذيان؟


شق عليّ كثيرا ما سمعت، نوبة الهذيان مسألة خطيرة قد تترك الكثير من الجراح، جراح النفس التي يطول نزفها وقد تقوم الساعة قبل أن تندمل. ماكنت وحيدا عندما أخذتني تلك النوبة، كنت في وسط يعج بالركاب وهي، هي أيضا كان لحمي في لحمها فهل سَمِعَتْ مني نُكرا؟ مادام الهذيان قد كان فيجب عليّ أن أتوقع فضائح كثيرة، ربما شتمت أحدا من الركاب وقد أكون شتمتها هي أيضا، ربما هتكت سترا أو كشفت سرا. طويت شفتي السفلى تحت ثناياي، قلت بأسى: ما كان ينبغي لي أن أستسلم للغيبوبة، لولا غيابي عن وعيي ما كان هذيان ولا شتم ولا هتك ولا كشف أسرار، ليتني ما قاتلت أحدا قاتل الله الحرب، الحرب تقود إلى الهذيان، الحرب تأتي نتائجها سيئة في كل الحالات.


فوجِئْتُ بها تشتكي من ضيق المقعد، قالت أن المقعد لم يعد يتسع لكلينا ومن العدل أن أترك مقعدها لها وأعود لمقعدي، شريكتي في المقعد تطلب فض الشراكة بيننا، نفصم عُرى الشراكة بعد عشرات الكيلومترات التي قطعناها معا. هذا الطلب كان أشبه ما يكون بصعقة كهربائية، غير أنها صعقة أشد ضررا، أحرقت دمي ولم أمت. كنت أتوقع منها ذلك مذ أخبرتني عن الهذيان، لابد أن أكون قد هَرَفْتُ بأمر كدّر صفوها، قلت لها بغباء يائس: تعالي معي وشاركيني مقعدي، قلت ذلك لأن طعنة الطلب كانت غائرة وأنا مثل من يترنح لا يرى موضع ثبات يضع عليه قدمه، رفضتْ الفكرة دون أن تسخر منها مع أنها فكرة تبدو مثل نكتة ساذجة، قالت: عد لمكانك ودعني في مكاني، ثم أضافت: تقدمت بي السن وازددت سمنة وأصبحت رائحة ابطي لا تطاق.


خيّل لي أن الأمور قد هانت كثيرا وباتت قيد الانفراج، مادامت القضية قضية سمنه ورائحة أبط فلا قلق البتة، أنا قبلت شراكتها كما هي، قبلتها بجميع روائحها وقبلتها بأي وزن كانت، السمنة ورائحة الإبط هذا رأيها هي فقط أما أنا فإني أراها قنينة عطر، قلت لها ذلك وأقسمت لها أيضا، قلت أنتِ عندي مثل قنينة عطر فاتركي عنكِ هذه الوساوس. حينما رأيتها سادرة في غيّها ولم تكترث ألححت عليها أكثر، الححت على أن تتراجع عن فكرة فض الشراكة، بان لي منها وجه عبوس ما ظهر لي قبل اليوم، بدا مثل قناع في مسرحية تدور أحداثها في عوالم سفلية، عوالم السحر والجن والشياطين، قالت: ما جدوى أن تراني مثل قنينة عطر وفي هذيانك تقول أن رائحة ابطي لا تطاق.


أضحكتني عندما قالت هذيانك، أضحكتني وأثارت استغرابي وأسفي في آن معا، هذه التي عرفتها بلسما بل أكسير حياة تفض شراكة عمر بسبب هذيان؟ لا شك أنه هذيان لعين تمنيت لو لم يكن، وسوف أقضي بقية عمري أتردى في عواقبه لكنه هذيان على كل حال، هذيان لا ينبغي أن نفصم عرى حياتنا بسبه. قلت لها معاتبا: الهذيان يا أمة الله لا يكون إلا مع غياب العقل، الهذيان مثل كلام المجنون لا يبنى عليه قرار ولا يؤخذ منه نتيجة، شرائع الله منذ عهد أبينا آدم رفعت القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ والسفيه حتى يرشد والمجنون حتى يعقل، أنا كنت غائبا عن الوعي، والغائب عن الوعي مثل النائم ومثل السفيه ومثل المجنون.


تركت لها مقعدها وعدت إلى مقعدي، كان تجرع السمّ أحب إليّ من فض الشراكة بيننا ولكن ماذا كان بوسعي أن أعمل؟ جعلتْ شراكتنا تحت أقدام حالة هذيان فماذا أصنع لها؟ عدت إلى مقعدي مهيض الجناح، قررت الصيام عن الكلام بقية الطريق، أصوم عن الكلام لأن خيبة أملي فيه كانت كبيرة جدا، دخلت في حالة صمت لم يقطعها إلا صوت صليل من خلفي. التفت وليتني لم أفعل، التفت فرأيتها تنهمك في نصب سياج حول مقعدها حتى بات محاطا بسياج من أسلاك شائكة، عندما رأيت تلك الأسلاك شعرت وكأنها في حلقي وليست حول مقعدها، كنت سأقول لها لم هذه الأسلاك لكني خشيت أن اسمع منها ما لا يليق سماعه، ولو قلت لها ذلك وردت بما لا يليق فإن ذلك من حقها، ما شأني بها وقد تحطمت شراكتنا، فضّها هذيان لا سيطرة لي عليه.


قررت أيضا مقاطعة ما يجري، كل ما يجري، مقاطعة الأوتوبيس الطويل وكل من عليه، لن يشفي الصمت وحده غليلي بل سألغي سمعي وبصري أيضا كما أغلقت فمي، لا أسمع لا أرى لا أتكلم وليدم هذا الحياد السلبي مهما كان سلبيا، سأبتعد بكل حواسي عن كل شيء يحدث هنا وانتظر المحطة الأخيرة بهدوء ثم لنذهب جميعنا إلى الجحيم، اسندت ظهري على ظهر المقعد، نشرت ذؤابة عمامتي على وجهي، رميت على الجانبين ذراعيّ ودخلت في حالة استرخاء لم أدخلها من قبل، أغلقت عيني وفمي ودخلت في مقاومة مع أذني الأمّارة بالسمع، كانت أصواتهم تصلني مختلطة ببعضها وأنا أقاوم، قلت في نفسي: ليتني جلبت معي سدادة أو ليتني احتفظت بتلك السدادة في حادثة ذي الأنف العجيب.


كدت أن أغيب عمّا حولي بل غبت بالفعل، تحولت أصواتهم إلى طنين في بادئ الأمر ثم إلى هسهسة تكاد لا تبين ثم إلى صمت تام، اقتربت كثيرا من حالة الغياب الكامل لولا ذلك الصرير الفاجع الذي دفع بي لرفع ذؤابة عمامتي عن وجهي. كان صرير احتكاك مريع كأنما هو صليل حديد يحتك بحديد من جنسه، جلست، امتدت عنقي قليلا، رأيت القميء ذاته يجر سلكا شائكا على أرضية الأوتوبيس الطويل. صعقت، نظرت خلفي بسرعة خاطفة، نظرت إلى شريكتي السابقة وإلى سلكها الشائك، قلت يا إلهي إنها العدوى. تابعت القميء حتى طاف بالسلك الشائك حوله وحول فريقه، أقسمت لنفسي إنها الكارثة، لن نصل محطة الوصول إلا وقد تحول الأوتوبيس إلى حقول من الأسلاك الشائكة.


بدأت الأسلاك الشائكة تنتشر كما توقعت، انتشرت انتشار الكوليرا في مدينة تحت الحصار، كل بقعة من الأوتوبيس الطويل فيه حيازة ولكل حيازة سياج شائك. الفرقاء الثلاثة الذين طالبوا بتسريع الرحلة اتخذوا لهم أسيجة ثلاثة، لكل فريق منهم سياج من أشواك حديدية قاطعه، الفرقاء الثلاثة الذين عارضوهم اتخذوا لهم أسيجة ثلاثة لكل فريق منهم سياج من سلك شائك، هناك فرقاء آخرون اتخذ كل فريق منهم سياجا، وفعلها الأفراد أيضا، كثير منهم اتخذ سياجا، باتت الأسلاك الشائكة موضة، لكل فرد منّا سلكه الشائك. تحول الأوتوبيس إلى حقل معقد من الأسلاك الشائكة، لم يبق إلا القليل بلا سياجات وبلا أشواك، عندما رأيت الحالة كذلك قررت أن أتخلى عن الحياد السلبي، أتخلى عن حيادي دون أن أسمع أو أرى أو أتكلم، أنفصل عن الأوتوبيس الطويل شكلا والتحم معه موضوعا، قررت أن أكتب مذكراتي.


يقطع الأوتوبيس الان العشرة كيلومترات الأخيرة من رحلته، نحن إذن في آخر دقائق الرحلة، توقفت عن التدوين ووقفت في مكاني، ألقيت نظرة شاملة على الحالة في طول الأوتوبيس وعرضه، كانت حالة كئيبة مميتة ومؤلمة جدا تبعث على الرثاء، انتشرت محميات مسيجة يطبق عليها الصمت والوجوه الواجمة المنهكة، تباطأ الأوتوبيس والحالة على حالها، تباطأ حتى توقف، أدركت أنه قد بلغ منتهاه بعد ثمانين كيلومترا، سمعت صوت صريف من آخره، التفت نحو الصوت، كانت مؤخرة الأوتوبيس كلها بابا ينفتح شيئا فشيئا، الباب ينفرج شيئا فشيئا والأتوبيس في الوقت نفسه يعود للخلف شيئا فشيئا، توقف على حافة من ورائها حفرة عميقة وفي اللحظة التي توقف فيها عند حافة الحفرة اكتمل انفراج الباب الخلفي.


ازداد ركاب الأوتوبيس الطويل وجوما على وجومهم، بدأ الاضطراب يشتعل، سرت الشائعات بيننا تنتقل من فم إلى فم، تعطشت أسماعنا لكل كلمة تفسر ما يجري، استعصى عليّ وعليهم فهم ما يحدث. كنا ندرك منذ البداية أننا سنغادر هذا الأوتوبيس الطويل في آخر الأمر، طال الزمان أم قصر، نؤمن أن للرحلة نهايتها لكن أن تنتهي من الباب الخلفي فهذه مسألة أخرى. وبينما كنا نتشبث بمقاعدنا ونتلقف الشائعات من بعضنا؛ ارتفع الأوتوبيس فجأة، ارتفع من مقدمته فقط، استمر يرتفع ببطء شديد، ببطء قاتل، يعلو من مقدمته وكأن ذراعا هيدروليكية ترفعه للأعلى، ترفعه من المقدمة فقط. ذهل الناس وذهلت معهم، قال قائل منهم: نعرف منذ البداية أن للرحلة نهاية، نعرف أننا سنخرج من الباب الخلفي، لكن أن يتحول الأوتوبيس إلى شاحنة تفريغ قلّابة فهذه مسألة غريبة.


تدحرجت أشياؤنا الصغيرة أولا، تناثرت مثل كرات طائشة، سبقتنا إلى الحفرة على مرأى منا جميعا فتعالت أصواتنا. زاد ارتفاع المقدمة، بدأت أشياؤنا الثقيلة تتدحرج، ارتفع البكاء وبعض أصوات الاحتجاج، تزحلقت بعض لفّات من السلك الشائك وهوت في الحفرة. بأم عيني رأيت مقاعد تنخلع وتتزحلق وتهوي وعليها ركابها، اختلط الحابل بالنابل وساد ضجيج تتخلع منه القلوب. كان هناك من يبكي وهناك من يصرخ في وضع هستيري وهناك من يلعن الأوتوبيس الطويل القلاب. ارتفعت المقدمة أكثر، تدحرجت الرؤوس أكثر وتزحلقت المقاعد أكثر، أدركت أن طريقي للحفرة آتٍ لا محالة، سأهوي مثل بقية الركاب. وضعت نقطة في آخر السطر ثم جمعت أوراق مذكراتي وقذفت بها من الشباك القريب عسى أن يلتقطها بعض السيارة، تطايرت في الهواء خارج الأوتوبيس الطويل في نفس اللحظة التي انخلع فيها مقعدي، انخلع المقعد وانزلق بي، تشبثت بكل ثابت في طريقي وكلما أمسكت شيئا انخلع في يدي إلى أن هويت من الباب الخلفي نحو الحفرة الفاغرة.



* نقلا عن منتدى مطر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى